في ذكرى رحيله في 27 تموز 1997..الجواهري في البلاط الملكي

في ذكرى رحيله في 27 تموز 1997..الجواهري في البلاط الملكي

عباس غلام حسين نوري

استقال الجواهري المعلم في وزارة المعارف حلا للأزمة المستعصية مع مدير المعارف العام ساطع الحصري في الثالث من مايس عام 1927 لما لاقاهُ من مشاكل من جراء تعيينهِ في التعليم والأزمة التي نشبت بين الوزير ومدير المعارف ، فكانت محطتهِ القادمة في بلاط الملك فيصل الأول ، فقد توسط السيد محمد الصدر لدى الملك ،

اذ صحبهُ «الجواهري» الى البلاط ليعّرفهُ به وبعد اسبوع أو أكثر بقليل استدعى الملك الجواهري ليعينهُ موظفاً في دائرة التشريفات للبلاط الملكي وهكذا أنتهت فصول الازمة التي عكست صراعاً سياسياً بين الجواهري والحصري وهي ليست أزمة وظيفة كما يبدو ، فالحصري يمثل تياراً قومياً متشدداً والجواهري يمتلك نزعة وطنية مشوبة بالتقدمية وهذا ماجعَل الخلاف حاداً ومزمناً بين كليهما .

فرحَ الجواهري فرحاً عظيماً بالوظيفة الجديدة بعد الذي جرى لهُ مع الحصري وحملهِ على الاستقالة من التعليم آخر الأمر ، يقول الجواهري «ففي تلك الساعة أحسستُ أن الأرض تهتز تحتي فرحاً ، لاحباً بمال اوجاه أو بمنصب بل شعوراً بالكرامة ، ها هو الرجل الذي كانَ صاحب اليد الأولى في استرداد كرامتي التي أرادت الذئاب تجريحها» .

مما لاشك فيه ان الجواهري في بداية عملهِ في البلاط الذي لم يألفهُ سابقاً ولم يخطر على بالهِ ، فضلاً عن قلة خبرته في العمل المنوط به وهو معاون مدير التشريفات والتقائهِ بأكبر نخبة سياسية مرت على العراق وهي الدولة الفتية ، عُرفَ من قبل الملك بـ «شاعر البلاط» وأغدق عليه من النعم بقدر ما كانت تسمح به الأمور المالية للدولة الفتية في تلك المدة وأحاطه بالتكريم والتبجيل وقال لهُ أكثر من مرة وهو يحثهُ على ممارسة عملهِ بشكل جيد «ولدي محمد وظيفتك جسر تعبر عليه الى ما هو أحسن وأفضل» .

ألتقى الجواهري في بلاط الملك بالسياسة ورجالها أول مرة وجهاً لوجه ورأى «الدجل والتزلّف والنفاق من المرتادينَ للبلاط» ولكن هل يرضى طموح الشاعر بهذهِ الوظيفة مهما بلغ من مكانة لدى الملك ، كان الجواهري في ذلك الوقت يطمح الى النيابة والوزارة ، فهل يستطيع أن يواصل وظيفتهُ في التشريفات راضياً قانعاً ، مع ان وظيفته في التشريفات تقيد لسانه في لهوهِ وجدهِ على حدٍ سواء فكيف التوفيق بين طموحهِ ووظيفتهِ هذه.

وعلى صعيد آخر وخلال مدة دخولهِ البلاط الذي ظل فيه ثلاث سنوات تغيرت حياة الجواهري ، وبدأ بالتغيير في ملبسهِ فخلع لباسهِ الديني وأرتدى الزي الإفرنجي «لباس الأفندي آنذاك» وتزوج من أبنة عمهِ جعفر الجواهري عام 1928 . ولم يذكر بأسمهِ الصريح عند نشر القصائد التي تخرج من محيط البلاط والحكومة وما يتصل بها انسجاماً مع طبيعة وظيفته ، ولكن هذا لايمنع الجواهري عن الولوج في المعتركات الصعبة اذ توافرت لديهِ القناعات الكافية ، فعند افتتاح اول مدرسة للبنات في النجف التي عارضها بعض علماء النجف بوصفها إنقلاباً اجتماعياً لهُ صدى اجتاح المدينة فقد كتب الجواهري قصيدته «الرجعيون» في إحدى الصحف اليومية صب فيه جام غضبهِ على المعارضين فتوالت البرقيات الى الملك فيصل من علماء الدين ، فاستدعاهُ الملك في ضوء الرسائل والبرقيات التي جاءت الى الملك من شخصيات نجفية وعلماء الدين في شان هذهِ القصيدة والذي يبدو أنه كان مصراً على موقفهِ ومؤمناً بما ذهب اليه في قصيدته هذه. نشرت القصيدة في جريدة العراق في العدد 2851 في 26/آب/1929 تحت عنوان القصيدة الجواهرية وتأملهم بوصوله الى مصاف الكبار من الشعراء ، ولم تكن هذه القصيدة الوحيدة التي كتبها الجواهري عن هذا الموضوع بل هناك قصيدة أخرى بعنوان «علموها» تأييداً لفتح مدرسة للبنات .

وعندما ألفت الوزارة السعيدية الأولى في الثالث والعشرين من آذار سنة 1930 ، وبعد يوم واحد من هذا التأليف أصدر نوري السعيد الإرادة الملكية من الملك بحل مجلس النواب لأنه «أي نوري السعيد» كان يخشى أن لايستطيع مواجهتهُ في موضوع المعاهدة الجديدة مع بريطانيا التي تَقرَرَ المباشرة بالتفاوض لعقدها منذ الأيام الأخيرة لعهد الوزارة السعدونية الرابعة التي أنتهى وجودها بانتحار عبد المحسن السعدون .

بدأت الوزارة السعيدية الأولى تعد العدة لعقد المعاهدة الجديدة أستمراراً للمعاهدة السابقة مع بريطانيا ، ويبدو أن نوري السعيد كان محبذاً لأصدار جريدة يتولى الجواهري رئاسة إدارتها وتحريرها بأسم «الفرات» لتقف الى جانب الوزارة وتدعم موقفها في عقد المعاهدة الجديدة (أي معاهدة 1930 المعروفة) ، ويروي الجواهري أنه التقى رئيس الوزراء السعيد في المنتدى الأدبي للسيد «محمود الدفتري» وشجعهُ السعيد على إصدار الجريدة وماهية الإجراءات التي ستتخذ لهذا الغرض وأنهُ «: رأى الجواهري” قد اقتنع بذلك رغم تحذير ياسين الهاشمي المعارض للسعيد له من هذهِ الخطوة وتحذيره من خداع رئيس الوزراء له ، واعتقد أن موافقة الجواهري جاءت لأسباب ذاتية وهي الشهرة والبروز في عالم الصحافة من جهة ، وأن وجودهِ على رأس جريدة تدعمها الوزارة سيحقق له مكاسب مادية من جهة ثانية .

أشار الجواهري في أكثر من مناسبة في المدة التي سبقت إصدارهِ جريدة الفرات الى رئيس الوزراء بشأن المساعدة المالية ليتمكن من أصدار جريدته مما دفع رئيس الوزراء الى إتخاذ موقف يعدُ من المواقف الغريبة يعهده من رئيس سابق وهو أن نوري السعيد أصدر كتاباً الى المتصرفين في الألوية العراقية : بمساعدة جريدة الفرات ، فانهالت عليه من الأشتراكات والتحويلات التي ازدادت على الحد المطلوب حتى بعد إغلاق الجريدة إذ بقي يعيش منها الجواهري مع أهل بيته . وفضلاً عن هذا الدعم المتواصل ابتداء بمنحهِ أمتيازاً بإصدار الجريدة ، كانت هناك مبالغ قد تلقاها الجواهري من وزارة السعيد ويفيد هنا أحد المقربين للجواهري في السلك الصحفي أن الوزارة قد منحت الجواهري مبلغاً قبل الإصدار يربو عن اربعمائة روبية وعدتها دفعة أولى .

تقدم الجواهري بطلب الى وزارة الداخلية لإصدار جريدة الفرات فلم تمانع الوزارة من إجابة هذا الطلب بيد أنها اشترطت عليه أن لايكون موظفاً وصاحب جريدة سياسية في آن واحد ، فسارع الجواهري الى تقديم استقالتهُ من البلاط وكان آنذاك قد شغل منصب معاون لمدير التشريفات الملكية في البلاط الملكي كما سبق ذكرهُ ، وعندما علم الملك بذلك أرسل عليه مشيراً إلى أنّ الصحافة ليست بعيدة عنه وأنه راغب بارسالهِ في بعثة الى باريس للدراسة ناصحاً إياهُ بالتريث، اذ دار حوار بينهُ وبين الملك فيصل الأول بقول الأخير مشيراً باللهجة العامية الدارجة الى نوري السعيد رئيس الوزراء الذي شجعهُ على الاستقالة ، فكان جواب الجواهري بأنه يحب العمل الصحفي .

عن رسالة (محمد مهدي الجواهري ودورهُ السياسي في العراق)