الخلفية التاريخية لموروث بغداد المعماري

الخلفية التاريخية لموروث بغداد المعماري

د.صباح العزاوي

إن الغالبية العظمى من العمارة التاريخية المتبقية في بغداد هي في الواقع من المباني العثمانية والعمارة العثمانية تعود في تطورها الى عناصر تصميم العمارة السلجوقية المبكرة المتأثرة الي حد كبير بفنون العمارة الايرانية والبزنطينية والى تقاليد تقنيات العمارة المملوكية الاسلامية ذات الفضاء الداخلي الواسع المغطى بالقباب.

إن تأثير العمارة العثمانية على عمارة بغداد كان محدوداً نسبيا ً ويكاد يلاحظ حصراً في عمارة المساجد. حيث قد تم الاستعاضة عن تصميم مخطط الساحة العربي التقليدي باعتماد الفضاء بالذات وذلك من خلال استحداث فضاء مركزي للصلاة مغطى بقبة . إن التأثير العثماني في عمارة البيت البغدادي كان طفيفا ً جداً فقد اسنمر كلّ من الطابوق والخشب كمادتي البناء الرئيستين في البيت التقليدي ولم يتجاوز التأثير العثماني عليه سوى الزيادة في استعمال الخشب في الطابق الثاني مع إدخال عنصر التزيين بالأزهار الى جانب مواصلة نمط التزين والتجميل العربي ذي الأشكال الهندسية . إن العمارة البغدادية مثل عمارات كل حضارات وادي الرافدين السالفة ذات طبيعة هشة عناصرمكوناتها الرئيسه هي الطابوق المصنوع من مادة الطين المفخور والجص والنورة والقير والخشب المحلي والخشب وذات النوعية الجيدة في الغالب يجلب أما من شمال العراق او يستورد من الهند وبلدان شرق آسيا . وعليه فإن مقاومة تلك المواد للعوامل البيئية تكون ذات طبيعة متدنية.

في العصور السابقة كان للمهارات والحرفية المهنية التي قد تطورت وترسخت لدى البنائين البغداديين والعراقيين في العهد العباسي القابلية والمهارة على العمل بنجاح قل نظيره على إدامة هيمنة مفردات المنجز المعماري للحضارة العربية / الإسلامية والمحافظة على مشهد مدينة بغداد الحضري وكذلك تمكنت من الحفاظ على شكل وهيئة عمارتها وإبقاء ملامح وعناصر العمارة العباسية حيه لفترة طويلة من الزمن.

نهاية عصر الانحطاط:-

بغداد بعد أن اجتاحها هولاكو في عام 1258 ميلادية دخلت مرحلة إنحطاط حضاري استمر لما يزيد على أربعة قرون و بات التطوير والتعمير فيها أمراً نادراً جداً وقد دام هذا الجمود حتى تولى إدارة ولاية بغداد عدد من الولاة الأصلاحيين على رأسهم الوالي مدحت باشا في عام1869 ميلادي ومن ثم خليفته الوالي ناظم باشا وقد سجل ذلك منعطفا ً و معلماً بالغ الأهمية في تنشيط الحياة البغدادية من جديد فقد تم لأول مره منذ الإحتلال المغولي استحداث إدارة بلدية لمدينة بغداد كذلك قد تم هدم السورالشرقي للمدينة وأقيمت بدلاً عنه السدة الشرقية والتي عرفت أيضاً باسم سدة ناظم باشا وذلك بهدف توفير فضاء لتوسيع المدينة العباسية القديمة. وعلى ضفة نهر دجلة الشرقية تم انشاء السراي الحكومي وأقيم في باحته المفتوحة بإتجاه نهردجلة برج الساعة التي لازال يعرفها البغداديون حتى يومنا هذا بساعة القشلة. إن استحداث ذلك المنشأ المهم قد سجل علامة فارقة في التوجهات المستقبلية لعمارة بغداد وقد أحدث ذلك الحدث العمراني هزة في حياة بغداد الرتيبة وقد تعدى الأثر الوظيفي/ الأجتماعي لمبنى السراي الى استحداث طراز تعمير ذي طرازغريي في قلب النسيج العمراني التقليدي التأريخي لمدينة بغداد العربية/الاسلامية. من الناحية الأخرى فقد أحتلت بناية السراي الصدارة بين مباني بغداد بأعتبارها أطول مبنى على جبهة النهر في بغداد كلها الى الآن ، فالى جانب كون أن تصميم السراي المغلق قد ألف أول إنجاز لمبنى من الطراز المغلق في المدينة القديمة. يتألف مبنى السراي من طابقين بثلاثة أجنحة تحيط بساحة مستطيلة الشكل تنفتح على شاطئ نهر دجلة بشكل مباشر وفي وسط ساحة السراي ينتصب برج ساعة القشلة. هذا النوع من التصميم المغلق قد تم اعتماده في تصميم كل المباني التي أنشأت في تلك الفترة الزمنيه كمبنى البلدية ومبنى دار الأيتام. وكما هو معلوم ففي نحو نهاية القرن التاسع عشر حاول الحكام الأتراك تحديث امبرطوريتهم المريضة و في عين الوقت تصاعدت الأطماع الغربية الاستعمارية لانتزاع ممتلكات الدولة العثمانية الضعيفة ولوقوع العراق على طريق الهند – درة تاج الأمبراطورية البريطانية - كذلك فإن ازدياد عمليات التبادل التجاري بين العراق والدول الأوربية أيضاً قد قاد الى فتح باب بغداد العاصمة الأمبراطورية للدولة العباسية لدخول أساليب وأنماط الحياة الغربية اليها بعد أن كان قد أغلق في وجه الحضارة لعدة قرون على أثر سقوطها عام 1258ميلادي. وعليه فقد أنسل تدريجيا ً عنصر الوظيفة وتحديد الاستعمال في التعمير البغدادي وبتنا نرى في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أن البيوت البغدادية قد شرعت في تحديد وظيفة معينه لبعض فضاءاتها. ولقد كان لسكة حديد بغداد – برلين تأثيراته أيضا في تطور شكل عمارة بغداد المعاصرة ويمكن ملاحظ ذلك في مبنى محطة قطارالكرخ – جانب بغداد الغربي- حيث أقام المهندسون الألمان بناية مغلقة بارتفاع ثلاثة طوابق ذات أرواق مزينة بالشرفات لاحقاً .

التطوير الحضري وتمزيق الهيكل العمراني التقليدي:-

بيد أن الانطلاقة الحقيقية في توسع الإعمار في مدينة بغداد قد حدثت في أعقاب الإحتلال البريطاني للعراق عام 1917ميلادي في أثناء الحرب العالمية الأولى والذي تبدل من إحتلال الى انتداب لاحقاً والذي استمرالى

عام1932 ميلادي . لغرض تأمين تسهيل عملية تسير متطلبات إدارة البلد المحتل. لقد ركنت سلطات الإحتلال والانتداب الى استحداث مباني عامة وبنى تحتية توسع نطاقها في عام 1921ميلادي في أعقاب شروع الإحتلال بتأسيس الدولة العراقية على أجزاء من ولايات الموصل وبغداد والبصرة وعليه فإن إنشاء البنى الفوقية والتحتية للدولة الجديدة قد نال أفضلية ومستعجلية قصوى ومما ساعد في ذلك حصول الدولة العراقية على موارد مالية من النفط المصدر من حقول كركوك وتوجيه قسم من تلك الموارد المالية الى عملية التطوير والتنمية الحضرية. في اثناء فترتي الإحتلال والانتداب مابين 1917م – 1932م. كان للمعماريين البريطانيين الذين عملوا في مديرية المباني مساهمة جادة وتأثير متميز في تطورالعمارة المعاصرة في بغداد فالمعماري جي.أم ولسن الذي أظهر براعة معمارية في أثناء عمله في الهند من خلال نجاحه في دمج تقنية البناء المحلية بمفردات العمارة الأوربية ومواد البناء الحديثة وقدعمل في بغداد أيضا على مزاوجة العمارة العربية البغدادية مع طراز العمارة الأوربية الكلاسيكي و من أهم إنجازاته المعمارية في بغداد مبنى جامعة آل البيت في الأعظمية (1922م – 1924م) والتي قد جرت صيانتها في نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي. أما بقية المعماريين اليريطانين الذين كان لهم تأثير في عمارة بغداد فهم أج.أم ماسون الذي كانت أعماله في الغالب تتم بالمشاركة مع زميله المعماري البريطاني ولسن ومن منجزاته المعمارية تصميم مبنى دائرة البريد والبرق(1929م) ومبنى مطار بغداد القديم- مطار المثنى-(1931م). وقصر الزهور الذي قد تم صيانته أيضاً لاستعماله متحفاً للآثار الملكية غيرأن نشوب الأزمة الكويتية قد أدى في حينه الى إلغاء موضوع إنشاء المتحف. أما المعماري البريطاني الآخر والذي لعب دوراً مهماً في في تطور عمارة بغداد فهوجي.بي.كوبر وقد حاول كوبرفي تصاميمه استعمال خصائص العمارة العربية / الاسلامية غير أنه لم ينجح في ذلك إذ بقيت معالم العمارة الأوربية بارزة في أعماله. من أعماله المهمة في بغداد مبنى المقبرة الملكية في الأعظمية (1932م – 1934م)والذي تميزبالجودة بين أعماله فلقد أولى تصميم المقبرة عناية خاصة وذلك لأن التصميم كان قد أحيل اليه بموجب جدول مواصفات فنية تفصيلي وفي ظل متابعة متواصلة لمراحل اعداد التصميم ومما تجدر الإشاره اليه هو إنه قد تم صيانة المقبرة الملكية في عام 1989 و تجدر الاشارة اليها أيضا هو مبنى جامعة آل البيت والتي تمت صيانته أيضا في نهاية عقد الثمانينيات كذلك بناية كلية الهندسه في الباب المعظم والتي تم تشييدها عام (1938م) وبنايتي القصر الجمهوري والبرلمان بين أعوام (1957م – 1959م).

موقع: التراث المعماري البغدادي