الأرضُ اليباب في معاصرة ما بعد الحداثة

الأرضُ اليباب في معاصرة ما بعد الحداثة

موج يوسف

قد يستغرب القارئ من العنوان الّذي وضعته ، فما المناسبة منه والكلّ يعلم أن ملحمة إليوت الشهيرة ( الأرض اليباب)

قد نُشرتْ في عام 1922 وتمّتْ ترجمتها إلى العربية من قبل فرسان الشعر العربي ( أدونيس ، يوسف الخال ، توفيق الصايغ ، عبدالواحد لؤلؤة ..) فبعد هذي الترجمات الا يكفي أن نسلّم بها؟ ولماذا الاهتمام الكبير بهذه القصيدة ؟ وما علاقتها بما بعد الحداثة؟ للإجابة عن مثل هذه التساؤلات :

بما صدر مؤخراً عام 2021 عن دار المدى هو ترجمة جديدة لأرض اليباب بعنوان ( الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني) للشاعر والمترجم العراقي فاضل السلطاني . القارئ للترجمة الحديثة يرى أن المترجم قد أخذ دوره الشعري والأكاديمي أيضاً في البحث عن المرجعيات الثقافية في قصيدة ، كذلك الوقوف عند أخطاء المترجمين السابقين بكلّ موضوعية ، وهذا تطلب مغامرة من المترجم ، وتسلح بأدوات معرفية وثقافية عالية ، وقد ذكر في التقديم قائلاً (( وأخيراً ارتأينا أخذاً بنصيحة إليوت أن تقدم القصيدة نفسها ، وأن يقرأها القارئ العربي ، ويكتشف عوالمها الخاصة بنفسه .. بالإضافة إلى فصل مترجم عن تناص قصيدة إليوت مع النص التراثي شعراً ونثراً ، وفلسفة ليتعرف القارئ العربي على مصادر القصيدة الأساسية)) ، بهذه السطور نكون قد أجبنا القارئ عن الساؤلات المسبقة ، ونؤجل إجابة السؤال عن علاقة العنوان بما بعد الحداثة ، فهناك سؤال أخر يتطلب طرحه عن الترجمة : وهل الأولوية للشعريّة أم للأمانة فقط ؟ تبدو وجهة نظرنا المتواضعة إن الشعريّةَ ضروريةٌ ولازمة ؛ كي يتمّ تجنب الترجمة الحرفية والقاموسية ، وهذا ما وقع به بعض المترجمين في القسم الأول من القصيدة بعنوان ( دفن الموتى) فيرصد المترجم السلطاني أخطاء الترجمة القاموسية ومنها what are the roots that clutch التي ترجمها د. فريد بشكل متناقض مع المعنى الأصلي : ما عسى هذه الجذور المنتفضة . ويذكر الترجمة الصحيحة لعبدالواحد لؤلؤة : الجذور المتشبثة ، بينما وقع في الخطأ القاموسي هو د. فريد وهذا ما نبهنا عليه المترجم فاضل( أن ترجمة د. فريد مليئة بالجمل المقعرة القاموسية التي لا تعكس المعنى الصحيح في أحايين كثيرة ، ليس في أرض اليباب وأنما في ترجماته لمعظم قصائد إليوت). في حين نرى أن المترجم ينبه إلى خطأ أخر في المقطع ذاته عند قول إليوت Aheap of broken images .عندما تمت ترجمته من قبل لؤلؤة إلى (كومة من مكسر الأصنام) ولويس عوض إلى مهشم الأوثان ، واليوسف كومة من الأوثان المهشمة ، وقد ذكر المترجم فاضل أن هذه الترجمات بعيدة عن روح النص وقد أقحم المترجمون ثقافتهم الإسلامية على نص و ابن ثقافة أخرى لا تعرف الأصنام أساساً وكان يمكن بكل بساطة ترجمتها بـ : كومة صور مهشمة ، ص 75 . فهذه الإلتفاتة مهمة من قبل المترجم فهي تنبه إلى أن المعرفة بثقافة الأخر ضرورية في الترجمة ، كذلك أن لفظة الأصنام هي لفظ إسلامي جاء بعد ولادة الدين الأخير ، بالرغم من أن المترجم لم ينظّر للترجمة مسبقاً لكن إجراءه التطبيقي على النصوص هوبمثابة تنظّير لمن يقبل على ترجمة الشعر في المستقبل .

وننتقل إلى الشق الأخر من الكتاب هو مرجعيات القصيدة التي بينها المترجم أنها نابعة من التراث الإنساني ، فضلاً عن أحداث أثرت بالشاعر نفسه ، فعن ( الليلك .. مازجاً الذكرى والرغبة ) يذكر ( كتب إليوت من فرنسا عام 1910 أريد أن اعترف أن استعادتي للأحداث الماضية قد تأثرت بحدث عاطفي ذكرى صديق جاء عبر حديقة لوكسمبورغ في مساء متأخر وهو يلوح بأزهار الليلك .. ) ص 124 ، غير أن المترجم السلطاني يتعمق أكثر ويعيد هذا النص إلى تناص من الشاعر والت ويتمان ولشاعر أخر جميس تومسون ، وعن العودة إلى ما بعد الحداثة وأرض اليباب نرى أن اهتمام إليوت بالموروث الإنساني وتوظيفه بملحمته ليس من باب العودة إلى الماضي ، وأنما من قبيل الجنوح إلى الحاضر والمستقبل متخطيّاً جغرافية الحدود ، معززاً ثقافية الهويّة لأنَّها الوحيدة تكون مترحّلة فيما وراء الحدود ، والدوام فقط للإنسان بعيد عن كل هويّاته الأخرى الدينية والعرقية والمذهبية وغيرها وهذا ما اهتم به إليوت ، فضلا عن الخلود الدائم للقصيدة ، وهذا ما جعلها بعد قرن كامل تعاد مرة أخرى وبترجمة أخرى أكثر دقة ، ويمكن القول بعد قراءتنا لهذي الترجمة الفاحصة إنها ستكون هي المعتمدة عند قراءة القصيدة أو دراستها .