العلاّمة عبدالغفار مكّاوي (ثلاث رسائل منه، وبكائيّة كرديّة)

العلاّمة عبدالغفار مكّاوي (ثلاث رسائل منه، وبكائيّة كرديّة)

جلال زنكَابادي

جيفة .......

(بكائيّة مهداة إلى أستاذ الأجيال وصديقي د. عبدالغفارمكّاوي)

×××

قصيدة (جيفة.......) السّالفة هي بكائيّتي للعلاّمة الفقيد المغفور له عبدالغفار مكّاوي (11/ك2/1930- 24/ك1/2012) ولنفسي ولأمثالنا هنا وهناك .......وهي إحدى قصائدي الكثيرة، الإستباقيّة المستشرفة لآفاق المستقبل القريب والبعيد ؛ فهي مكتوبة في نهايات (1988) ومنشورة لأوّل مرّة في (2000) وقد كتبتها بعد تعارفنا على هامش (مهرجان المربد) عامذاك ، وإثر لقاءاتنا وحواراتنا الحميمة الشاملة والمعمّقة في شتى شؤون الأدب والفن والفكر والسّياسة ، لاسيّما حول أكثر كتبه المؤلّفة والمترجمة ، حيث تقبّل ملحوظاتي عنها برحابة صدر، بل طلب مني تدوينها كافة وإرسالها إليه ؛ للإستفادة منها في طبعاتها اللاحقة ، وفعلاً لبّيت طلبه لاحقاً...والجدير ذكره أن أستاذنا وصديقي الشاعر الكبير عبدالوهّاب البياتي قد شاركنا في بعض تلك اللقاءات...وبحضوره كان مجرى حوارنا يتحوّل إلى تناول الأدب الإيراني ، لاسيّما الكلاسيكي : الخيّام ، جلال الدين مولوي وحافظ الشيرازي ،الذي كان مكّاوي شغوفاً بمعرفة المزيد عنه ؛ لإشتغاله على ترجمة الديوان الشرقي لغوته) وسرّه جدّاً غنائي لغزليّته الشهيرة (ألا يا أيّها السّاقي أدرْ كأساً وناولها...)

لقد أذهلني مكّاوي العلاّمة الموسوعي : الإنسان ، الأديب ، المفكّر ، المترجم والمربّي الكبير بتواضعه الجم الذي لمْ أشهد له مثيلاً لحد الآن ، بل أخجلني جدّاً بإعجابه بشخصي المتواضع ؛ بصفتي قارئاً ، ناهيكم عن صغر سنّي وعدم صدور أيّ كتاب لي ! مقارنة به وبشاعرنا الرائد البياتي ، ولقد إزداد إعجابه وتعلّقه بي ؛ بعدما عرف بأني كرديّ ومن الشريحة الفيليّة المظلومة ، وراح يعبّر عن إعجابه بالشعب الكردي المستضعف (الممزّق الوطن) الذي أنجب المئات من الأعلام البارزين في الأدب والفن والفكر والسياسة في بلدان الشرق الأوسط ، وفي مصر(أرض الكنانة) وأشار إلى العديد من الأسماء البارزة في مشهد الثقافة النهضوية المصريّة في القرنين (19 و20) ، كما صرّح لي باستعداده للتدريس في جامعة صلاح الدين ، لكنني لم أشجعه على ذلك ، بل شرحت له بصفتي ضحيّة وشاهداً ، شرحت الوضع العصيب جدّاً للكرد وكردستان ؛ لاسيّما إثر عمليّات الأنفال والأبادة وسياسة الأرض المحروقة التي كانت تمارسها السلطات العفلقيّة – الصدّامصوريّة (أعلى مراحل الفاشية في العالم حتّائذ)...

ومن ثمّ ..رحنا نتراسل بحميميّة بوحيّة يندر مثيلها، لكن بحذر شديد ، وإذا بالإجتياح العفلقي – الصدّامصوري لدولة الكويت الشقيقة يقطع خيط التراسل بيننا ، ولم أفلح لاحقاً بإعادة ديمومة التواصل معه رغم محاولاتي الكثيرة ، حتى خلال سفرتيّ القصيرتين إلى مصر في (2005) و(2006) في حين ظللت أتابع حراكه الثقافي قدر الإمكان ، بل ظفرت ببعض كتبه القيّمة في القاهرة وعمّان ودمشق...علماً بأنه قد تلطف عليّ بإرسال كتابه (بكائيّات ، ست دمعات على نفس عربيّة / 1987 القاهرة) من الكويت ، حيث كان يدرّس الفلسفة في جامعتها آنذاك ، وعلى صفحتها الأولى رسالة بمثابة إهداء ، منشورة أدناه مع رسالتين أخريين وقائمة - ثلثها بخطّ يده - بكتبه الصادرة حتى خريف 1989 ( وقد أتممتها – قدر ماموجود منها عندي وإطلاعي - بعد وفاته (رحمه الله) ؛ لتكون بمثابة كشّاف قد يجدي الباحثين...) :

(الرسالة الأولى)

{ الكويت

27/10/ 1989

أخي العطوف النبيل الأستاذ جلال..

تحيّات من حبّة قلبي لك أيّها العزيز الذي تذكرني ، حين نسيني الجميع ، وجحدوني (أقصد في وطني البائس) وشكراً من صميم الروح على سطورك التي هي في الحقيقة «سنابل محنيّة...» كما تقول ؛ لأنها مثقلة بالحب والنضج والأمل الصلب في غد لن يتأخر بإذن الله ؛ مادام فيه أمثالك أيّها الحبيب..

جاءتني كلماتك وأنا في محنة ؛ إذ غدر بي من كنت أحسبه صديقاً وعلاقتي معه منذ أربعين عاماً..كانت عامرة بالحب والإحترام المتبادل ..هكذا تصوّرت قبل أن أحضر إلى هنا ، لكنني خلعت الوهم وازددت معرفةً بعد أن صدمت ! ولابأس في هذا على أيّة حال ؛ فما الحياة إلاّ تجرّد مستمر من الأوهام ؛ مهما كانت عزيزة على نفوسنا ، وهذا شيء يكمن في طبيعة التفلسف الذي آكل منه خبزي المرّ ...لكنني صمّمت على عدم تجديد التعاقد بعد انتهائه في العام القادم..يكفي هذا وأملي أن أحقق حلمي المستحيل وأعيش بقيّة أيّامي كاتباً حرّاً ...فهل أستطيع ؟! هذا هو الذي يعلمه الله !

سوف يسعدني دائماً أن يدوم جسر المحبّة بيننا ، وكم أعتز بصدلقتك أنت وأصدقائك ! وكم أشعر بالإندهاش ؛ لأن أمثالك الأنقياء الطاهرين مازالوا يتنفسّون رغم تلوّث الهواء حولنا جميعاً في عالمنا العربي والإسلامي البائس والمختنق !...لكن « ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل « !

شكراً لكلّ الأوراق التي أرسلتها...أنا كاتب يعمل في صمت ويحاول أن يتقن عمله ولاشيء غير هذا...؛ لهذا لايدهشني أبداً أن لايسمع أحد عن ترجمتي لكتاب (الطاو) وغيره ، عن كتاباتي في المسرح والقصّة ؛ إذ أنني رفضت (وسوف أرفض حتى آخر نفس فيَّ ) أن أعلّق طبلة على صدري وأصيح في الأسواق : «أنا أنا» ! كما يفعل الكثيرون جدّاً من أعضاء «المافيا الثقافيّة» في عالمنا العربي ! وسواء أذكرني أحد في حياتي أو بعد موتي ، أو لمْ يذكرني ؛ فيكفيني أنني أخلصت بقدر طاقتي ...والمهم انني لاأريد شيئاً ولاأنتظر مجداً ولاشهرةً ولا سلطةً ؛ إذ يكفيني أنني وصلت لقاريء واحد عظيم ونقيّ مثلك ...

تسألني عن كتابي (البكائيّات – ست دمعات على نفس عربيّة) يعلم الله انني لاأملك نسخة منه هنا ؛ إذ كانت لديّ بعض النسخ وأهديتها للزملاء..لكن معرض الكتاب في الكويت سوف يحين بعد أسابيع قليلة ..أعدك إذا وجدت نسخة من الكتاب في الجناح المصري بالمعرض فسوف أرسلها لك على الفور، وإذا لم أجد (والمعرض في الشهر القادم) فسوف أكلّف أحد زملائي بإحضار نسخة منه في إجازة منتصف العام (وموعدها هنا في شهر فبراير القاجم بإذن الله) .. المهم أن (البكائيّات..) ستكون عندك بإذن الله خلال أسابيع أو شهور قليلة..تأكّد من هذا..

لاأدري إن كنت قد توصّلت إلى نسخة من كتابي الأخير الذي صدر في شهر يونيو الماضي عن سلسلة كتاب الهلال القاهريّة بعنوان (القيصر الأصفر ومسرحيات أخرى شرقيّة) وفيه مسرحيّتان قصيرتان إستوحيتهما من الأدب البابلي : السّيّد والعبد ، والسّومري : عن سقوط أور) أعدك أيضاً أن أرسل لك نسخة بمجرّد وصول نسخ أرسلت في طلبها ولم تصلني للأسف لحد الآن .

رعاك الله وجازاك خيراً عن تذكّرك لي ولأعمالي المتواضعة..أعمل الآن في مقدّمة كتاب إنتهيت منه بالفعل عن حكمة بابل (وقد اعتمدت في كل نصوصه اعتماداً شبه مطلق على كتاب العالم االانجليزي في الأكديّات و.ج. لامبيرت W.G. Lambert ) في كتابه عن أدب الحكمة البابليّة ، مع اجتهاد في التفسيرات والشروح لنصوص هذه الحكمة العميقة ، التي أعتقد أنها مازالت مؤثرة في وجداننا برغم القطيعة التي حدثت..خصوصاً بعد الفتح الإسلامي – مع الحضارة البابليّة القديمة – وهي محاولة وسوف أنتهي منها قريباً .

وفيما عدا هذا ، لديّ عمل متصل في المحاضرات ، ومنغصات دائمة بسبب بعض كلاب (المافيا الثقافيّة المصريّة) التي لاحقتني بعضها في القاهرة وهنا في الكويت !والحمد لله على كل حال ، ان فيَّ شيئاً من أيّوب البابلي والعبري والمصري وكل أيّوب يمكن أن تتصوّره ؛ وكل هذا في سبيل طفلين عزيزين (8 و 6 سنوات) (3) يغطّان الآن في نومهما ، ولايعرفان شيئاً عن غدر العالم بأبيهما !

تحيّاتي القلبيّة ، وإن شاء الله ستجدني عند حسن ظنك ، وشكراً على ملاحظاتك القيّمة عن كتابي (ثورة الشعر الحديث) والتي سأستفيد منها ؛ إذا قدّر لي أن أجد ناشراً لهذا الكتاب الذي نفد منذ سنوات !!

ودمت أيّها العزيز وعسى أن تسعدني بأخبار نشاطك الأدبي والفني ، وليتك تترجم لنا شيئاً من الأدب الكردي ، أو تعرّفنا به ؛ فتمد جسور التواصل والمحبّة مع إخوتكم العرب والمسلمين...

لن أتمكّن للأسف في هذا العام من حضور مهرجان المربد ؛ فعسى أن تنقل سلامي لأخينا وحبيبنا العزيز الجليل (أبو علي) عبدالوهّاب البياتي ..

ودمت في صحة وعافية لأخيك

عبدالغفار

(الرسالة الثانية)

{ أخي العزيز الأستاذ جلال زنكَابادي..

مع أطيب تحيّاتي القلبيّة وأجمل ذكريات لقائنا القصير مع أبي علي العزيز (أرجو أن تسلّم لي عليه) في بغداد ، أهديك هذه البكائيّات التي إختنقت بها سنوات من عمري (بدأت فصولها في الكهف اليمني) سنة 1978 وختمتها بـ (دموع أوديب) وأنا أحترق بنيران الكويت سنة 1985 ؛ فمعذرة عن كلّ الأحزان ، وعن كلّ الأخطاء المطبعيّة التي تستحق وحدها البكاء !

أتمنى أن تكون بخير ، وأن نلتقي في القاهرة أو بغداد أو الكويت يوماً ما (فظروفي لن تسمح بالحضور للمربد في السنتين القادمتين) وما أسعدني في وسط صحارى التجاهل والجحود والغدر والحقد ، التي أعيش فيها هنا وفي بلدي ؛ بأن يقرأني قاريء محب متعاطف مثلك ، وهذا يكفيني ويعوّضني ويحملني على جناح شعاعك الطيّب إلى أفق الأمل ..

وصلتني هذه النسخة قبل أيّام و ها أنا أرسلها إليك ؛ فعسى أن تجدك في صحة جيدة ومزاج صاف

ودمت لأخيك

عبدالغفار مكاوي

(أرجو أن تبدأ القراءة من النهاية ، من ص 207)

الكويت

22/11/ 1989

(الرسالة الثالثة)

الكويت

28/4/ 1990

أخي الحبيب جلال

كل عام وأنتم بخير

والله يرعاك ويديم بيننا نعمة التواصل ، ويتوّجها قريباً باللقاء..

أعلم أنني مقصّر غاية التقصير، لكنني أعلم أيضاً أن عفوك وصفحك أكبر من ذنوبي ..

كانت الشهور الثمانية الأخيرة حملاً ثقيلاً أضناني وأرهقني ، لكن معظم العبء قد خفّ ولم يبق إلاّ القليل ، وأنت الأدرى بمشاكل التعليم وعناء العمل الأكاديمي ومنغصاته وتكليفاته ومسخراته التي لاتنتهي .. والحمد لله انني أتممت كتاب (حكمة بابل) الذي سبق أن حدّثتك عنه ، وسلّمته بالفعل لسلسلة (عالم المعرفة) وإذا لم ينشروه لأيّ سبب ؛ فسوف أفكّر في نشره في العراق أو في مصر..كذلك ألقيت وراء ظهري أعمالاً أخرى مضنية ومملّة ، وبقي القليل ، بحيث يمكن بإذن الله في خلال شهر أن أردّ على رسالتك المفعمة بعطر الحب ، بل بربيع كامل من زهور الحنان والتشجيع ، التي لاأستحقها..وسوف أضمّن انطباعاتي عن قصائدك البديعة التي تكرّمت وتفضلت بإرسالها إليَّ...المعذرة أعدك بهذا؛ عندما أجد نفسي المبددة ...أي بعد حوالي شهر من الآن..وأملي في سماحتك كبير..

أفكّر في عمل جديد ويفكّر فيَّ ! لاأدري متى ينضج أو متى أتفرّغ له وحده حتى يثوب إليَّ من غربته..

تأكّد أن حبّك الفيّاض وثقتك الغامرة سيكون لهما الفضل الأكبر على خلق هذا العمل وظهوره للنور..

تحيّات حبي وعرفاني لأشعارك ولقلبك ، الذي أبدعها حرّة وثابة ، ولكل الأعزاء الذين يأسرونني بعطفهم وحبهم..

وإلى لقاء قريب تحت سماء أصفى وبلغة أنقى..

لك كلّ تمنياتي الطيّبة أيها الصديق العزيز ومعذرة لأن عقلي مكدّس بأحجار الهموم والمتاعب ، التي جعلته صنماً أخرس !

إلى لقاء قريب

دمت بكل خير وعافية

عبدالغفار مكاوي