من هو صبري افندي صندوق امين البصرة؟

من هو صبري افندي صندوق امين البصرة؟

نبيل عبد الأمير الربيعي

صبري أفندي (صندوق أميني البصرة) , الاسم الذي كان يتداول بين الناس ثلاثينيات القرن الماضي بسبب الأغنية الشعبية التي خلّدت اسمه فيها المطربة (صديقة الملاّية) , حيث ذاع لقب (صندوق أيني البصرة) في عالم الطرب العراقي.

يروي لنا الدكتور العراقي المغترب فاروق عبد الجليل برتو في كتابه الموسوم (ذكريات عراقية عن الكفاح والاحباط – والإرادة والأمل – العراق 1928م-1969م) السيرة الذاتية للدكتور برتو خلال الحقبة الزمنية من حياته قبل خروجه من العراق والهجرة إلى النمسا , لقد سلط الضوء على حياته العائلية وحياته السياسية وانتماءه لصفوف الحزب الشيوعي العراقي , والسيرة الذاتية لصبري أفندي زوج عمته نجيبة.

ولد صبري أفندي محمد ملّة سلمان في لواء البصرة عام 1875م , وتخرج من المدرسة الرشيدية وتسلم خلال حياته وظائف عدة منها: مدير مالي في لواء البصرة , وصندوق أمين البصرة لولاية البصرة.

يذكر د. فاروق برتو في ص56 من كتابه واصفاً زوج عمته قائلاً: “كان صبري افندي فارع القامة , عريض المنكبين , متين البنيان مهيباً , جميل الصورة , يمتاز بالأخلاق الحميدة , والكرم , ويقرض المحتاجين , ويتصدق على الايتام , منذُ رأيته في طفولتي وهو ابن الخمسين عاماً (د. فاروق برتو تولد 1928م) أو حواليها , كانت له لحية بيضاء خفيفة تحيط كامل وجهه. كما كان يضع على رأسه الفينة (الطربوش) ويرتدي جُبّة بيضاء تزيد صورته جلالاً».

الكثيرين خارج البصرة ربّما يحسبونه شخصية أسطورية , وذلك لما للقب (صندوق أميني البصرة) من وقع تركي عصملّي (عثماني) على السمع , إلا أن صبري أفندي ظلّ منذ شبابه محباً للعثمانيين ولتركيا الكماليّة بعدهم. يذكر الدكتور فاروق عبد الجليل برتو في كتابه ص56 عن زوج صبري أفندي قائلاً: “وظلّ منذُ عرفته عن قرب في طفولتي وبداية شبابه مُحباَ للعثمانيين وحكمهم».

ومن الغريب أن بعض الأشخاص , ممن لم تكن لهم علاقة أو صلة تذكر , شاءوا أن يرددوا عنه وعن شخصيته مؤخراً في وسائل الاتصال الحديثة (Face book) حكايات عن الواقع فصورّوه حسبما شاءت خيالاتهم أو أغراضهم.

زواجه الأول

كان صبري أفندي متزوج من ابنة خالته , التي ولدّت له (فاضل وأحمد) , توفيّ فاضل مبكّراً بمرض السل , وله ولد اسمه عباس وبنت اسمها خالدة. أما أحمد (يعرف باسم أحمد أيوب) , فقد كان شخصية ظريفة محببة بالنسبة لأقربائه , أكمل الدراسة الثانوية واشتغل كاتباً في محاكم البصرة , كان أحمد طويل القامة وسيماً , سريع النكتة حاضر البديهية , كريم النفس , يتذكره الدكتور فاروق برتو في مذكراته قائلاً ص59/60: “ما زلت أتذكر أن أهلي كانوا يعطونني (عيديّة) خمسين فلساً (درهماً) كلّ يوم من أيام العيد وأنا صغير , وعندما رآني أحمد في الشارع صدفة أوقفني وقال لي: عيدك مبارك يا فاروق وأعطاني ريالاً , وكان ذلك أول ريال (قطعة فضية كبيرة تعادل مائتي فلس) امتلكته وأريحية كبيرة من عمّو أحمد. أما صبري أفندي أو جدّو صبري كما كنت أسميّه فكان يمنحني عشرين فلساً , وكانت العملية تستغرق عدة دقائق عادةً إذ يطلب مني أن أفتح كفي ويتباطأ في وضع الفلوس فيه فلساً فلساً أو آنة بعد أخرى (آنة أو عانة وتعادل أربعة فلوس , والكلمة لعملة هندية) مستأنساً باستثارة رغبتي وطمعي في المزيد , وكان يكرر ذلك مع كافة أطفال العائلة في الأعياد».

تزوج أحمد من امرأة اسمها لُطفية تقرب إلى عائلته , كان بينهما حب واعجاب متبادل قبل الزواج , وكان ذلك أمراً يقرب من المُنكر في تلك الأيام. كانت لطفية معلمة مدرسة ابتدائية في بغداد فانتقلت للتدريس في “إحدى مدارس البصرة , ولأنها كانت سافرة لا ترتدي العباءة التي كانت سائدة كنوع من الحجاب للنساء , فقد استقبلت من قبل نساء وأفراد عائلة صبري أفندي ومن سكان المحلة بالاستنكار والتشنيع , ولعلها كانت ذات مزاج انعزالي , وقد سكن الزوجان في دار عائدة لصبري أفندي وبالقرب منه. كان للاستقبال وللعلاقات المتأزمة والمشاكسات التي واجهتها أسوأ الأثر على لطفية , إذ أصيبت باضطراب عصبي وعقلي واختفت عن البصرة عائدة “إلى بغداد بعد مرور سنوات قليلة على زواجها من أحمد , ثم طلقت منهُ , ولا شك أن أحمد قاسى الكثير وحزن عليها حزناً كبيراً فأدمن على شرب الخمر (العرق) وأصيب بمرض تشمّع الكبد ومات بصورة مأساوية وهو في العقد الرابع من العمر.

ولدت لطفية لأحمد ولداً لطيفاً وسيماً اسمه رياض , اشتغل مفوضاً في الشرطة في البصرة , ثم نقل إلى بغداد وتزوج من حذام ابنة عمته فاطمة , ثم نقل مكان عمله “إلى شمال العراق ثم سيق للمشاركة في الحرب العراقية الإيرانية وفقد أثره فأدرج اسمه في قائمة المفقودين.

زواجه صبري أفندي الثاني

تزوج صبري أفندي مرة ثانية من السيدة نجيبة حسن عثمان برتو المولودة في مدينة الديوانية عام 1893م/ 1311 هـ لوالد يعمل موظفاً في المدينة عند ذاك , وقد جاء جدها عثمان إلى العراق من تركيا للعمل ناظراً للأوقاف في بغداد حيث تزوج من إحدى بنات حبيب أغا قرة بير التي ولدت له حسن برتو. وولدت نجيبة لصبري أفندي بنتاً هي فاطمة وولد اسمه كمال.

أكملت فاطمة دراستها المتوسطة وعينت مباشرة معلمة في “إحدى المدارس الابتدائية في البصرة , تزوجت من عبد المجيد يوسف السالم البدر الذي كان عندئذ ملازماً في الجيش , وقد كوّنا أسرة كبيرة من أولاد وبنات , وقد فجعت الأسرة بمقتل ابنها زياد وهو مجند في الحرب العراقية الايرانية. وأصبحت أخته حذام نائبة في مجلس النواب أيام حكم صدام.

أما كمال فقد تزوج ورزق بأطفال ولكنه فجع بولده الكبير عصام الذي جُند وقتل في الحرب العراقية الايرانية , وقد اضطر كمال لترك البصرة بسبب ظروف الحرب القاسية وانتقل للعيش في الخالص في محافظة ديالى.

كانت دار صبري أفندي تقع في محلة الصبخة الصغيرة , وهي إحدى المحلات الواقعة على نهر البصرة (المدّة) الذي يخترق المدينة متفرعاً من شط العرب وجارياً من العشّار حتى نهاية المدينة القديمة. والدار ملاصقة لدار السيد عبد الجليل برتو والد الدكتور فاروق برتو والمناضلة الشيوعية بشرى برتو. ودار صبري أفندي هي دار كبيرة بمقاييس تلك الأيام , وتتكون من طابقين تتوسطها باحة (حوش) مرصوف بالطابوق الفرشي , وهناك في الطابق الثاني غرف عديدة أهمها وأكبرها طبعاً غرفة صبري أفندي بزجاج نوافذها الملّون الجميل وجدرانها وسقفها من الخشب المنقوش , ومقابل غرفة صبري أفندي كانت هناك دائماً منضدة صغيرة وضعت عليها (تنكة) وعاء معدني يكبس فيه التمر للاستهلاك المحلي تحوي عادة نوعاً فاخراً من تمور البصرة أو المعسّل (وهو تمر مكبوس يضاف إليه لبّ الجوز وتوابل خفيفة). تنكة التمر هذه مخصصة لاستعمال صبري أفندي فقط.

وقد تملّك صبري أفندي عدّة دور في المنطقة المحيطة بالبستان (البقجة) الذي بُنيت على موقعه محكمة البصرة في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي , كان صبري أفندي يعتبر من الموسورين نسبياً , وكان كريماً معطاءً فاتحاً داره لاستضافة الأقرباء والأصدقاء الكثيرين.

يذكر د. فاروق برتو في ص 101 من مذكراته أن صبري أفندي كان ملتزماً دينياً وبشعائر الاسلام , “كان الكثيرون من المسلمين يسيرون على نفس المنوال , إذ يبدأ التزامهم بتلك الشعائر عند بلوغهم سن الشيخوخة. كذلك لم يفرض صبري أفندي زوج عمتي وجارنا في السكن في البصرة وهو الملتزم بالشعائر على فؤاد وعائلته الكبيرة الالتزام بها وهو في شيخوخته. ورغم اسلوبه الصارم في التعامل معهم في شؤون الحياة الأخرى».

يذكر فاروق برتو في مذكراته حول ساعة وفاة صبري أفندي في ص61 قائلاً:”توفي صبري أفندي عام 1961م , وقد عاشت زوجته نجيبة في نفس الدار البسيطة وكانت احوالها المعاشية صعبة إلى حدٍ ما , إذ كان دخلها الوحيد هو راتب ابنها كمال , بعد أن كان صبري أفندي قد أوقف أكثر ما يملك من دور وممتلكات وقفاً ملّياً (للمنفعة العامة) , وباع داره الكبيرة لمواجهة تكاليف الحياة. وقد توفيت زوجته نجيبة تلك الانسانة الطيبة في عام 1975م».