من التاريخ الجنائي في العراق مقتل موظف مالي كبير سنة 1937

من التاريخ الجنائي في العراق مقتل موظف مالي كبير سنة 1937

مهند جميل العنزي

كانت حادثة اغتيال مدير الأملاك والأراضي الأميرية العام (عبد القادر السنوي),على يد أحد الضباط ويدعى (محمود أحمد جودت) من الاحداث الجنائية التي كان لها الصدى الكبير في الاوساط السياسية والحكومية في وقتها، فقد نعت الحكومة وفاته ببيان رسمي،

وكان من الشخصيات القانونية الكبيرة إذ تقلد عدة مناصب قضائية لعدة سنوات من بينها عضوية في مجلس الانضباط العام ، صادف أن عرضت على ذلك المجلس قضية تقاعد تعود للضابط محمود أحمد جودت ، ويظهر أن السنوي وجه إلى صاحب القضية أثناء المرافعة بعض الأسئلة مما أثارت غضب محمود أحمد جودت ، الأمر الذي دفعه إلى اغتياله في 26مايس 1937 وأحيل على أثرها إلى المحكمة الكبرى في بغداد في 29 مايس 1937 ، فأصدرت قرارها بعد محاكمة سريعة بالإعدام شنقاً .

بعد ذلك أرسل الحكم إلى محكمة التمييز لمعرفة رأيها وطلب المدعي العام إقرار القرارين لموافقتهما للقانون.

وكانت تلك القضية والحكم موضع استغراب لدى بعض الشخصيات العامة، إذ إن محاكمة المتهم تمت في غضون ثلاثة أيام الى درجة لم يستطع المتهم الدفاع عن نفسه أمام المحكمة أو وضع محامي دفاع ، فاحتجوا عليه بدعوى أَن القاتل مصاب بالجنون ، وقدم أهل الجاني إلى المحكمة لائحة بينت حالته الصحية وأنه مصاب بالجنون وأستندت إلى بيانات المستشفى ، ولكن تلك اللائحة قدمت بعد تاريخ قرار المحكمة الكبرى بعد ذلك قررت المحكمة بالأكثرية الامتناع عن إقرار الحكم وإعادة الأوراق إلى المحكمة الكبرى في بغداد لإجراء المحاكمة مجدداً على أن يبقى المتهم موقوفاً إلى أن تظهر نتيجة المحاكمة وعلى ضوء تلك المستجدات أصدرت المحكمة قرارها بوضع الجاني تحت المراقبة الصحية وانتظار تقرير اللجنة الطبية ليصدر الحكم على أساسه , فاعترض عضو محكمة التمييز علي محمود مخالفاً قرار محكمة التمييز الأول القاضي بوضع القاتل تحت المراقبة الصحية للأسباب الآتية :

(1) أن المحاكمة التي جرت أمام حاكم الجزاء وأمام المحكمة الكبرى وكذلك التحقيقات الابتدائية التي قام بها حاكم التحقيق كلها جرت على وفق الأصول .

(2) أما من حيث الادعاء بإصابة المتهم بالجنون وعدم استجماعه لقواه العقلية ، فلم يرد لتلك المحكمة من الوثائق ما يسوغ صحة تلك الأَعذار , فكل ما ورد إلى تلك المحكمة من الوثائق بهذا الصدد , هو لائحة مقدمة من عم المتهم , وبرقيات متعددة من أهالي الشمال , وليست تلك من الوثائق التي يمكن الأخذ بها , وإنما هي مجرد أدعاء بجنون المتهم ما لم تشفع بتقرير طبي أو بوثيقة صادرة من مقام ذي اختصاص تؤيد بان المتهم حين اقترافه تلك الجريمة كان غير مالك لقواه العقلية , أما اِنه كان قبل سنوات عديدة قد أعتراه مرض عصبي , وانه كان قد أدخل المستشفى , وحاول الانتحار غير مرة , فتلك على فرض صحتها لا تستلزم أصابته بالجنون حين اقترافه الجريمة بعد أَن ثبت شفاءه منها , كما لم تثبت عاهته حين اقترافه الجريمة , كذلك لم يثبت أَنه كان مجنوناً أو غير مالك لقواه العقلية بعد ارتكابه جريمة القتل , وأَثناء أجراء التحقيق معه أمام المحقق أو أمام محكمة الجزاء والمحكمة الكبرى لأنه لو كان شيء من ذلك القبيل للفتت المحكمتان نظر محكمة التمييز إلى تلك النقطة على الأقل , إذا لم تقرر قرارات من شأَنها أَن تحقق تحقيقاً واسعاً فيها , ومع كل ذلك فلا المتهم ولا أصحاب البرقيات استطاعواً أَن يقدمواً تقريراً طبياً واحدا يبين حالة المتهم العقلية , لا أثناء محاكمته , و لا خلال المدة التمييزية التي هي خمسة عشر يوماً وهي مدة كافية لاستحصال مثل ذلك التقرير , لو كان في ادعائهم شيء من الصحة , كما أَنه لم يرد شيء من أولئك يستدل منه على انه كانت قد حصلت منهم مراجعات للأطباء وللجهات القانونية المختصة لاستحصال تقارير تؤيد ادعاءهم ولم تلبِ مراجعاتهم , او امتنعت تلك الجهات القانونية من تلبية الطلب ، فكل ذلك يدل على أن الأَدعاء مجرد قول خال من الصحة ، ولا يمكن الأخذ به قانوناً .

(3) إن وقائع الدعوى وحالات المتهم قبل ارتكابه الجريمة و ما بعدها مما يثبت عكس ادعاء عمه و أصحاب البرقيات ، أي أنها تثبت صحة عقله واستجماعه شعوره وذلك :

(أ) لاُنُّ المتهم قبل الحادث بيوم واحد كان يترافع في قضية تقاعدية أمام مجلس الانضباط العام المؤلف من كبار موظفي الدولة ومنهم من له اطلاع واسع في القانون ووقائعه , ولم يشاهد أولئك الموظفون الكبار من المتهم ما يمكن أَن يستدل منه أنه كان غير مالك لقواه العقلية , وقد ثبتت تلك الجهة من كتاب رئيس التدوين القانوني ومن اِفادته أمام المحكمة .

(ب) في ليلة الحادثة كان مدعواً في دار الشاهد علي كمال , ولم يكن في حالة فقدان عقله , فلو كان كذلك لبين الشاهد تلك الحالة ,و إنما بالعكس فان الشاهد قد شهد بأَن المتهم كان متأثراً من المجني عليه, لأنه كان يدعي بان المجني عليه كان يلقي أسئلة أثناء مرافعته فهم منها أَنها كانت ضده وليس في صالحه , فشخص له قوة تمييزية اِلى هذه الدرجة ويقبل الدعوة ويتسامر مع الناس , لا يمكن أن يكون مجنوناً.

(ج)إن كيفية إيقاعه الجريمة مما تؤيد أنه كان مالكاً لعقله ومحكماً لتدبيره لأنه نظراً لإفادة الشهود التي يؤيدها الواقع , كان يترصد المجني عليه صباح يوم الحادث , وهو في شرفة وزارة المالية , ولما شاهد المجني عليه نزل من سيارته وصعد السلم الواقع في الجهة اليمنى نزل المتهم من ذلك السلم فتلاقى مع المجني عليه , وذلك تدبير محكم يدل على عقل وبرودة أعصاب وتصميم على ارتكاب الجريمة ,فكل تلك الأسباب تدل على صحة عقله بدرجة من القوة لا يمكن أن تؤثر فيها التقارير الطبية لأنَّ التقارير الطبية وإفادات الخبراء لا تتعدى قوتها قوة شهادة الشاهد.

بعد مرور شهرين على وضع المتهم تحت المراقبة الطبية أظهرت النتائج عدم إصابته بالجنون ، فأصدرت المحكمة قرارها في 21 أيلول 1937 بإعدامه شنقاً وقد أبرم الحكم تمييزاً ونفذ صباح 20 تشرين الثاني 1937.

عن رسالة : علي محمود الشيخ : حياته ودوره في تاريخ العراق