عبد الملك نوري والمسرح الفكري

عبد الملك نوري والمسرح الفكري

د.جميل نصيف التكريتي

بعد انقطاع عن الكتابة المسرحية دامت

اكثر من ربع قرن صدرت لعبد الملك نوري مسرحية “خشب ومخمل” عن دار الحرية للطباعة (1972) وفي هذه الفترة ايضاً نشرت له مجلة الكلمة مسرحية “القاذورات” وهي مسرحية قصيرة .

ولديه دفتر مسودة يضم بين دفتيه ثماني مسرحيات قصيرة كتبها المؤلف خلال الاشهر الثلاثة الاولى من العام 1972 نفسه. كان من حق المتتبع للادب العراقي بعامة وادب عبد الملك نوري بخاصة ان يجد في المسرحيتين المنشورتين مؤخراً وفي المسرحيات المخطوطة التي كتبت في الفترة نفسها ما يدل على حدوث تحول في مستوى الابداع المسرحي عند عبد الملك نوري تبرر انقطاعه عنه مثل هذه الفترة الطويلة بالنسبة لحياة المبدع ، وبعد ذلك التشخيص الصائب والدقيق لجوانب االضعف التي عانى منها ابداع المؤلف المسرحي.

سيكتشف من يقرأ مسرحيات عبد الملك نوري الاخيرة ان المؤلف مايزال حبيس عالمه الفردي ـ الشخصي الضيق ، وان بطله في معظم الحالات ، او قل ابطاله يمثلون مجموعة صور اخذت من زوايا ذاتية متنوعة لبطل واحد، وهذا البطل يذكرنا ببطل مسرحية الاستاذ رمزي بطل قصة “مأساة الفن” . كان يمكن لمسرحية “خشب ومخمل “ ان تبدو للوهلة الاولى استثناء من هذا الحكم العام. اما بطلها فهو شاه ايران السابق محمد رضا بهلوي الذي اخفاه المؤلف وراء قناع يحمل اسم الملك هيرام، واما بطولتها النسائية فتتقاسمها كل من زوجة الشاه ثريا التي اخفاها المؤلف وراء اسم نسرين، وزوجة الشاه الاخيره فرح ديب باسم وردة شاه التي حلت محل الزوجة السابقة بسبب الملابسات المتعلقة بانجاب ولي عهد يرث العرش.

وعلى الرغم من ان موضوع المسرحية يشكل في اهم خطوطه حقيقة تاريخية معروفة فان ذلك لم يمنع المؤلف من تحويل بطل المسرحية الملك بهرام الى واحد من ابطاله المهزوزين الفاشلين في حياتهم الزوجية المتهمين في رجولتهم المتسولين بالمخدرات او المسكرات لدفن همومهم. اما تظاهر هذا الملك بالقوة والقسوة في بداية المسرحية فكان مجرد قناع سرعان ما انكشف زيفه.

دودو بطل مسرحية “القاذورات “ المنشورة في مجلة الكلمة اوائل السبعينيات ،اديب فاشل مدمن على الخمر ويائس:

دودو: ماذا يمكن ان يكون انضج من كوننا احياء ولدنا كي نشقى ثم نموت لنمسي طعاماً للدور؟

ثم باطل الاباطيل . كل شيء باطل وقبض الريح. ما فائدة العمل ... الخ.

بطل مسرحية “القاذورات” امتداد لبطل قصة “مأساة الفن” حيث يعترف بنضوب عبقريته:

دودو”(يرمي القلم جانبا بحدة ويشرب) الشرارة انطفأة ، شرارة العبقرية لم تعد تضىء المسكين. ما العمل ؟ مات دوستويفسكي الوليد، مات قبل اوانه،مات بين القاذورات ... ان بطل المسرحية متهم برجولته وتتهمه زوجته بالجبن وانه من اولئك الناس “ الذين يعشقون انفسهم” وانه لا يفكر بالاخرين ولايعمل من اجلهم وانه امضى كل حياته في خدمة نفسه فقط وانه لم يفهم يوما ما هي الحياة ... وانه سكير فاشل ...الخ

بامكان الباحث ان يوزع عبد الملك نوري، القصصي منه والمسرحي على مجموعتين : احداهما تكون ، السياسي الى العالم ، اما الاخرى فتكون ، بهذه الدرجة او تلك ايضا ، الصدق بحياة الاديب الداخلية ،بالرؤى والاحلام والكوابيس النابعة من اعماق روحه، ومن لا وعيه من عالمه العاطفي والشعوري. ينطبق ذلك على مسرحيتي عبد الملك نوري المنشورتين في مطلع عقد السبعينيات : “ خشب ومخمل”، و “القاذورات “ فمع كون المسرحية الاولى تكون اقرب الى الخط الاول من حيث السمات الخارجية لموضوعاتها الا ان النشيد الداخلي لعوالم شخصياتها الروحية والعاطفية والنفسية يشكل ممرا خفيا يربطها بمجموعة الخط الثاني. وبالعكس فمسرحية القاذورات الصق بخط المجموعة الثانية، ذلك ان الرؤيا الفكرية ـ السياسية للمؤلف شكلت اطاراً جسم وابرز كل سلبيات البطل السلبي عند عبد الملك نوري : الخور ، العقم ، السلبية، الادمان على المسكرات..الخ

سبق ان اشرنا الى ان لدى عبد الملك نوري ، دفتر مسودة يضم ثماني مسرحيات قصار كتبها خلال الاشهر الثلاثة الاولى من عام 1972 وهذه المسرحيات هي : ـ “ النصب العظيم” و “محكمة” و “سيزيف” و”البغل واللص” و “الليلة بدأ الربيع” و”انا انسان” و “لعب الاطفال “ و “سلطان” وهذه المسرحيات هي الاخرى تتوزع على مجموعتين : تستمد الاولى مواضيعها من افكار الكاتب السياسية المباشرة فجاءت شخصياتها اقرب الى رموز المسرحيات الاخلاقية في القرون الوسطى ، سيما في مسرحية “البغل واللص” واقل اقرب الى “الروبوت” و “انا انسان” اما المجموعة الاخرى فتغور موضوعاتها بدرجات متفاوتة طبعاً ، في اعماق الا اللا وعي الشخصيات وعقدها النفسية، واحباطاتها، وهزيمتها امام قوة القوى الخارجية ، الى هذه المجموعة تنتمي كل من مسرحية “محكمة” و “لعب الاطفال” و “الليلة بدأ الربيع “ الى حد ما. اما مسرحية “سيزيف “ فكان بالامكان ان تتحول لو توفرت لها العناية الكافية من المؤلف، الى مسرحية تمجيد رائع لصمود الانسان النبيل المدافع عن حقه في تحقق سعادة الحياة على الارض ولكن قوى القهر والقسر والقمع والانانية تصادر هذا الحق. غير ان المعالجة كانت مبتسرة فبدأ لنا بطل المسرحية اقرب الى المستسلم الخائر المتشائم والعبثي. في المسرحية عدد من الثيمات الصغيرة توزعت على امتداد المسرحية الصغيرة،لو توفرت لها معالجة مناسبة، لو اشبعت معالجة فكانت مسرحية من نوع اخر.

لي ملاحظة على مخطوطة الاديب عبد الملك نوري، ان هذه المسرحيات قد كتبت كما يبدو ، على عجل وانها تقدم اكثر من دليل على ان الاديب لم يضع في حسابه امكانية عرض هذه المسرحيات على المسرح. ان مسرحية مثل “النصب العظيم” قد تجاز من اجل الطبع لكن لايمكن ان تجاز للعرض على المسرح. ينطبق ذلك على مسرحية “رسل الانسانية” التي تنتمي الى المرحلة الاولى من ابداع المؤلف، اما المسرحيات الاخرى فلا تسلم في معضمها مما يشكل عائقاً يحول دون التفكير بتقديمها على خشبة المسرح.

من بين العوامل الاخرى التي تقلل من اهمية الجهد الذي يبذله كتاب القصة في ميدان المسرح اصرارهم على كتابة المسرحية الصغيرة مما يحول دون تطوير ادوات ابداعهم اللازمة لتناول العالم من زاوية درامية. ارجو ان نجد في وقت قريب بين ايدينا ثماراً حقيقية من الابداع المسرحي ذي الحجم الكبير الذي يفجر طاقات الاديب من ناحية، ويكون قادراً على معالجة القضايا الكبرى في حياتنا العامة من الناحية الاخرى.

هذا تناول سريع للابداع عند عبد الملك نوري اريد له ان يكون تعريفاً عاماً ومدخلاً الى دراسة تفصيلية نرجو ان تساعدنا الظروف على انجازها لتاخذ مكانها الى جانب الابداع المسرحي لعدد اخر من الادباء العراقيين.

مجلة الاقلام تشرين الاول 1989