لورنا والـتّراث المعماري البغدادي

لورنا والـتّراث المعماري البغدادي

عـنـدمـا وصـلـت الـشّـابـة لـورنـا هـيـلـز مـن لـنـدن إلى بـغـداد في شـهـر آب 1950، كـان في انـتـظـارهـا شـاب بـغـدادي كـانـت قـد تـعـرّفـت عـلـيـه في لـنـدن، في مـعـهـد سـلـيـد لـلـفـنّ Slade school of Fine Art الّـذي درسـا كـلاهـمـا فـيـه. وكـان قـد طـلـب يـدهـا مـن أبـيـهـا قـبـل أن يـعـود إلى الـعـراق في الـعـام الـسّـابـق، 1949. وهـا هي تـلـحـق بـه في بـغـداد.

واصـطـحـبـهـا الـشّـاب مـن الـمـطـار إلى بـيـت أهـلـه، وعـقـد قـرانـه عـلـيـهـا في الأسـبـوع الـتّـالي. ثـمّ أنـجـبـت لـه بـنـتـيـن كـبـرتـا في بـغـداد. وعـاشـوا مـعـاً سـنـوات طـويـلـة حـتّى تـوفي الـبـغـدادي في 1961 ، وتـرك الإنـكـلـيـزيـة وحـدهـا مـع الـبـنـتـيـن …

ولا شـكّ في أنّ أغـلـب قـرّائي يـعـرفـون تـكـمـلـة الـقـصّـة، فـقـد قـرأوهـا مـراراً، ويـعـرفـون أنّ الـشّـاب الـعـراقي هـو الـفـنّـان جـواد سـلـيـم وأنّ الإنـكـلـيـزيـة أصـبـحـت، بـعـد زواجـهـا بـه، لـورنـا سـلـيـم.

وكـانـت بـغـداد مـا تـزال تـحـتـفـظ بـكـثـيـر مـن أبـنـيـتـهـا الـقـديـمـة ومـنـازلـهـا الـتّـراثـيـة الّـتي جـذبـت بـأصـالـة أنـمـاطـهـا وأسـالـيـبـهـا هـذه الإنـكـلـيـزيـة الّـتي لـم تـكـن قـد رأت مـثـلـهـا مـن قـبـل، فـكـان مـن الـطّـبـيـعي أن تـرسـمـهـا وأن تـعـيـد رسـمـهـا. وهـذا مـا أودّ أن أتـكـلّـم لـكـم عـنـه في هـذا الـعـرض الـسّـريـع.

وكـعـادتي في كـلّ مـا أقـصّـه عـلـيـكـم، فـسـأتـعـبـكـم بـذكـر كـلّ الـتّـفـاصـيـل. وسـأبـدأ بـالـبـدايـة، وأقـصـد بـهـا هـنـا بـدايـة الـبـدايـة.

بـيـت سـلـيـم الـمـوصـلي :

أذكّـر الـقـارئ الـعـزيـز بـأنّ الـعـراق كـان يـنـقـسـم حـتّى عـام 1917 إلى ثـلاث ولايـات تـابـعـة لـلـدّولـة الـعـثـمـانـيـة : بـغـداد والـمـوصـل والـبـصـرة. وكـانـت الـدّولـة الـعـثـمانـيـة قـد أنـشـأت مـدارس عـسـكـريـة، رشـديـة وإعـداديـة، في الـولايـات الّـتي كـانـت فـيـهـا مـراكـز لـجـيـوشـهـا، ومـن بـيـنـهـا ولايـة بـغـداد.

وكـان بـعـض تـلامـيـذ الإعـداديـة الـعـسـكـريـة في بـغـداد يـنـقـلـون إلى إسـطـنـبـول، عـاصـمـة الـدّولـة، لـيـدخـلـوا في “مـكـتـب الـحـربـيـة”. ومـنـهـم مـن تـابـع فـيـهـا دروس الـرّسـم، عـلى الـمـنـاهـج الأوربـيـة. وكـان “مـكـتـب الـحـربـيـة” يـعـدّ ضـبّـاط جـيـش الـدّولـة. وهـكـذا خـدمـت أعـداد مـن الـضـبّـاط الـعـراقـيـيـن في الـجـيـش الـعـثـمـاني. وقـد عـاد كـثـيـر مـنـهـم إلى بـغـداد بـعـد نـهـايـة الـحـرب الـعـالـمـيـة الأولى وتـأسـيـس الـمـمـلـكـة الـعـراقـيـة.

وكـان مـن بـيـن هـؤلاء الـضّـبـاط الّـذيـن عـادوا إلى بـغـداد الـحـاج مـحـمّـد سـلـيـم عـلي الـمـوصـلي (الّـذي ولـد في الـمـوصـل سـنـة 1883). وكـان رسـامـاً هـاويـاً تـعـلّـم الـرّسـم عـلى الـطّـرق الـحـديـثـة خـلال دراسـتـه في إسـطـنـبـول. ورسـم عـام 1910 مـن بـيـن مـا رسـم لـوحـة لـسـراي بـغـداد، وعـرضـت لـه لـوحـات في المـعـرض الـفـنّي الـصّـنـاعي الـزّراعي عـام 1932. كـمـا كـان يـجـوّد الـقـرآن ويـهـوى قـراءة الـمـقـام.

وقـد تـأثـر ثـلاثـة مـن أولاده الأربـعـة بـهـواه لـلـفـنّ : سـعـاد وجـواد ونـزار، كـمـا درسـت الـفـنّ أيـضـاً ابـنـتـه الـوحـيـدة نـزيـهـة.

ومـارس سـعـاد الـرّسـم، وعـرضـت لـه لـوحـات، بـجـانـب لـوحـات أبـيـه وبـجـانـب تـمـثـال نـحـتـه أخـوه الـصّـغـيـر جـواد، في الـمـعـرض الـفـنّي الـصّـنـاعي الـزّراعي عـام 1932. ويـبـدو أنّـه قـام بـتـدريـس الـرّسـم. وقـد كـرّس مـواهـبـه خـاصّـة لـرسـم الـكـاريـكـاتـيـر .

وقـد تـزوّج سـعـاد بـشـقـيـقـة عـبـد الـجـبّـار مـحـمـود، الّـذي كـان زوج الأمـيـرة راجـحـة، ابـنـة الـمـلـك فـيـصـل الأوّل، مـمـا وثّـق الـعـلاقـات بـيـن بـيـت سـلـيـم الـمـوصـلي والـعـائـلـة الـمـلـكـيـة.

أمّـا جـواد، الّـذي ولـد في حـوالي سـنـة 1918 أو 1919 في أنـقـرة هـو الآخـر، خـلال خـدمـة أبـيـه في الـجـيـش الـعـثـمـاني، فـقـد شـارك، كـمـا رأيـنـا، مـع أبـيـه وأخـيـه سـعـاد في الـمـعـرض الـصّـنـاعي الـزّراعي عـام 1932، عـنـدمـا كـان في الـمـدرسـة الـمـتـوسّـطـة. وحـصـل عـلى جـائـزة الـنّـحـت الـثّـانـيـة عـن تـمـثـال لـلـمـلـك فـيـصـل الأوّل.

ولأنّـه لـم يـكـن في بـغـداد بـعـد مـعـاهـد فـنّ، فـقـد بـعـثـتـه الـحـكـومـة الـعـراقـيـة لـيـدرسـه في بـاريـس عـام 1938. وكـان في الـتّـاسـعـة عـشـرة أو الـعـشـريـن مـن عـمـره، إذا مـا تـقـبّـلـنـا أنّـه ولـد في حـوالي سـنـة 1918 أو 1919.

وقـضى جـواد في بـاريـس مـا يـقـارب الـسّـنـة. وعـنـدمـا انـدلـعـت الـحـرب الـعـالـمـيـة الـثّـانـيـة في أواخـر 1939، طـلـبـت الـحـكـومـة الـعـراقـيـة مـن طـلّابـهـا في بـاريـس أن يـنـتـقـلـوا إلى رومـا. وفي الـعـاشـر مـن حـزيـران مـن الـسّـنـة الـتّـالـيـة، 1940، دخـلـت إيـطـالـيـا الـحـرب فـأرجـعـت الـحـكـومـة الـعـراقـيـة طـلّابـهـا إلى بـغـداد.

وكـان “مـعـهـد الـمـوسـيـقى” قـد تـحـوّل عـام 1939 إلى “مـعـهـد الـفـنـون الـجـمـيـلـة” بـعـد أن فـتـح فـيـه قـسـم لـلـرّسـم والـنّـحـت. وهـكـذا درّس جـواد سـلـيـم الـنّـحـت فـيـه، كـمـا اشـتـغـل في الـمـتـحـف الـعـراقي في صـيـانـة الآثـار وتـرمـيـمـهـا.

وفي عـام 1941، إنـضـمّ إلى جـمـعـيـة “أصـدقـاء الـفـنّ” مـع والـده الـحـاج مـحـمّـد سـلـيـم وأخـويـه سـعـاد ونـزار وأخـتـه نـزيـهـة. وشـاركـوا في مـعـرضـهـا الأوّل، وفي مـعـرضـهـا الـثّـاني عـام 1942. كـمـا شـارك مـع أخـيـه سـعـاد في مـعـرضـهـا الـثّـالـث عـام 1943.

وقـد الـتـقى جـواد سـلـيـم عـام 1943 بـعـدد مـن الـفـنّـانـيـن الـبـولـنـديـيـن الّـذيـن وصـلـوا إلى بـغـداد كـمـجـنـديـن في صـفـوف قـوّات الـ Polish II corps. ويـتـكـلّـم في يـومـيـاتـه عـن دور هـؤلاء الـفـنّـانـيـن الـبـولـنـديـيـن، وخـاصّـة يـوسـف جـابـسـكي Josef CZAPSKY وإدوارد مـاتـوشـجـاك Edward MATUSZCZAK ، في تـطـويـر مـفـاهـيـم عـدد مـن الـفـنّـانـيـن الـعـراقـيـيـن عـن الـفـنّ، وكـذلـك في تـطـويـر تـجـاربـهـم ومـمـارسـاتـهـم.

كـمـا أقـام عـلاقـات صـداقـة مـع الـفـنّـانـيـن الـبـريـطـانـيـيـن الّـذي جـاءوا إلى بـغـداد خـلال الـحـرب، وخـاصّـة مـع كـيـنـيـث وود Kenneth Wood الّـذي أقـام فـيـهـا مـن عـام 1943 إلى عـام 1945. (4)

وفي عـام 1946، أرسـل جـواد سـلـيـم إلى إنـكـلـتـرة لـيـدرس فـيـهـا الـفـنّ. ووصـل إلى لـنـدن في شـهـر شـبـاط لـيـحـسّـن لـغـتـه الإنـكـلـيـزيـة قـبـل أن تـبـدأ الـسّـنـة الـدّراسـيـة في شـهـر أيـلـول. ويـبـدو أنّـه بـدأ يـدرس في كـلّـيـة “تـشـلـسي بـولـيـتـكـنـيـك”. ولأنّ نـظـامـهـا لـم يـوافـقـه فـقـد تـركـهـا لـيـسـجّـل في مـعـهـد سـلـيـد لـلـفـنـون Slade school of Fine Art. ودرس فـيـه الـنّـحـت.

وقـد تـخـرّجـت أخـتـه نـزيـهـة في ذلـك الـعـام مـن “مـعـهـد الـفـنـون الـجـمـيـلـة” في بـغـداد، وأرسـلـتـهـا الـحـكـومـة الـعـراقـيـة لـتـدرس الـفـنّ في بـوزار بـاريـس.

وتـعـرّف جـواد في مـعـهـد سـلـيـد عـلى طـالـبـة كـانـت تـدرس فـيـه هي الأخـرى : لـورنـا هـيـلـز.

وقـد حـصـلـت لـورنـا عـام 1948 عـلى شـهـادة في الـرّسـم والـتّـصـمـيـم مـن مـعـهـد سـلـيـد. وطـلـب جـواد يـدهـا مـن أبـيـهـا، وتـمّـت الـخـطـوبـة قـبـل أن تـنـتـهي دراسـتـه ويـرجـع إلى بـغـداد عـام 1949. وكـانـت لـورنـا قـد بـدأت بـتـحـضـيـر شـهـادة لـتـدريـس الـفـنّ. وبـعـد أن حـصـلـت عـلـيـهـا، مـارسـت الـتّـدريـس حـتّى نـهـايـة الـسّـنـة الـدّراسـيـة 1950، ثـمّ لـحـقـت بـجـواد في بـغـداد في شـهـر أيـلـول مـن ذلـك الـعـام. وعـقـد قـرانـهـمـا، كـمـا سـبـق أن رأيـنـا.

لـورنـا في بـغـداد :

وبـدأت لـورنـا تـتـجـوّل في بـغـداد بـصـحـبـة زوجـهـا جـواد. وكـان مـن الـطّـبـيـعي أن تـجـذبـهـا أحـيـاء الـمـديـنـة الـقـديـمـة وسـكّـانـهـا. وكـان أغـلـب مـا تـراه جـديـداً عـلـيـهـا، وخـاصّـة في إضـاءة شـمـس جـديـدة.

وهـكـذا أخـرجـت أقـلامـهـا وأوراقـهـا وبـدأت تـرسـم تـخـطـيـطـات لـوجـوه الـنّـاس ولـلأبـنـيـة ولـلـمـشـاهـد الـطّـبـيـعـيـة، واسـتـعـمـلـت هـذه الـمـواضـيـع في لـوحـات زيـتـيـة.

وكـان شـاكـر حـسـن آل سـعـيـد، في نـهـايـة عـام 1949 أو الـعـام الّـذي يـلـيـه يـتـابـع مـحـاضـرات في دار الـمـعـلـمـيـن الـعـالـيـة. وتـعـرّف عـلى جـواد سـلـيـم الّـذي كـان يـلـقي فـيـهـا دروسـاً عـن الـرّسـم. وفي مـنـتـصـف شـهـر نـيـسـان 1951، أسـس مـع جـواد سـلـيـم ومـحـمّـد الـحـسـني “جـمـاعـة بـغـداد لـلـفـن الـحـديـث”. وكـانـت لـورنـا قـد بـدأت في ذلـك الـعـام تـدريـس الـرّسـم في الـمـدرسـة الـتّـأسـيـسـيـة في بـغـداد.

وانـتـمـت لـورنـا إلى “جـمـاعـة بـغـداد لـلـفـن الـحـديـث”، وشـاركـت مـع جـواد والآخـريـن في مـعـرضـهـا الأول عـام 1951، كـمـا شـاركـت في الـمـعـرض الـفّـني الّـذي أقـيـم في 1952 في مـعـهـد الـفـنـون الـجـمـيـلـة بـمـنـاسـبـة مـهـرجـان إبـن سـيـنـا بـثـمـاني لـوحـات وفـخـاريـة واحـدة.

ولـديـنـا لـوحـة رسـمـتـهـا لـورنـا عـام 1952 واسـمـتـهـا “الـشّـحّـاذ” (زيـت عـلى قـمـاش 60×24 سـم.) ، نـرى فـيـهـا نـافـذة مـضـاءة يـطـلّ عـلـيـنـا مـن بـيـن سـتـارتـهـا وجـه امـرأة. ونـمـيّـز مـا يـشـبـه الـطّـاولـة عـلـيـهـا بـطـيـخـة عـلى صـحـن أبـيـض وأشـكـال حـمـراء وبـرتـقـالـيـة وخـمـس قـنـاني مـاء مـنـتـصـبـة عـلى الـيـمـيـن وقـنـيـنـة مـاء بـارد مـقـلـوبـة عـلى الـيـسـار :

وعـنـدمـا تـنـسـحـب الـعـيـن مـن بـقـعـة الـضّـوء الّـتي تـجـذبـهـا أوّل مـا تـجـذبـهـا تـبـصـر بـجـدار خـارجي مـن الـطّـابـوق وبـمـشـبّـك عـلى الـيـسـار مـثـل تـلـك الّـتي كـانـت تـعـلّـق أمـام الـنّـوافـذ مـن الـخـارج وتـمـلأ بـالـعـاقـول وتـرّش لـتـبـرّد الـهـواء. ثـمّ نـتـفـحّـص شـكـلاً غـريـبـاً يـمـتـدّ في عـتـمـة ظـلّ الـنّـافـذة، ونـكـتـشـف شـيـئـاً فـشـيـئـاً رأس رجـل مـسـتـلـقٍ عـلى الأرض يـبـدو جـمـجـمـة الـتـصـق عـلـيـهـا جـلـده. ونـمـيّـز ذراعـاً وسـاقـيـن رسـمـتـهـمـا كـعـظـام ظـاهـرة تـحـت دشـداشـتـه الـمـقـلّـمـة. وأمـامـه صـحـن رسـمـتـه لـورنـا عـلى الـطّـريـقـة الـسّـيـزانـيـة أي مـواجـهـة بـدلاً مـن أن تـظـهـره جـانـبـيـاً، فـيـه مـا يـبـدو كـمـيـة مـن الـرّز.

ورغـم صـعـوبـة فـهـم مـوضـوع الـلـوحـة لأوّل وهـلـة وقـبـل قـراءة عـنـوانـهـا، فـقـد تـوصـلـت الـفـنّـانـة وبـوسـائـل بـسـيـطـة وبـدون ثـرثـرة صـوريـة إلى الـتّـعـبـيـر عـن عـالـمـيـن مـتـضـادّيـن تـجـاورا وامـتـدا أمـام عـيـنـيـهـا. وربّـمـا بـالـغـت قـلـيـلاً في إظـهـار بـؤس الـشّـحّـاذ ونـظـراتـه الـغـائـرة الّـتي يـرفـعـهـا نـحـو الـمـرأة الـشّـابـة الّـتي تـلـقي عـلـيـه بـنـظـرة سـريـعـة مـن بـيـتـهـا الـمـلئ بـالـخـيـرات.

ويـرتـكـز بـنـاء الـلـوحـة عـلى عـدّة مـسـاحـات مـتـفـاوتـة الإضـاءة : الـمـطـبـخ الـمـضـاء، والـضّـوء الّـذي يـسـيـل مـنـه كـشـبـه مـنـحـرف هـنـدسي نـحـو الـطّـريـق والّـذي يـزيـد مـن عـتـمـة الـجـدار الّـتي رسـمـتـه الـفـنّـانـة في جـانـبي الـلـوحـة بـالأحـمـر والـبـنّي والأزرق الـكـامـد، وطـبـعـاً الـعـتـمـة الّـتي يـسـتـلـقي فـيـهـا الـشّـحّـاذ والـظـلّ الأسـود الـمـظـلـم الّـذي يـلـقي بـه جـسـده عـلى الأرض.

واسـتـعـمـلـت في الـضّـوء ألـوانـا زاهـيـة بـيـنـمـا اخـتـارت ألـوانـاً كـامـدة في الأجـزاء الـمـعـتـمـة. وكـلّ هـذا بـضـربـات فـرشـاة عـريـضـة غـطـت بـهـا الـمـسـاحـات طـبـقـة فـوق طـبـقـة ورسـمـت عـلـيـهـا تـفـاصـيـل الأشـكـال بـفـرشـاة دقـيـقـة.

ويـمـكـن لـلـرّائي أن يـتـصـور أنّ الـفـنّـانـة ارتـجـلـت الـمـشـهـد وخـطـطـتـه بـالـفـرشـاة بـسـرعـة، ولـكـنـنـا نـقـرأ أنّ لـورنـا كـانـت تـرسـم بـبـطء وبـعـنـايـة، وتـبـدأ دائـمـاً بـالـتـخـطـيـط وتـرسـم اسـتـنـاداً إلى مـنـظـر مـرئي.

وشـاركـت لـورنـا في 1953 في مـعـرض الـمـعـهـد الـثّـقـافي الـبـريـطـاني الّـذي جـمـع بـيـن فـنـانـيـن عـراقـيـيـن وأوربـيـيـن بـثـمـاني لـوحـات. وفي عـام 1954، شـاركـت مـع جـواد في مـعـرض دمـشـق الـعـالـمي. وعـرضـا جـداريـات فـيـهـا أهـلّـة بـأشـكـال وأحـجـام مـخـتـلـفـة. (5)

ولـديـنـا لـوحـة زيـتـيـة رسـمـتـهـا لـورنـا عـام 1955 لامـرأة مـفـوّطـة حـمـراء الـثّـيـاب (فـاطـمـة) تـحـمـل ابـنـهـا الـصّـغـيـر. ونـلاحـظ الأسـاور حـول مـعـصـمـهـا والـحـجـل بـأجـراسـه الـصّـغـيـرة حـول كـاحـل الـطّـفـل. وتـضـع الأمـهـات عـادة حـجـلـيـن حـول كـاحـلَي الـطّـفـل الّـذي يـبـدأ الـمـشي عـنـدمـا يـبـلـغ الـسّـنـة الأولى مـن عـمـره أو قـبـل ذلـك بـقـلـيـل. ومـع ذلـك فـطـفـل الـلـوحـة يـبـدو أكـبـر عـمـراً مـن ذلـك بـكـثـيـر :

وعـنـدمـا نـنـظـر إلى هـذه الـلـوحـة، يـبـدو لـنـا أنّ في تـنـفـيـذهـا الـكـثـيـر مـن الـتّـلـقـائـيـة، فـقـد رسـمـتـهـا بـضـربـات فـرشـاة عـريـضـة تـنـزلـق عـلى قـمـاش الـلـوحـة بـحـرّيـة. ولـم تـعـتـنِ بـخـلـط الألـوان خـلـطـاً تـامّـاً لـتـظـهـر صـفـحـة الـلـوحـة مـلـسـاء تـتـدرّج فـيـهـا الألـوان، وإنـمـا ألـقـت عـلـيـهـا الألـوان طـبـقـة فـوق طـبـقـة : الـرّصـاصي والأبـيـض فـوق الأصـفـر، والـرّمـادي والأبـيـض فـوق سـواد الـفـوطـة … وعـيـن الـرّائي هي الّـتي تـمـزج ألـوان الـلـوحـة. وكـلّـمـا رجـع إلى الـخـلـف لـيـبـتـعـد عـنـهـا كـلّـمـا ازداد امـتـزاجـهـا. كـمـا نـلاحـظ أنـنـا لا نـعـرف مـن أيـن يـأتي الـضّـوء فـيـهـا ونـبـحـث عـن الـظّـلال فـلا نـجـدهـا، فـالـفـنّـانـة تـتـحـاشى الـتّـظـلـيـل ! ولا نـعـرف إن كـانـت الأمّ وابـنـهـا أمـام جـدار أم أمـام مـكـان مـفـتـوح، فـلـيـس في الـلـوحـة عـمـق.

ولـديـنـا لـوحـة أخـرى رسـمـتـهـا لـورنـا عـام 1956 لـ “بـائـع الـلـيـمـون” وهـو يـعـرض سـلـعـتـه عـلى امـرأتـيـن جـالـسـتـيـن، وقـف بـجـانـبـهـمـا طـفـلان، بـنـت وولـد :

وقـد اسـتـعـمـلـت ألـوانـاً ثـخـيـنـة في خـلـفـيـتـهـا فـركـتـهـا بـفـرشـاة عـريـضـة طـبـقـة فـوق طـبـقـة بـيـنـمـا خـفـفـتـهـا في مـقـدمـتـهـا حـتّى بـدت شـفـافـة في بـعـض الـمـواضـع، ورسـمـت عـلـيـهـا بـالـفـرشـاة تـفـاصـيـل أجـسـاد الأشـخـاص الـخـمـسـة وطـيّـات مـلابـسـهـم. وقـد وضـعـتـهـم في نـصـف دائـرة مـقـابـل الـرّائي، مـمـا أضـفى عـلى الـلـوحـة نـوعـاً مـن الـعـمـق بـدون أن تـلـجـأ إلى اسـتـعـمـال قـوانـيـن الـمـنـظـور. وهي في لـوحـات تـلـك الـفـتـرة تـتـبـع فـنّـاني الـحـداثـة الّـذيـن تـحـاشـوا قــوانـيـن الـمـنـظـور لارتـبـاطـهـا في أذهـانـهـم بـالـفـنّ الـكـلاسـيـكي. وقـد تـبـعـتـهـم أيـضـاً في تـحـاشي اسـتـعـمـال الـتّـظـلـيـل. ورسـمـت أشـخـاصـهـا وخـاصـة رؤوسـهـم بـعـدّة أوضـاع : جـانـبـيّـاً أو مـواجـهـة أو مـن ثـلـثـيـن.

واسـتـعـمـلـت في خـلـفـيـة الـلـوحـيـة ألـوانـاً بـنّـيـة مـصـفـرّة أو مـتـورّدة أو مـخـلـوطـة بـتـدرّجـات الـلـون الـرّمـادي. واسـتـعـمـلـت في أرضـيـة الـمـشـهـد بـعـض ألـوان الـخـلـفـيـة ولـونـاً قـهـوائـيـاً. وأضـافـت عـلى أجـسـاد الـشّـخـصـيـات ومـلابـسـهـم ألـوانـاً رمـاديـة ورصـاصـيـة وقـهـوائـيـة فـاتـحـة وغـامـقـة، وأبـيـض وأزرق وأحـمـر كـامـداً وآخـر زاهـيـاً وخـطـوطـاً بـرتـقـالـيـة. ولـم تـسـتـعـمـل ألـوانـاً صـافـيـة، وتـحـاشـت الـلـون الأخـضـر.

كـمـا شـاركـت لـورنـا في مـعـرض الـمـعـهـد الـثّـقـافي الـبـريـطـاني الّـذي جـمـع بـيـن فـنـانـيـن عـراقـيـيـن وبـريـطـانـيـيـن عـام 1956 بـلـوحـتـيـن، وشـاركـت في مـعـرض بـغـداد لـلـرّسـم والـنّـحـت الّـذي أقـيـم في نـادي الـمـنـصـور في نـفـس الـعـام بـثـمـاني لـوحـات. كـمـا شـاركـت في الـعـام الـتّـالي، 1957 في نـفـس الـمـعـرض بـلـوحـة زيـتـيـة : (مـسـاء صـيـف) وبـتـخـطـيـط.

وفي عـام 1957، بـدأ هـدم أعـداد كـبـيـرة مـن الأبـنـيـة الـقـديـمـة والـبـيـوت الـتّـراثـيـة لـفـتـح شـارع عـريـض يـوازي شـارع الـرّشّـيـد. وجـلـسـت لـورنـا سـاعـات طـويـلـة أمـام مـجـمـوعـات مـن الـمـنـازل الـبـغـداديـة الـقـديـمـة قـبـل هـدمـهـا لـتـرسـمـهـا، ولـكـنّـهـا لـم تـلـتـقـط لـهـا صـوراً.

وجـلـسـت لـورنـا، كـمـا سـبـق أن ذكـرنـا، سـاعـات طـويـلـة أمـام مـجـمـوعـات مـن الـمـنـازل الـبـغـداديـة الـقـديـمـة قـبـل هـدمـهـا لـتـرسـم أكـثـر مـا يـمـكـنـهـا مـنـهـا، ولـكـنّـهـا لـم تـلـتـقـط لـهـا صـوراً. وكـانـت تـخـطـط رسـمـهـا بـالأقـلام قـبـل أن تـرجـع إلى الـدّار لـتـعـيـد رسـمـه بـالألـوان، ثـمّ تـعـود بـعـد ذلـك إلى الـمـكـان لـتـتـأكّـد مـن كـلّ الـتّـفـاصـيـل والـجـزئـيـات ومـن دقّـة اخـتـيـارهـا لـلألـوان.

ولـديـنـا تـخـطـيـطـات رسـمـتـهـا لـورنـا لـبـعـض الأبـنـيـة، نـرى فـيـهـا طـريـقـة عـمـلـهـا .

وقـد اسـتـمـرّت لـورنـا كـفـنّـانـة في خـلـق عـالـمـهـا الـفـنّي الـخـاصّ الّـذي كـانـت تـضـعـه في لـوحـات تـشـارك بـهـا في الـمـعـارض الـفـنّـيـة، ولـكـنّـهـا نـفّـذت إلى جـانـب ذلـك رسـومـهـا “الـتّـسـجـيـلـيـة” لـدور بـغـداد الـقـديـمـة الّـتي حـفـظـت لـنـا بـعـض ذكـريـات تـراثـنـا الـمـعـمـاري الـتّـراثي.

نـصـب الـحـريـة ووفـاة جـواد :

وفي عـام 1959، إقـتـرح الـمـعـمـاري رفـعـة الـجـادرجي عـلى الـحـكـومـة الـعـراقـيـة تـشـيـيـد لـوح عـريـض مـن الـرّخـام الأبـيـض، طـولـه خـمـسـون مـتـراً، يـنـصـب عـلى ركـيـزتـيـن عـالـيـتـيـن، وتـثـبّـت عـلـيـه أربـع عـشـرة مـنـحـوتـة بـارزة مـن الـبـرونـز، يـعـهـد بـنـحـتـهـا لـجـواد سـلـيـم. ووافـق رئـيـس الـوزراء عـبـد الـكـريـم قـاسـم عـلى الـفـكـرة.

وبـعـد أن قـدّم جـواد نـمـوذجـاً مـصـغـراً لـجـزء مـن الـمـنـحـوتـات سـافـر إلى إيـطـالـيـا في أواخـر آذار مـصـطـحـبـاً مـعـه زوجـتـه لـورنـا وابـنـتـيـه. وبـقي مـع عـائـلـتـه شـهـراً في رومـا. وهـنـاك الـتـقي بـمـحـمّـد غـني حـكـمـت الّـذي كـان يـدرس الـنّـحـت فـيـهـا. وكـان مـحـمّـد غـني مـن طـلّاب جـواد في مـعـهـد الـفـنّـون الـجـمـيـلـة. واخـتـاره جـواد لـيـسـاعـده في إكـمـال الـنّـصـب واصـطـحـبـه مـعـه إلى مـديـنـة فـلـورنـسـا الّـتي أجّـر فـيـهـا مـشـغـلاً.

وأرسـل جـواد إلى بـغـداد مـنـحـوتـة مـن مـنـحـوتـات الـنّـصـب كـان قـد أكـمـل صـبّـهـا في الـبـرونـز: الـمـرأة الّـتي تـحـمـل مـشـعـل الـحـرّيـة. وثـبّـت عـلى الـقـاعـدة الـرّخـامـيـة الّـتي كـان رفـعـة الـجـادرجي قـد أكـمـل تـشـيـيـدهـا، وأزيـح عـنـهـا الـسّـتـار في نـفـس الـعـام، 1959، في احـتـفـالات مـرور سـنـة عـلى انـدلاع ثـورة 14 تـمّـوز :

وبـقي جـواد مـع عـائـلـتـه في فـلـورنـسـا سـنـة ونـصـف، وعـادوا إلى بـغـداد في بـدايـة عـام 1961. ثـمّ وصـلـت الـمـنـحـوتـات الـبـرونـزيـة بـعـدهـم إلى بـغـداد. وقـبـل أن يـبـدأ بـتـثـبـيـتـهـا عـلى الـقـاعـدة الـرّخـامـيـة، أصـيـب جـواد بـذبـحـة صـدريـة وأدخـل إلى الـمـسـتـشـفى، وتـوفي في 23 كـانـون الـثّـاني 1961.

لـورنـا بـعـد وفـاة جـواد :

يـمـكـنـنـا أن نـتـصـوّر مـدى صـعـوبـة الـقـرار الّـذي كـان يـنـبـغي عـلى لـورنـا اتـخـاذه بـعـد وفـاة زوجـهـا، خـاصّـة وأنّـه لـم يـكـن لـهـا الـجـنـسـيـة الـعـراقـيـة. ولـكـنّـهـا قـررت أن تـبـقى في الـعـراق لـتـربي ابـنـتـيـهـا فـيـه، ولـتـشـرف عـلى إكـمـال تـثـبـيـت مـنـحـوتـات نـصـب الـحـرّيـة الـبـرونـزيـة الـثّـلاث عـشـر الـبـاقـيـة، بـعـد أن تـثـبّـتـت عـلى الـقـاعـدة الـرّخـامـيـة عـام 1959 مـنـحـوتـة الـمـرأة الّـتي تـحـمـل مـشـعـل الـحـرّيـة. وقـد سـاعـدهـا عـلى إنـجـاز هـذه الـمـهـمـة الـشّـاقّـة مـحـمّـد غـني حـكـمـت الّـذي كـان قـد عـاد هـو الآخـر إلى الـعـراق مـن إيـطـالـيـا.

وفي عـام 1961، حـصـلـت لـورنـا عـلى الـجـنـسـيـة الـعـراقـيـة بـقـرار مـن رئـيـس الـوزراء عـبـد الـكـريـم قـاسـم. وعـيّـنـت في نـفـس الـعـام لـتـدريـس الـرّسـم في كـلّـيـة الـبـنـات، الّـتي كـان اسـمـهـا كـلّـيـة الـمـلـكـة عـالـيـة قـبـل الـثّـورة.

ووجـدت لـوحـة رسـمـتـهـا لـورنـا عـام 1962 نـلاحـظ فـيـهـا بـوضـوح تـغـيـر أسـلـوبـهـا الّـذي رأيـنـاه في فـتـرتـهـا الـبـغـداديـة الأولى. وهي لـوحـة مـسـتـطـيـلـة عـمـوديـاً، قـسّـمـتـهـا إلى مـسـتـطـيـلات مـنـفـصـلـة، أفـقـيـة وعـمـوديـة، تـعـلـوهـا نـخـلـة مـخـتـزلـة وشـمـس صـلـصـالـيـة. وتـنـتـصـب وسـطـهـا امـرأة مـسـطّـحـة وبـنـت، بـيـنـمـا امـتـلأت الـمـسـتـطـيـلات الأخـرى بـأشـكـال هـنـدسـيـة. واسـتـعـمـلـت ألـوانـاً كـامـدة في غـالـبـيـتـهـا وإن أضـاءتـهـا هـنـا وهـنـاك ضـربـات فـرشـاة بـيـضـاء أو بـرتـقـالـيـة .

ولـديـنـا لـوحـة رسـمـتـهـا لـورنـا عـام 1964 (؟) لـمـجـمـوعـة دور بـغـداديـة وفي عـام 1965، دعـاهـا مـحـمّـد مـكّــيـة، لـتـدريـس الـرّسـم في كـلـيـة الـهـنـدسـة لـطـلّاب الـفـنّ الـمـعـمـاري. وبـقـيـت فـيـهـا سـتّ سـنـوات.

مستل من بحث مهم للدكتور الناصري في مدونته ( بين دجلة والفرات )