مبنى الموانيء بالبصرة.. العمارة والمدينة

مبنى الموانيء بالبصرة.. العمارة والمدينة

د. خالد السلطاني

لم تكن البصرة مدينة عادية، لم يكن تاريخ البصرة عادياً، لم يكن اسم البصرة اسماً عادياً. ولهذا فان عمارة البصرة، لم تكن هي الأخرى، عمارة..عادية. ففي تلك المدينة/ الميناء، (التى منحت اسمها الى اسم خليج، يبعد عنها بحوالي 55 كم، ودعي، منذ ذاك، باسم «خليج البصرة»)، في تلك المدينة «ظهر» في مشهدها المعماري، لاول مرة، على سبيل المثال لا الحصر،

مبنى «مسجد» إسلامي، كمنشأ مخصص بقرار مسبق للصلاة. خططه، كما تقول الرواة «محجن بن الأدرع» احد الصحابة، الذين كانوا برفقة «عتبة بن غزوان مؤسس المدينة وصاحب قرار بناء مسجدها الأول في سنة 14 هجرية، الموافق لعام 636 ميلادية. صحيح، ان «المسجد» جاء بصيغة بدائية، وبمواد هشة اغلبها جذوع وسعف النخيل، لكنه ظل يحتفظ بريادة وأولوية تكوينه المبتكر. ومنه، من البصرة، عرف العالم نوعاً «تابولوجيا» جديدا في النشاط التصميمي. (ذلك لان ما تم سابقاً، في مكة والمدينة من نشاط في هذا الاتجاه، غلب عليه اما غياب الفكرة المسبقة، اوالتواضع في المقياس). وظلت الممارسة المهنية المعمارية، تسترجع على امتداد قرون، ذلك الحدث «البصراوي» التصميمي الرائد، جاعلة منه «مرجعاً» لتنويعات «ثيميويه» مدهشة، مضيفة بنماذجها المعبرة الشيء الكثير الى ذخيرة العمارة العالمية، مغنية بذلك مجال تنويعاتها. وهل يمكن نسيان اسم البصرة ومكانها، و»مكانتها» الأسطورية في المخيلة الانسانية، التى خلدتها قصص «السندباد البحري»؟ وعنها: عن «بصرياثا»، المدينة التى ستجترح اسلوب عمرانها الحضري الخاص، وستشكل أنواع عماراتها المثيرة، كتب محمد خضير، يوما ما، مايلي»..قبل البصرة كانت بصرياثا. لولا النخلة ما وجدت المخاريف، ولولا المخاريف ما وُجد اللاقطون. ولولا اللاقطون ماوجُدت السفن، ولولا السفن ماوُجد الميناء، ولولا الميناء ما كانت لتقوم مدينة. تجول الجاحظ في أسواق المدينة القديمة ووقف أمام دكةٍ في جامع فسمع لغط الزنج والزط والعوام، ففرزنه عن كلام العرب. لولا العوام ماوُجدت الموانئ، ولولا لحون الخلطاء ما وجد لسان عربي. ولولا ذلك اللسان ما وُجد (العين) وصاحبه. ولولا (البخلاء) ماوُجد الجاحظ. ولولا المكّدون ماوُجد قصاصون. ولولاهم ما وُجدنا. من دوننا جميعاً ما وُجدت المدن..» (محمد خضير» بصرياثا، منشورات المدى، دمشق، 1996، ص. 11-12).

مع كل الظروف القاسية التى مرّت بها البصرة، ومحاولات التهميش التى تعرضت لها، بل وما جابهته من مسعى كثر لالغاء دورها الحضاري والثقافي، فقد كانت البصرة دوماً، تبهر محيطها العمراني، بنماذج تصميمية رائعة، اعتبرت في كثير من الاحيان، مادة للاقتداء والاحتذاء والتباهي. بيد أن دورها في تكريس عمارة الحداثة في بلدنا، كان مميزاً ومهماً في آن. ففي البصرة، تحديداً، تم ارساء «اللبنة» الاولى في صرح عمارة الحداثة العراقية، حتى قبل تشكيل الدولة ذاتها في آب 1921، عندما تم بدء تشييد مبنى «مستشفى مود التذكاري» (1920-1922)، اول منشأ معماري حداثي في البلد الذي سيظهر لاحقاً، على الخارطة الجغرافية الاقليمية باسم «العراق»! ورغم غنى المشهد المعماري «البصراوي»، بامثلة عديدة من المباني المميزة، فثمة مبنى مهم فيها، قُدرّ لعمارته أن تكون احد اجمل مباني العراق الحديث في العشرينات، ومن اكثرها حذاقة وبراعة في التنفيذ. نحن نتحدث، بالطبع، عن مبنى «مديرية الموانئ العامة» بالبصرة (1925-1927)، المعمار: جميس موليسون ويلسون (1887-1965) J. M. Wilson.).

يتعين التذكير بان دائرة الموانئ كانت، وقتذاك، من “أغنى” دوائر الدولة العراقية من ناحية الايرادات. ولهذا فان عمارة المبنى المستقبلي الخاص بهذه الدائرة، ارتؤي ان يكون ملائما ومكافئا لمنزلة الدائرة ذات الاهمية القصوى في الترتيب الاداري للدولة العراقية. من هنا، تنبع، في اعتقادي، الحرية الواسعة التى منحت الى المعمار في مهمته لتجسيد “اميج” معماري، لتلك المنزلة الادارية والمالية اللتان تتمتع بهما الدائرة اياها. وذلك في الاتكاء على “فورم” مميز ومعبر، يكون زاخراً بالتفاصيل، وباستخدام مواد إنشائية ملائمة وحتى غنية، بالاضافة الى وجود فضاءات متنوعة وكثيرة. ولكون خطة التصميم راعت امكانية التوسعات المستقبلية، واستيعاب الموقع لمبانٍ اضافية، فقد اختير موقعا فسيحا في ضاحية “المعقل” لمجمع تلك المباني التى ستشيد لاحقاً. ينهض مبنى الموانئ في وسط ذلك الموقع كنواة لتلك المباني المستقبلية؛ وقد جاءت ابعاده القياسية كالاتي؛ الطول: 250 قدماً (76,2مترا)، والعرض: 70 قدماً (21,4 متراً)، والارتفاع (الى قمة القبة اللازوردية): 66 قدماً (20,12 مترا).

يستدعي المعمار ويلسون الصيغة التماثلية Symmetry، المحببة الى قلوب المعماريين الكلاسيكيين (والنيوكلاسيكيين..ايضاً)، لإظهار هيئة المبنى المقترحة. ويغدو “السيمتري” هنا، بمثابة الحل الجاهز والناجز في تصور “الفورم” المستقبلي للمبنى العتيد. فالصيغة التماثلية كانت دوماً حاضرة في جميع تصاميم هذا المعمار المجد. ليس فقط لديه، وإنما هي الصيغة الاثيرة لدى “مراجعه” المحببين ايضاً، وخصوصا “مرجعه” القدير والمفضل “ادوين لاجنس” (1869-1944) Edwin Lutyens، المعمار الانكليزي المعروف، وباني مدينة “نيو دلهي” العاصمة الهندية الجديدة؛ والذي عمل ويلسون معه كمعمار مساعد، اثناء وجوده في الهند، قبل ان يلتحق بالقوات البريطانية التى احتلت العراق سنة 1914، اثناء الحرب العالمية الاولى.

في مبنى “مديرية الموانئ العامة” تظهر العمارة، العمارة الجديدة والحداثية، بابهى صورها. انها تتراءى وكأنها “قصر” منيف، وامثولة جديدة وراقية لمباني المكاتب. وهي تبدو بحركة ايقاع عقودها المتوالية، و”المتوقفة” عند منتصف المبنى، ومن ثم المستمرة بذات الايقاع المتكرر، وكأنها نبرة لجملة موسيقية غنائية، تعيد الحانها، كلما تمعنا النظر الى المبنى متابعين تلك الحركة الايقاعية التى تولدها هيئات العقود الغارقة في ظلالها و”المرسومة” على سطوح المبنى المغسول بضياء اشعة الشمس الصافية. كأن عمارة المبنى، وتفاصيلها المكررة، تستحضر ايقاع ابيات قصيدة شعر عربية. كأنها بشموخها البنائي وقبتها الشاهقة اللازوردية، وخصوصية بنيتها المعمولة بالآجر المحلي، تتوق للتعبير عن انتمائها للمكان ولثقافة المكان المبنية، وتسعى وراء إظهار تعظيم خصائص تلك البيئة، فيما اذا قيض لها ان تكون بين يديّ معمار ماهر. فالعمارة مشغولة من قبل مصمم يعرف جيداً “صنعته”، ويدرك تماماً طبيعة المواد التى يتعامل معها. انها من دون شك اضافة مميزة الى بيئة البصرة المبنية، واحد مبانيها اللافتة، هي التى ارتقت لتكون “ايقونة” بصرية لها، وذاكرتها المعمارية التى لا يمكن محوها بسهولة. عندما اكتمل بناء “مديرية الموانئ” وظهرت بهيئتها المميزة والجاذبة، وصف الملك فيصل عمارتها، اثناء حضوره شخصيا الى البصرة لافتتاحها عام 1927، من انها “احدى الاعمال البنائية البارعة، والمعمولة بضمير حيّ”.. نعم، “بضمير حيّ”!، ما اروع وادق انطباق هذا المعنى على عمارة المبنى المتحققة، والذي يشي، ايضاً، بنوع من التقدير والافتنان، الذي اراد الملك به الاحتفاء بجهد “صديقه” المعمار. اما نحن، فنجد من الصعب، على اية حال، عدم الاتفاق مع الملك، في ذلك التوصيف “الملكي” الحصيف!

و”جيمس موليسون ويلسون” معمار المبنى، ولد في 28 نيسان، عام 1887، في مدينة “دندي” بإسكتلندا في المملكة المتحدة. انهى تدربيه المعماري في مكتب محلي لمدة خمس سنوات، ثم عمل، لاحقا، مع مكتب استشاري لندني. في سنة 1908، رافق المعمار الانكليزي المعروف” لاجنس” الى الهند، وبات، حينذاك، احد معاونيه الاساسيين في تخطيط “مدينة نيو دلهي” وفي تصميم مبانيها المهمة. انضم الى القوات الانكليزية التى دخلت العراق، وعين سنة 1918، مديرا لدائرة الاشغال العمومية التى رأسها لحين رجوعه الى بلده بريطانيا سنة 1926. صمم كثيرأ من المباني المهمة، التى اعتبرت عمارتها، كنماذج مؤسسة لعمارة الحداثة بالعراق؛ منها “جامعة آل البيت” في الاعظمية ببغداد، 1922-24، ونادي العلوية (بطلب من مس غروترد بل)، ببغداد، عام 1921. وقصر الملك فيصل الاول (لم ينفذ) 1927، والميناء الجوي ببغداد (مطار المثنى) 1931، (بالاشتراك مع ميسون)، وكنيسة سان جورج في كرادة مريم (1936)، ومحطة قطار الموصل (1938)، و”مطار البصرة الدولي (بالاشتراك مع ميسون) 1938”، و”المحطة العالمية بالكرخ (1947-1952). وغير ذلك من المشاريع المهمة.