فضاءات الأب يوسف سعيد،

فضاءات الأب يوسف سعيد،

مهدي يوسف

فضاءات الأب يوسف سعيد، فضاءات مفتوحة على أبجديات الكون، لغة من لون الشفق الصباحيّ، من لون العسل البرّي، من لون الماء الزلال!.. من لون أرض خصبة، خصوبة الحياة، من لون تربة «بازبداي»، يحمل بين ثناياه بذور المحبّة، لينثر ذراته على وجه الدنيا لعلَّ هذه الذرات تعطي خيراً وفيراً للبشر، كل البشر!

الأب يوسف سعيد حالة شعرية متفرّدة للغاية، هو نزيف شعري متدفق في كل حين!.. لا أظن أنه ينتمي إلى (جيلٍ ما)، انه جيل.. يتناسب أن نقول عنه (من كلِّ الأجيال!)..

صنّفه بعض النقاد من جيل الستينيات، لكن هل توقّف الشاعر عند جيل الستينيات أم تغلغل إلى كل الأجيال التي جاءت بعده؟!.. وهل هذا التغلغل تطاول على أجيال غيره أم انه انصهار تامّ في ديمومة تجديد الشعر عبر كافة منعطفات الأجيال المرافقة لمحطّات عمره؟!..

كيف يكتب الأب يوسف سعيد القصيدة؟..

الحياة عنده كتابة، والكتابة هي حياة متجدِّدة عبر غليان شعري.. ومن خلال تراكم هذه الغليانات، توصّل الشاعر إلى حالة ولا كل الحالات، انها نزيف شعري دائم.. يتدفّق شعراً كنزيف!

الزمان والمكان عنده ليسا مهمين، يكتب في أي زمان وأي مكان! وعندما يكتب قصيدة ما، لا تنتهي عنده، تبقى القصيدة مفتوحة، لأن النزيف الشعري عنده مفتوح على فضاء الكون!.. ولا يشعر بالموجودات التي حوله أثناء الكتابة، يتقمّصه الشعر فيكتب ويكتب ولا يتعب من الكتابة، كأنه في ريعان شبابه!.. وعندما يقرأ لكَ نصّاً ما كتبه، تجده يضيف جملاً شعرية عديدة غير مكتوبة، فتسأله: (...)، يضحك ويقول، هذه الإضافات لم أتمكَّن الامساك بها أثناء ولادة القصيدة، لأنها كانت تتزاحم على مخيَّلتي بشكل هائج، فتنحّت (هذه الإضافات) مختبئةً ثنايا الذاكرة الشعرية النازفة.. الآن جاء دورها لأقطفها وأضعها في سياقها المناسب.

ولكن هل تستطيع الإمساك بما يفلت منك من الجمل الشعرية المتدفّقة؟

لا، لا أستطيع أن أمسك بكل ما يفلت منّي، آخذ نصيبي وأترك الآخر يداعب ثنايا المخيلة، إلى أن تحينَ فرص أخرى.

عندما يزورك الأب يوسف سعيد، ضع في الحسبان، أن يتوفَّر في أركان منزلكَ أوراقاً وكتباً وأقلاماً!.. انه جاهز في كل لحظة للكتابة، وإليك يا أيها القارئ العزيز مثالاً عن كيفية إقتناصه الوقت من خاصرة الزمن.

فيما كنتُ أعدُّ فنجانين من القهوة، لا أخفي عليكم، تأخرت دقائق معدودة.

القهوة جاهزة (أبونا!)..

ضحك ضحكته المعهودة الرائعة، ثم قال، تعال وأسمع كي يبقى للقهوة مذاقٌ آخر!.. ثم تلا علي قصيدة.. ابتسم وبدعابة قال، أما كنتَ تستطيع أن تتاخَّر دقيقتين أخريين في إعداد القهوة؟..

فقلت لماذا؟..

أجابني، كنتُ سأكمل القصيدة!

يكتب عن أي موضوع،، وما يكتبه، يكتبه بعمق.. الحياة عنده برمتها مواضيع لكتابة الشعر، إنه يكتب (القصة، المسرح، والدراسات التحليلية).. لكنّه نادراً ما ينتهي من كتابة القصّة أو المسرحية التي يكتبها!.. لأنه سرعان ما يعود ليغوص في عالم الشعر الممتدّ على مساحات روحه، فيترك هذه المتفرقات (قصة، مسرح، دراسات)، يتركها جانباً ويسبح في بحار الشعر، يروي غليله، لعلّه يعود لاحقاً إلى القصة أو الدراسة التي بدأ بكتابتها.

الأرض، قصيدة من قصائد الأب يوسف سعيد، تعبِّر عن الحالة الحميمية بينه وبين الأرض.. يتواصل مع الأرض تواصلاً عميقا، فينبش بقلمه بطون الأرض مغترفاً الخيرات المكتنزة في أحضانها، ليقدِّمها للإنسان عبر الكلمة.

التراب، قصيدة مفتوحة على فضاء الرُّوح!.. الجملة الشعرية عند الأب يوسف سعيد، لا يمكن الإمساك بها، إنها جمل متشرشرة من أفواه النُّجوم ومنبعثة من ضياء الوجود وحفيف الأشجار!..

عندما تناقشه في خيط القصيدة وما شابه ذلك، يجيبكَ.. أية خيوط تتكلَّم عنها؟!.. فتسأله، طيب، على أي أساس كنتَ تكتب القصيدة؟

يجيبكَ ببساطة، لا يوجد عندي أي أساس وأية خيوط، القضية أعمق مما تظن، لأن الشعر عندي هو أشبه ما يكون بنزيف متدفِّق!.. أكتبه بعيداً عن الخيوط والأساليب التقليدية لكتابة الشعر، أكتبه كما أحسّ، عفواً!.. (لا أحسُّ) أثناء الحالة الإبداعية، أشعر وكأني (مختَطَف) نحو الأعالي، نحو فضاء فسيح، أكتب وكأنّي غائب عن الوعي أو في قمَّة وعيي!.. وأحياناً عندما أكتب نصَاً شعرياً، أجدني أتغلغل في نصٍّ آخر غير الّذي كنتُ (أنوي) كتابته.. وكم من المرّات، أكتب قصائد غير التي كنتُ أنوي كتابتها لحظة الكتابة، فالحالة الغليانية هي التي تحسم الومضات الإبداعية المتدفّقة.

السماء، قصيدة تحمل روح السموّ والارتقاء، يتوغَّل الشاعر في فضاءات الكون، راغباً أن يرتشفَ رحيق الوجود، ليقدّمه على طبق من ذهب للقارئ العزيز، ثم يفاجئكَ بقصيدة الماء!.. وأي ماء هذا الّذي يكتب عنه؟ إنه ماءٌ زلال!.. يغوص الشاعر في أعماق البحار، غير آبه بخطورة الغوص، كل ذلك من أجل أن يقدِّمَ لكَ درراً لا تعثر عليها في قاع المحيطات، أنها درر من نوع خاص، إنّها درر الشاعر الشفاف الأب يوسف سعيد!..

الأرض

الأرض، تحمل بين طيّاتها السفليّة رعشة أبديّة

زمهريرها يمتصّ من أحشائها النموّ

تفتح أبواب مصاريع الأبديّة

تعبر مواكبها نحو ذخائر الظلمة

آخر ملحقات شرائح الحديد

وتراب الفضّة والقصدير..

الأرض، تزيّن صدرها بأثداء ملوّنة من هضاب

تتفلّى جدائلها برائحة شمس شرقيّة

ناطقة بلغات مسيرات الغيوم

والسحب الصيفيّة

أسابيعها بيضاء من نصاعة شمس

تداعب أجفان يشوع بن نون

الأرض، تحتضن في أحشائها مهجة النور

تتلقَّى قطرات الندى والغيوث من صدر الجَلَد

أيّتها الأرض،

وجهك قطعة من شرائح مطر البركات

بذارك من مطر برارة النُّجوم البعيدة

الأرض تخبّئ في أوداجها منازل الظلمة

تجس أصابعها بدغدغات رفرفات فوق المياه..

قواعدها أبديّة

ركائزها من أنفاس النور.

الأرض تتحمّل انفطار الجَلَد فوق مياه الأمطار

تحتفظ بواطنها محيطات خفيّة..

رفرفات طائر العنقاء في سموات

ذات تجاعيد ملوّنة بدم الذهب

زحافات تحتضن الأبدية..

مقاطعات مدوّرة معبّأة

بأنفاس قمح الحقول..

الأرض، وحدها تعرف تفاعل المياه

وانحداراتها عبر شلالات

تصب في جزر سعيدة..

تحوّل خشب الجفر إلى مائدة

قرب مساكن البحار..

لاصطياد دلافينها

تحمل ماء السنين إلى فجوات

متغلغلة بين ضلوع صدر أخنوخ..

الأرض في انتظار عودة متوشالح

لارتداء قميص مقتطع من ستائرها

المعلّقة فوق مذابحها القديمة

الأرض، تصنع أسلحتها

من صوّانات واسطوانات تعانق تربة

تكوّن خاصرة لتربة البحر

تعانق غيوماً تتسلّى بجدائله

يسقط قناعها على حافّات

تربة المراعي السعيدة..

الأرض خميرة من سلوى الصحارى

عجينها من ذهب الإبريز

تحمل أجنحة الكاروبيم ورفرفاتها

في فراغات عودة الآلهة

إلى مساكنها الفضيّة

تطبع على خدودها

خلاصةُ دمٍ من وردة نيسان

الأرض، حوافيها منارات قبالة عرش الملوك

عبارة عن كنوز سرّية

أنفاسها تشرق بخوراً

من عطور رداء الكهنة

الأرض تحمل فوق فوهات أسرارها

عصوَين من خشب السرو..

الأرض، عبارة عن خمسة كؤوس لوزيّة

بعُجْرها وأزهارها

تحمل على راحتيها

سبعة من سُرُجٍ منيرة

بدم الأزهار الربيعيّة

الأرض، معاصرها تحتوي على خلاصات

من حبّات زيتون مرضوض

تغذّي منائر هياكلها القديمة

زيتها يفتح أشرعة خياليّة

فوق بساط العبادة

مَن يدخل لمحاكمة أبناء الأرض؟

من يحمل توبيخها لإثارة العواصف؟

لابتلاع شهقة اللحظة

من أهداب يونس

أيّتها الأرض،

مَن يعلّق على منكبيك ثياب العزاء؟

مّن يحمل عطش الأبناء إلى آبار الحنان

ومنطلقات رعشة الأبوّة؟

الأرض في الصباح تزحف أقاليمها

نحو ضباب الأبديّة

تتغرغر في الغَسَق

بماء عصارات ندى الصحراء

فسائلها من أكتاف أزهار الجنّة

أيّتها الأرض،

مَن يحمل عطش أبناءك إلى آبار الحنان؟

مَن يحتسي رعشة من دفقات عروق الأبوّة؟

الأرض في الصباح يزحف ضبابها

إلى وهادٍ رغيدة

تطوي بين ترابها الخالد

تبر الذهب المصفّى

الأرض يوميّاً ترقرق دموعها بحصى الأودية

تغدق على أفواه الجياع من دسمها

ذراعها يغرف مراراً

من خبز التقدمات

آخر رعشة

في جسد حسّها الكهربائيّ

الأرض تحمل شبق لذائذها

إلى رؤوس الكواكب

تستوعب آخر تنهّدات صقيع

يفهرس كيانات المحيط البعيد

أسرجة تتدفّق منها نهارات

من ضوء الأفلاك

الأرض تحمل سفن صمتها

إلى الممرات البعيدة

تحمل ترسانة الإيمان

وسادة محبوكة من بخور الشفق الوليد

تحمل غفوتها إلى قارات

لتسمّد طاقاتها العذراء

الأرض، جواهر من كلمة خالقة

تحبك أوردة لقلب السماء

الأرض، تستقبل في الصباح

حفيفاً من أجنحة نحلة..

وعندما يأتي المساء

تأخذ رغيفها المستقطر من أحشائها

وترحل

الأرض رغبة أصيلة يتفصّد صمغها

تأخذ اضمامة من سنابلها الخضراء

تحفّ بها وجه أديم البحار

مراراً تصنع قوالب جملها وعباراتها

من زبد بحر لازوردي

الأرض كصفاء الضوء في بؤبؤ عيون الجواميس

حيث رونق النور

الأرض عبارة عن طاقات عذراء

تحمل رعشة من سحر السموات

الأرض شرائعها على موائد مذابحها

كفريضة موقّرة ومبجّلة

تردّد ملء حنجرتها هلليلويا

الأرض سبّحته من فرط كثرة عظمته

سبّحته بصوت الصور

سبّحته برباب وعود

سبّحته بدفوف ورقص

سبّحته بأوتار ومزمار

سبّحته بصنوج التصويت

بصنوج الهتاف

لك أيّتها القصائد أردّد

هلليلويا هلليلويا هلليلويا

الأرض تحمل بين أصابعها فرح الدفوف

ونغمات ساحرة من ذبذبات العود

ينبجس سحرها ينابيع خمرة معتّقة

دنانها معبّأة من طلّ السماء