خبري الدين العمري
لما دخلتُ انتخابات سنة 1930 حاملاً شعار رفض المعاهدة، ومعارضاً الحكومة، كنتُ قد أحرزتُ المرتبة الأولى في انتخابات قضاء الموصل، فضلاً عن أصوات لا بأس بها من بعض الأقضية، لكني لم أغدو نائباً (في النتيجة) لأن هناك (ثمانية أقضية) غير قضاء الموصل، يحصل فيها من يضع الأوراق (الانتخابية) في صناديق الاقتراع حسبما تريده الحكومة ويتطلبه الحال والواقع...
وقد قال لي مرة (نوري السعيد) سنة 1930 وكان يومها رئيساً للوزارة،أنهم بصدد إجراء تعديلات في قانون الانتخابات... فقلتُ له: أي قانون من القانونين؟! فقال بصفة المندهش: أي قانونين؟!... فأجبته القانون الأول قانون الانتخاب المكتوب، الذي لا حكم له إلا تسجيل (خلاف الواقع)... أما القانون الثاني فهو قانون الترشيح (غير المكتوب)... فضحك الباشا... وقال: لا... لا... القانون الأول... الأول...!!
وتقريراً للواقع، نقول أن الوزارات كانت قد سارت في موضوع الانتخابات على وفق أسلوب واحد وهو الترشيح وضمان انتخاب المرشحين، غير أنه كان هناك بعض الشذوذ في الطرائق، كان لها أثر شديد في إذلال الحياة النيابية وجعلها عالة على البلاد.
فالضربة الأولى جاءت على يد نوري السعيد في وزارته الأولى سنة 1930.
وتفاصيلها كما يأتي: كانت الانتخابات سنة 1930 قد تقدمت وكادت أن تنتهي. وكنتُ عضواً في الهيأة التفتيشية ومنتخباً ثانوياً ومرشحاً للنيابة. وكان تحسين علي متصرفاً في الموصل، فذهب إلى بغداد لتلقي (الوحي النهائي) عن أسماء المرشحين. ولما عاد زرته في مكتبه الرسمي.وبعد السلام والسؤال أخرج من جيبه المفكرة السنوية الخاصة به وفتحها وقال: انظر هذه أسماء مرشحي الحكومة، ثم أن إسمك على رأس القائمة. فلما نظرتُ القائمة رأيتُ إسمي وشهرتي على رأس الأسماء، فقلتُ: نشكرهم ونشكركم، فقال: ولكن هناك شرط...!! فقلتُ: وما هو؟! قال: أن تعطي تعهداً خطياً بقبولك المعاهدة، ثم بدخولك حزب الحكومة وهو حزب العهد. فوجمتُ... ثم أردفتُ قائلاً: ولمَ كل هذا؟ قال: هذا هو أمر رئيس الوزراء. قلتُ: ولكنني رشحتُ للنيابة مرتين، وكانت هناك أمور جسام، وكان هناك رئيس، وكان هناك وزراء... وأحدهم هو نفسه نوري السعيد، لكنني لم أُكلّف بمثل هذا التكليف المهين فقد اعتمدوا على شرفنا وقولنا... حتى أنني قد بقيتُ نائباً مستقلاً أكثر من شهر ولم أدخل حزب التقدم إلاّ بعد أن طلب إليّ المرحوم عبد المحسن السعدون الاشتراك في حزبه، فاشتركتُ في حزب التقدم لقناعتي بإخلاص زعيم الحزب وإصابة أهدافه. والآن أرى نفسي أمام شيء جديد تَعافُه النفس الأبية، وإني لستُ مستعداً لقبول هذا الشرط المخطوط، لأن بهذا التعهد المخطوط يراد من المرشح أن يشتري كرسي النيابة بصك يدلّ على الذلّ والمسكنة... فأي خير في مثل هذا النائب المملوك...؟!
فالحكومة تريد أن تستند إلى المجلس وتبرم المواثيق والأحلاف مع الدول الأجنبية، لذا كان عليها أن تكون قوية بمجلسها النيابي..
ثم كان عليّ أن أودع المتصرف وأخرج... وكانت نتيجة هذه المكالمة بطبيعة الحال أن الحكومة أخرجت إسمي من بين مرشحيها، ولابد أنها وجدت من يعطي مثل هذه الصكوك...
ولأن الحكومة أرادت التشدّد في هذا الموضوع وعدم التسامح بأن يكون النصر القاطع لغير مرشحيها، فقد وجهتْ الإنذار إلى الموظفين المهدّدين بقطع الأرزاق وسوء المصير. وكان أن حصل في فترة قبل الانتخاب الثاني أن أذاعت الحكومة بشتى الوسائل أن (ذيلاً) لقانون انضباط موظفي الدولة سيصدر قريباً وفيه يحق فصل الموظف بقرار من مجلس الوزراء.
وأُفهم الموظفون من طرف خفي بأن سيرهم أثناء الانتخابات سيكون له أثر في مصاير وظائفهم. وقد حكى لي أحد أصدقائي أن (آمره) حضر إلى مقره الرسمي لإفهامه (بالذات) أسماء مرشحي الحكومة. وكان أن رأى الآمر أحد أولاد الموظف المذكور كان متواجداً في الدائرة حينذاك. فأشار إليه الآمر أن يتقدم نحوه، فلما فعل الطفل قال الآمر وهو يقدم نصائحه الى الوالد: أرجوك فكّر في مستقبل هذا الطفل فيما إذا خالفتَ أوامر الحكومة …!! في الحقيقة كان هذا إسفافاً ما بعده إسفاف … وسخافة تصل بالآمر إلى درك أسفل من التفاهة...!!
وقد جرى قبل هذا الاستفتاء ثلاث انتخابات أحدها انتخاب المجلس التأسيسي، ولم يصل الأمر بالحكومة إلى هذا الحال الذي حطّ من كرامة الموظفين الذين هم عماد الدولة الأساس.
ثم جرت الانتخابات في مركز الموصل فكانت حفلة مضحكة كادت أن تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه … بحيث أن مؤيدي الحكومة لم يردّوا على أي واحد ندّد بالمعاهدة … فلم يدافعوا عنها ولم يذكروا حسناتها بل جاءوا بما استوجب السخرية …
وصرخ أحد المرشحين: (هل يعقل يا ناس بأنني وأبي جواسيس للإنكليز …؟!! مع العلم أن والدي كان قد توفي قبل الاحتلال بسنين. وقال المرشح الذي أصبح نائباً محترماً، أنه قد نام على التراب في ثورة الحجاز، فقلنا له انه يجهل التأريخ … وقال مرشح ثانٍ أن رجال الوزارة رجال أسود … فقلنا له: إننا لم نقل أنهم ثعالب …!! كان في يقين نوري السعيد عند تشكيله لحزب العهد ان يكون ذلك تيمناً بجمعية العهد التي تشكلت في العهد العثماني وكان السعيد من أبرز أعضائها.
ومما ثبت تاريخياً أن أساس اقدام السعيد على تشكيل الحزب هو الحاح الملك فيصل الأول عليه بعد الاتفاق مع المندوب السامي البريطاني (فرنسيس همفريز) على فكرة مفادها ان السعيد هو أبرز من يستطيع عقد معاهدة جديدة للعراق مع بريطانيا بناء على طلب وإلحاح من جانب الأخيرة. وفعلا حصل ذلك، حيث تم في عهد حزب (العهد) تصديق المعاهدة العراقية البريطانية المعروفة باسم (معاهدة سنة 1930) التي جوبهت في حينها بالرفض وقيام المظاهرات والاحتجاجات. فقد كانت الشعارات المرفوعة على اليافطات صدى لارادة المتظاهرين.. (يحيا العراق) و (ارادة الأمة فوق الجميع) و (لا معاهدة.. فليسقط الخونة). ومع ذلك تم عقد المعاهدة في الثلاثين من حزيران سنة 1930 فأضربت مدينة بغداد واستمر الاضراب دون انقطاع لمدة اربعة عشر يوماً.
عن كتاب (مقدمات ونتائج، مذكرات خيري الدين العمري) المخطوط.