مفكر وثوري روسي من عائلة تعمل بالزراعة في أوكرانيا.. ليون تروتسكي  قصة مأساوية طويت قبل أن تكتمل

مفكر وثوري روسي من عائلة تعمل بالزراعة في أوكرانيا.. ليون تروتسكي قصة مأساوية طويت قبل أن تكتمل

هلال الحارثي

تطلب مني تناول الحديث عن شخصية “ليون تروتسكي” البحث الموسع في بطون العديد من الكتب والمراجع بين مكتبات موسكو وسانت بطرسبورغ (عاصمة روسيا القديمة) لما تحتويه هاتان المدينتان العظيمتان من مكتبات عظمى تكتنز أمهات الكتب والمراجع والمصادر النادرة، وسؤال المفكرين والباحثين والمهتمين بالشأن الروسي. ولم يدفعني لاستعراض صفحات حياته شيء أعظم من كاتب بولندي من خلال رواية جاءت في ثلاثة أجزاء وهذا الأمر جعلني أعقد العزم على مزيد من البحث والإصرار.

ولقد كانت أفكار ليون تروتسكي كأفكار الزعيم الشيوعي “لينين” الذي عرف بمنظّر الشيوعية في روسيا وفي العالم. وقائد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا، كما شكل كل منهما جزءا هاما من أفكار الأمة السوفييتية وإيديولوجيه متكاملة لدول عدة، ولمعسكر اشتراكي حتى وقت قريب عندما انهار الإتحاد السوفييتي. ومع ذلك فما زالت أفكاره وآثاره ومؤلفاته تشغل بال العديد من الباحثين في إيديولوجيه الاشتراكية العلمية والفكر السياسي المعاصر. كما أن الرأي العام الروسي يتباين وينقسم إلى قسمين حوله، حتى الكتاب والمفكرين والمؤلفين على فريقين عندما يتناولون الحديث عنه منهم من يصفه بالمناضل ومنهم بمن يصفه بالثوري الخائن. وخير دليل على ذلك نفيه وطرده من بلاده أكثر من مرة بتهمة الخيانة والتجسس، إلى أن تمت ملاحقته وقتله في المكسيك. وفي المقابل تقرأ كتبا ألفت عنه حتى بعد رحيله والتي وصفته بالمفكر والمناضل حتى أن الكاتب البولندي (إسحاق دايوتشر) كتب عن سيرة حياته رواية جاءت في ثلاثة أجزاء كما أن سمعته بالخارج أكثر من روسيا بدليل ظهور ثورات في عدد من بلدان أوروبا باسمه “الثورة التروتسكية”. كما تتوفر العديد من آثاره وكتبه حتى الآن في مكتبات موسكو.

وليون تروتسكي هو ليف دافيدوفيتش برونشتاين المولود في مقاطعة “خريسون” في أوكرانيا يوم السابع من أكتوبر عام 1879من عائلة تعمل في الزراعة، مرت حياته بالعديد من المحطات ما بين النفي والانضمام إلى الأحزاب المعارضة وتأسيس الاتحادات والاعتقالات والتظاهرات والهرب بين بلاد العالم خوفا من الاعتقال - ولو المقام يسمح لنا بالتفاصيل لأسهبنا في وصف هذه المحطات المليئة بالعديد من المواقف الصعبة التي واجهها خلال حياته - ولعل الفرصة تسنح لنا في أعداد قادمة في الخوض والتوسع في البحث في طيات هذه الشخصية.

ويأتي في نهاية هذه المحطات وضمن الحملة السوفيتية للقضاء عليه وعلى أسرته ذهب ابنه الأصغر (سيرجي) ضحية حملة تصفية واسعة في الاتحاد السوفييتي استهدفت أتباعه وعوائلهم.ومات ابنه الأكبر (ليون) في فبراير عام 1938في باريس، وتمكن رجال “منظمة الشرطة السرية” السوفييتية من تصفية كل أفراد أسرته وأتباعه وعوائلهم في أسبانيا وفرنسا وسويسرا. وفي عام 1940م قام رامون ميركادار “جاكسون” باغتياله في منزله في المكسيك. بينما كان على وشك الانتهاء من كتابة “سيرة حياة ستالين”. هذا ورغم المآسي الشخصية المدمرة التي عاشها هو ذاته، والتي لا تنفصل بتاتا عن المأساة العامة لقوى الثورة في مرحلة تاريخية كاملة، إلا أنه كان يحمل تفاؤلا، هذا التفاؤل فسَّره “دويتشر” في الفصل الأخير (الانتصار في الهزيمة) بقوله إن تروتسكي كان يطبق المقياس التاريخي الكبير على الأحداث وعلى قدره الخاص به، معتبرا أنه حين يتعلق الأمر بالتغييرات الأكثر عمقا في النظام الاقتصادي والثقافي، فإن 25عاما تزن في التاريخ أقل مما تزن ساعة في حياة إنسان، كما أنه إذا قيس ما أنجزه المجتمع السوفيتي، بهذا المقياس، فهو لا شك بداية متواضعة جدا لكنها تبرر الثورة والتفاؤل الأساسي حيالها وتبدد الضباب الكثيف للإحباط واليأس. كما أنه قد عبر عن هذه الرؤيا المشرقة لمصير الإنسانية في وصيته بالذات، التي خطها قبل أشهر من مصرعه في منفاه بالمكسيك، والتي اختتمها بهذه الكلمات: وصلت “ناتاشا” لتوها من الساحة إلى الشباك وفتحته على مصراعيه كي يدخل الهواء بحرية إلى غرفتي. أستطيع أن أرى الرقعة النّيرة الخضراء من العشب تحت الجدار والسماء الصافية الزرقاء فوقه، وضوء الشمس في كل مكان. كما قال: الحياة جميلة، فلتنظفها الأجيال القادمة من كل شر، ومن كل اضطهاد، ومن كل عنف وتستمتع بها كليا. أيضا نرى أن تفاؤله هذا، والذي تطور إلى رؤيا شعرية مفعمة بالضوء، ربما بلغ درجته المثلى في الكلمات الأخيرة التي نطق بها، وهو يلفظ أنفاسه: تشبه حياة “تروتسكي” واحدا من تلك القبور المصرية القديمة التي يعرف الناس أنها ضمت في الماضي جثمان رجل عظيم ورواية منجزاته المحفورة على ألواح من ذهب، إلا أن لصوص مقابر ومخربي آثار عاثوا في الضريح فسادا وتركوه فارغا وموحشا إلى درجة أنه لم يعد ثمة أثر واحد للألواح التي كان يتضمنها سابقا.

عن جريدة الرياض