من ذكريات الاربعينيات الجميلة

من ذكريات الاربعينيات الجميلة

هشام المدفعي

في مرحلة حياتي في كلية الهندسة 1946ــ 1950، كنت اجمع بين تلقي العلم وممارسة حياتي كشاب مقبل على مباهج الحياة والانشطة الاجتماعية المختلفة. ولم اكن من الطلبة الاوائل، الا اني لم اتخل عن المستويات المتقدمة، وكنت اعتبر معدل درجاتي وهي 75 بالمئة كافية لي، وقد سميتها (Gentleman Degree)،

وكنت اخصص اوقاتا لألعاب الرياضة والفنون والحفلات والسفرات. وقد لعبت مع فريق الكلية لكرة القدم بمركز شبه وسط، كما لعبت كرة الطائرة والتنس وأحد لاعبي الكلية في لعبة الهوكي، اضافة الى ممارستي السباحة منذ طفولتي، ومقابل هذا حافظت على مستواي العلمي المتقدم. ومن زملائي طلاب الصفوف المتقدمة في نشاطي الرياضي اذكر حسن محمد علي بلعبة التنس، ونزار النقيب وحلمي المفتي وسعدون القصاب بكرة القدم، اضافة الى اسماء اخرى كنوري محمد رضا ورسول الاسترابادي وعبيد عبد الله سيف (من زنجبار) وانطون هندي. وكنا نشترك في الاستعراضات والسباقات الرياضية السنوية، وكان مدرسنا لعلوم هندسة الميكانيك الاستاذ (فؤاد طرزي) وهو فلسطيني من خريجي بريطانيا وجاء الى العراق بعد نكبة فلسطين عام 1948، هو كذلك مدربنا ورئيس فريقنا الرياضي.

كانت دورالسينما الملاذ الوحيد لنا في عطلة نهاية الاسبوع، اذ لم نكن نهتم بما في بغداد من مراقص او ملاهٍ او محلات الشرب او بيوت المتعة. وكانت سينما غازي في الباب الشرقي من اوسع سينمات بغداد واشهرها، ثم تأتي سينما الوطني والزوراء والرشيد وسينما الملك فيصل الصيفي في الصالحية عند رأس الجسر وغيرها. وكنا ننتظر عرض الافلام الامريكية والبريطانية لأسابيع عديدة بعد ان نقرأ عنها في الصحف والمجلات العربية. وكان الذهاب الى السينما مناسبة اجتماعية ممتعة للغاية، حيث يتم حجز (لوج) مكون من عدة مقاعد مريحة، وعندما نصل الى دار السينما كنا نجد عوائل معروفة قد حجزت هي الاخرى اماكن لها، وقد شاهدت باهتمام افلام (ذهب مع الريح) و (دماء ورمال) و(لمن تدق الاجراس) للكاتب الامريكي هامنكواي، وكانت تستهويني افلام القصص العالمية المشهورة والافلام الحربية والجاسوسية ونحن خلال فترة الحرب العالمية الثانية. ومن الممثلين الذين كنت اتابع افلامهم (بيتي كريبل) و (كاري كوبر) و (تايرون باور) و (كريتا كاربو) وغيرهم. وضمن العائلة، فإن اللقاءات والرحلات والزيارات المتبادلة كانت كثيرة، فمن عمري كان ابناء عمي امين زكي وهم عادلة وامل ومأمون ورجاء. وأبناء عمي صبيح نجيب العزي بثينة وسهيلة وزهير، ومن الاقارب ايتن ابنة مهدي الرحال واخوها خالد الرحال وكذلك خلدون الرحال، وابن عمي منذر فضلي العزي.

لقد كانت الافكار الشيوعية متغلغلة بين طلاب كلية الهندسة وكانت هي الصفة السياسية الغالبة فيها. نعم كنت اعرف العديد من الاسماء الشيوعية اللامعة في الكلية، ولاسيما في الصفوف المتقدمة (مثل الطالب الكردي عمر دبابة الذي اصبح فيما بعد من قادة الحركة الكردية)، الا ان اغلبهم اكمل الدراسة الجامعية واصبح من المهندسين الذين يشار اليهم، عدا طالبة يهودية القي القبض عليها اثناء امتحان نصف السنة بالصف الاول، ومن ذلك الوقت اختفت ولم تلتحق بالكلية ابدا وربما تركت العراق.

كنت اشعر ان اغلب طلاب الكلية يحمل افكارا تقدمية وينظرون الى القضايا المختلفة نظرة منفتحة ومتطورة، وكنت اميل الى هذا الفريق وفي الوقت نفسه كانت الدعوة الى محاربة الاستعمار وعملائه في أوجها. كما ان عددا آخر من زملائي كان من تيارات اخرى مثل زميلي عفيف الراوي وكان من الطلاب البعثيين، وعدنان رانية من الاخوان المسلمين، وخيري الدين الملا حمادي من القوميين. اما انا فلم افكر مطلقا بالانتماء الى اية حركة سياسية، كما لم يفاتحني احد من اصدقائي الحزبيين بالانتماء الى حزبه، لعلمهم برفضي التام لهذا الامر الذي استمر الى يومنا هذا. وعندما اندلعت وثبة كانون الثاني 1948، كانت كليتنا مع الكليات المجاورة في طليعة التظاهرات الكبيرة التي اندلعت ضد توقيع الحكومة العراقية، وكانت برئاسة صالح جبر، على المعاهدة العراقية البريطانية في (بورت سموث) في انكلترا، على الرغم من الاحتجاجات الشعبية التي قادتها احزاب المعارضة الوطنية، ومنها الحزب الشيوعي السري. واتذكر كيف كان الطلاب يتجمعون في منطقة الباب المعظم التي تنطلق منها التظاهرات الصاخبة بتشجيع من ابن خالتي خالد السلام، وترفع الشعارات العدائية للحكومة مطالبة بإسقاطها والغاء المعاهدة. وقد استمرت التظاهرات لعدة ايام، وعند عدم خروجنا للتظاهر كنا نتجمع في كافتريا الكلية الطبية مع اصدقائنا من طلبة تلك الكلية. وفي يوم 28 كانون الثاني وكانت الدراسة معطلة على ما اذكر، واثناء تجمعنا في الكلية الطبية ظهراً للاستعداد للتظاهر، سمعنا اصوات الاطلاقات النارية الكثيرة مشيرة الى حدوث مواجهات عنيفة في شارع الرشيد واماكن اخرى، لم تتردد الشرطة باستخدام الرصاص ضد المتظاهرين، كما سمعنا ما حدث على الجسر العتيق الذي سمي فيما بعد بجسر الشهداء من اطلاق النار على المتظاهرين العزل، وبدأت اعداد الجرحى تزداد، فاسرعنا بتأليف هيئة التبرع بالدم، ولما كان صنف دمي (O) يناسب الكثيرين فقد كنت في مقدمة المتبرعين. وفي عصر ذلك اليوم صدر قرار منع التجول ونحن لم نزل في الكلية الطبية، فعدت مع خلدون الرحال مشيا على الاقدام الى البيت في الاعظمية، وعند وصولنا الى منطقة الكسرة رأيت قدوم سيارات كثيرة الى البلاط الملكي، كما رأيت سيارات الشرطة المسلحة في منطقة رأس الحواش في الاعظمية تقوم بتوزيع منشورات تؤيد المعاهدة وتهاجم الحركة الوطنية. الا ان مؤتمر البلاط كان قد اصدر في تلك الليلة الرهيبة اراده ملكيه بإقالة وزارة صالح جبر.

عن مذكرات المدفعي (نحو عراق جديد)