عبد الرزاق قرنح: نوبل الهوية واللجوء و«الاستعمار»

عبد الرزاق قرنح: نوبل الهوية واللجوء و«الاستعمار»

محمد ناصر الدين

إنّه الأفريقي الخامس الذي يفوز بجائزة الأكاديمية السويدية. منذ عام 1987، نشر الروائي التنزاني حوالى عشرة كتب، فيما تشكل روايته «الجنة» أحد أشهر مؤلفاته. في بيان لجنة التحكيم أمس، أشارت إلى سرده «المتعاطف الذي يخلو من أيّ مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات».

أعاد منح جائزة «نوبل للآداب» (1.14 مليون دولار أميركي) أمس للروائي التنزاني عبد الرزاق قرنح (1948) الاعتبار لرواية «الاستعمار» وتأثيراته بعد أكثر من قرن على المُستعمرين الذين تدفعهم ندوب الماضي إلى الذهاب نحو حضن المستعمِر في هجرة عكسية تتفسّخ فيها المكونات الهشّة للهوية واللغة والعرق والدين، وتتشظى وتتعرى في البرزخ الصعب بين عالمين وبشرتين ولسانين. إنّه الأفريقي الخامس الذي يفوز بجائزة الأكاديمية السويدية بعد النيجيري وول سوينكا (1986)، والمصري نجيب محفوظ (1988) والجنوب- إفريقية نادين غورديمير (1991) ومواطنها جون ماكسويل كوتزي (2003). في بيانها، أوضحت لجنة التحكيم أنّ قرنح (يمني الجذور من حضرموت) الذي نشر حوالى عشرة كتب منذ عام 1987 وتشكل روايته «الجنة» أحد أشهر مؤلفاته، مُنح الجائزة نظراً إلى سرده «المتعاطف الذي يخلو من أي مساومة لآثار الاستعمار ومصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات»، وهو يبتعد في مؤلفاته عن «الأوصاف النمطية»، ويفتح عيون القراء «على شرق أفريقيا المتنوع ثقافياً وغير المعروف جيداً في أجزاء كثيرة من العالم».

ولد عبد الرزاق قرنح في تنزانيا في عام 1948 ثم جاء إلى بريطانيا كطالب في عام 1968، وعمل لسنوات أستاذاً للأدب الإنكليزي وآداب ما بعد الاستعمار في «جامعة كنت»، ويشارك في تحرير مجلة Wasafiri . ولئن كان اسم قرنح لم يول الاهتمام الكافي في الأوساط العربية والفرنكوفونية على صعيد نشر أعماله وترجمتها، إلّا أن اسمه معروف في الأوساط الثقافية البريطانية، وبخاصة في دائرة أدب المهاجرين الذي لم ينقطع فيه حبل السرة بعد بين «المملكة التي لا تغيب عنها الشمس» في الماضي ورعاياها. كتب أكثر من عشر روايات، ووثّقت رواياته الثلاث الأولى «ذاكرة الرحيل» (1987)، و«طريق الحج» (1988) و«دوتي» (1990)، تجربة المهاجرين في بريطانيا المعاصرة من وجهات نظر مختلفة. تدور أحداث روايته الرابعة «الجنة» (1994) في شرق أفريقيا المستعمَرة خلال الحرب العالمية الأولى، ويعالج فيها العلاقة الصعبة بين التنزانيين والمستعمرين الألمان لبلادهم في حينها، فحضرت على قائمة جائزة «بوكر» للرواية ذلك العام. أما رواية «معجب بالصمت» (1996)، فتحكي قصة شاب يغادر زنجبار مهاجراً إلى إنكلترا حيث يتزوج ويصبح مدرّساً. تؤثر زيارة العودة إلى بلده الأصلي بعد 20 عاماً بشكل عميق في موقفه تجاهه وتجاه زواجه لتتبعها «عن طريق البحر» (2001) و«هجران» (2005) التي أدرجت في القائمة المختصرة لـ «جائزة كتاب الكومنولث» لعام 2006، و«الهدية الأخيرة» (2011).

وبالانتقال إلى شرح هندسة الأعمال الروائية لقرنح وبناء الشخصيات وعوالمها الداخلية وتفاعلها مع نفسها ومع «الآخر»، فيبدو ما أورده بيان الأكاديمية في غاية الدقة: «تجد الشخصيات نفسها في فجوة بين الثقافات والقارات، بين حياة كانت موجودة وحياة ناشئة. إنها حالة غير آمنة لا يمكن حلّها أبداً». ففي عمل قرنح الدؤوب على مواضيع الهوية واللجوء والهجرة، نرى كدح الوافدين الجدد إلى بلاد المستعمر في بناء هوية جديدة لأنفسهم لتناسب بيئاتهم الجديدة، ما هو شبيه بلعبة كرة الطاولة بين حياتهم الجديدة ووجودهم الماضي.

تستند جميع روايات قرنح إلى التأثير المدمّر الذي تُحدثه الهجرة إلى سياق جغرافي واجتماعي جديد، على هويات شخصيته أو حضور الآخر إلى ملعب هذه الشخصيات كما في «الجنة» بكل إشكالياته. بالنسبة إلى قرنح الذي عانى، مثل شخصياته، من النزوح من موطنه الأصلي زنجبار إلى بريطانيا في عمر المراهقة، فإنّ الهوية هي مسألة تغيير مستمر، وما تفعله الشخصيات الرئيسية في رواياته هو على وجه التحديد زحزحة «منطقة الاطمئنان» في نفسها، وفي البيئات التي تهاجر إليها. وهو ما أشار إليه الناقد الثقافي البريطاني بول غيلروي: «عندما تتمثّل الهويات القومية والعرقية وتُعرض على أنها نقية، فإن التعرض للاختلاف يهددها بالتمييع ويهدد نقاوتها الثمينة باحتمال التلوث الدائم. يجب الحذر من العبور كخليط وحركة. يمثل أبطال روايات قرنح هذا التلوث لهويات الآخرين من خلال اختلافهم. عندما يذهب الراوي الذي لم يذكر اسمه في «معجب بالصمت» (1996) إلى والدي صديقته ليخبرهما أنها حامل. ينظران إليه بكراهية لأن ابنتهما ستضطر إلى العيش مع نوع من التلوث لبقية حياتها. لن تكون قادرة على أن تكون امرأة إنكليزية عادية مرة أخرى، تنعم بحياة إنكليزية غير معقدة بين الإنكليز».

تنظر شخصيات قرنح إلى ماضيها بمشاعر مختلطة من المرارة والشعور بالذنب لما تركته وراءها. في كثير من الأحيان، يستلزم الانتقال إلى مكان مختلف محو أيّ اتصال مع ماضيهم وعائلاتهم السابقة «كل ذكرى تسحب الدم. إنه مكان قاسٍ، أرض الذاكرة، مستودع معتم ومدمّر بألواح خشبية متعفّنة وسلالم صدئة... («عن طريق البحر»، ص 86).

في عمله الأقوى «الجنة» (1994)، شرّح قرنح العلاقة الملتبسة بين المستعمِر والمستعمَر من خلال البناء السردي لدور الأفراد، ولكن أيضاً الأماكن، مثل المدينة، في عملية الاتصال بين الشخصيات من الطرفين. نحن أيضاً نستكشف اللعبة في شكل القصة نفسه الذي يصبح تبادلاً بين الأنواع الأدبية المختلفة في عرض لما ينتج عن الاستعمار من اتصال بين الثقافات، وغالباً ما تكون مختلفة جداً، لبشر يجدون أنفسهم في مواجهة أنظمة قيم متضاربة، وكيف يؤدي الاستعمار إلى حقبة من التغيير العميق للبلد، ويخلق الوجود المفروض من قبل المستعمر - سلمياً أم لا - تساؤلاً عن هوية المستعمَر وقيمه الأصيلة والتعديل القسري الذي يطرأ عليها وكيفية نظر الفرد والمجتمع إلى الآخر وحدود إغلاق الهوية وفتحها طوعاً أو قصراً على تأثيرات الغريب والآخر. فالمستعمِر يصوّر مجازياً كالتالي: «العلم الأصفر الضخم الذي يحمل شعار طائر أسود لامع»، أي بصورة متعالية لا تسمح بالتبادل البتة. كما أن هيمنة الأوروبيين على القوانين الجديدة للبلاد التي احتلوها تجعل سكانها الأصليين غير مؤهلين (أو قيد التأهيل) لدمجهم وظيفياً بعد في النظام الإداري الغربي، فتنشط المخيلة الشعبية لسكان البلاد على هامش الانصياع للنظام الاجتماعي الجديد الذي فرضه المستعمرون: «هل كان صحيحاً أنّه يمكنهم (الألمان) ابتلاع المعدن؟». كما ركّز قرنح على التجارة التي عبرها (مواصلات، سكك حديد، مرافئ) يخلق المستعمرون التغيير في قلب هوية المستعمَرين، لأن التجارة مركزية بالنسبة إليهم. مركزية وحيوية في تعريفهم للحضارة. في قلب عالم غربي يسعى فيه اليمين لاسترجاع حنين إلى دم نقيّ وعرق صافٍ، يبدو اختيار قرنح لـ«نوبل» هذا العام يسير بعكس هذه النزعات الشوفينية ودعوة إلى الاختلاط وخيانة كبرى للـ «بلوكات» الغربية النظيفة ذات الثقافة النقية المستحيلة، سواء نتيجة للاختلافات العرقية أو الدينية أو الأخلاقية أو الاجتماعية التي يفرضها الوافدون الجدد ونراها منقوشةً بقوة في أدب عبد الرزاق قرنح.

عن الاخبار اللبنانية