حسن حنفي:  النخبة الثقافية تقع في أخطاء جسيمة بسبب تملقها للجماهير ورجال الدين

حسن حنفي: النخبة الثقافية تقع في أخطاء جسيمة بسبب تملقها للجماهير ورجال الدين

‫ محمود قرني

ثمة أسئلة لا نهائية يطرحها حوار مع مفكر كبير مثل الدكتور حسن حنفي. فقد وهب الرجل مشروعه للإجابة عن أسئلة عصية، لا سيما أنه يعمل على حقل شائك هو الفلسفة الإسلامية التي ظل حضورها إشكاليًّا في التاريخ الإسلامي. وقد كان علماء الكلام محط هجوم السلطات المحافظة عبر التاريخ،

وهو الأمر الذي تمخض عنه صراع بين الفكر المعتزلي بطبيعته العقلانية والفكر الأشعري الذي يؤمن به حنفي وإن انتقده في مواضع عدة. في الوقت نفسه فإن السؤال عن الصراع الذي يجب على الدولة العربية أن تخوضه ضد «أسواق العُصَاب الديني» لم يجد إجابة ملائمة حتى الآن. وهذا ما حاوله الدكتور حسن حنفي وغيره من المفكرين الذين يُصنَّفون كرموزٍ لتيار اليسار الإسلامي. ربما لهذا السبب كان لا بد لهذا الحوار أن ينطلق من سؤال جوهري طرحه مفكرنا في مقدمة موسوعته «من النقل إلى العقل» وما إذا كان يمكن أن تنجح عقلانية عربية مستمدة من العقلانية الغربية أو الرياضية ومقلدة لها في حين العقلية العربية مغروزة في العلوم النقلية؟

لقد سعى مفكرنا منذ كتابه المهم «التراث والتجديد» إلى التأسيس لعلم إنساني شامل، لكن فرادته تكمن في أن هذا العلم يقوم على فكرة الوحي والكتب المقدسة رغم أنها تمثل أعلى درجات المعرفة الحدسية وليس العلمية. أما على مستوى القراءة والتأويل فقد أشار في خاتمة المجلد الأول لكتابه من «النقل إلى العقل» إلى مشكلة وصف القدماء لفضائل القرآن عبر الرواية.

ويتفق حسن حنفي مع كثير من الباحثين والمفكرين على أن ابن تيمية والغزالي وغيرهما حققوا نصرًا أشعريًّا ضد علماء الكلام والمعتزليين عامة، وهو الأمر الذي جعل النهايات تفضي إلى ما نحن فيه. ورغم أن هؤلاء المعتزليين كانوا جزءًا من بنية تسلطية أسست لإمبراطورية واسعة قامت على الطاعة، فإنها حققت نصرًا ساحقًا لأنها كانت الأكثر براغماتية، وهو أمر يبدو من الحتميات السياسية. ومع ذلك فإن مفكرنا يرفض الهوية ذات المرجعية الدينية والعرقية والطائفية، مقابل الدعوة لهوية إنسانية نابعة من الذات لتستطيع تجاوز التفاوت والتفرقة بين البشر.

على جانب آخر كانت ترجمته المهمة لـ«إسبينوزا.. رسالة في اللاهوت والسياسة» مصدر تأثير بالغ في مسار الفلسفة العربية. ففضلًا عن أن هذا الكتاب واحد من أهم مؤلفات إسبينوزا فهو أيضًا رسالة في فصل العقل عن النقل. وقد انتهى حنفي نهاية إسبينوزا نفسه مؤمنًا بأولوية حسم الصراع لصالح العقل في مشروع اليسار الإسلامي حسبما فعل الغرب مع كنيسته.

أما الاستشراق التقليدي الذي وصم العقلية السامية عمومًا بالقصور بسبب رفضها الفطري للأبنية العقلية والالتفاف فحسب حول فكرة التوحيد، فيرى حنفي أن جزءًا من الاستشراق القديم ظل يعمل في سياق النموذج الذي تعامل مع الشرق بوصفه مسرحًا لاستعراض القوة، وأنه لا يعدو أن يكون حالة فلكلورية كما يرى إدوارد سعيد.

وقد ذهبت إلى الدكتور حسن حنفي حيث يقيم في حي مدينة نصر أقصى شمال شرق القاهرة. كنت أقلعت عن العمل الصحفي منذ سنوات طويلة، لكنَّ حوارًا مع مفكر بحجم حسن حنفي حافِز كافٍ لإعادة النظر في هذا الموقف. المكان بسيط جدًّا. الرجل أصبح قعيدًا يحمله كرسي متحرك. مكتبه صغير جدًّا لا يتجاوز ستين سنتيمترًا، يعيش إلى جواره شاب اسمه محمود يقوم على قضاء حاجاته ويقوم بمهمة سكرتيره الخاص. أمامه كومة من الكتب والأوراق تتوسطها وريقات كتبت بقلم الفلوماستر العريض باللون الأخضر. ربما كانت تلك الأوراق تحوي بعض العناوين التي سيراجعها في أثناء حديثه. وعندما أطلعني الدكتور حنفي، كما ترون في هذا الحوار، على ملابسات نشر كتبه وكيف يتعامل معه الناشرون وعلى رأسهم هيئات الدولة في مصر سنتأكد من الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ما نحن فيه. كان الرجل باشا مرحبا، لكنه بسبب اعتلال صحته، كان حريصًا أن يكون وقت المقابلة محدودًا قدر الإمكان، فهو لا يستطيع الجلوس على مقعده طويلًا.

وعندما شرعت في توجيه أسئلتي إليه عبر بعض الوريقات التي أحملها بين يديَّ قال لي: لا تقرأ من ورق لأنك إن قرأت من ورق أطفأت الجذوة التي فيك. نحن في الجامعة لا نقرأ من ورق لذلك نكون أكثر تلقائية وأكثر حضورًا. فوعدته بالتخلي عن التراتبية والنمذجة التي حملتها الأسئلة المكتوبة وبدأنا حديثنا.. وهنا نص الحوار:

■ ثمة أسئلة لا نهائية يطرحها حوار مع مفكر كبير مثلك؛ وهَبَ مشروعه للإجابة عن أسئلة عصية، لكن دعنا نبدأ من سؤال جوهري طرحتَه في مقدمة كتابك «من النقل إلى العقل»: هل يمكن أن تنجح عقلانية عربية مستمدة من العقلانية الغربية أو الرياضية ومقلدة لها بينما العقلية العربية مغروزة في العلوم النقلية»؟

- القدماء صنفوا العلوم إلى ثلاثة أنواع. علوم عقلية خالصة لا دخل فيها للنقل مثل الرياضيات، والصيدلة، والفلك، وعلوم الحيوان والنبات، وهي علوم لا تخضع للبرهان. هذه العلوم هي التي تُرجمت إلى اللاتينية وأثرت تأثيرًا بالغًا في العلوم الأوربية الحديثة. وللأسف نحن انقطعنا عن هذا التيار. ولو ذهبت إلى قرطبة ووقفت في ميدان الغافقي وسألت: من الغافقي هذا؟ لعرفت أنه واضع علم البصريات وهو الذي حلل العين واكتشف مجالات الرؤية. وهناك علوم نقلية خالصة لا دخل فيها للعقل وهي للأسف العلوم التي تسيطر على الأزهر وأحيانًا على دار العلوم وأقسام اللغة العربية وهي خمسة: القرآن والحديث والتفسير والفقه وعلوم التصوف. وعلوم تجمع بين العقل والنقل وهي أربعة: علم الكلام أي أصول الدين، علم الفلسفة أي علوم الحكمة، وعلم أصول الفقه، ثم علوم التصوف.

■ لكن مؤسساتنا العلمية وجامعاتنا لم تكن في أي لحظة عند هذا الوعي. كيف تفسر ذلك؟

- تفسير هذا أننا أكثرنا في جامعاتنا من تدريس العلوم النقلية؛ لكن أين العلوم العقلية؟ لماذا نخشى من تناول العلوم النقلية ونتركها في أفواه الخطباء والدعاة وكل من يريد أن يتاجر بـ«قال الله وقال الرسول». لقد وضعت كتابي «من النقل إلى العقل» لكي أحاول أن أعيد بناء هذه العلوم الخمسة ليس باعتبارها علومًا عقلية خالصة ولكن على الأقل باعتبارها علومًا تجمع بين العقل والنقل. صحيح أن القدماء تكلموا فيها ولكن ما يهمني أنا ليس الوحي وجبريل وكيف نزل على الرسول. ما يهمني فيها هو أسباب النزول. فالوحي لم ينزل إلا بناءً على سبب. «ويسألونك عن الأنفال» أي في كيفية توزيع الغنائم فتنزل الآية لتنظيم الأمر. الأشياء العامة هي التي سأل عنها الناس وقتها، أما الأشياء التي لا يستطيع الإنسان أن يصل إليها مثل: «ويسألونك عن الروح» فهذه تمثل القيمة الإيمانية، لذلك ليس من الملائم الإفراط في الأسئلة حولها. لكن هذا للأسف ما يحدث الآن. نسأل عن كل شيء غيبي عن عذاب القبر وعن الروح وعن كل شيء ونختلف ونُكفِّر ونخرج عن الدين، في الوقت الذي يجب أن تكون أسئلتنا عن الأشياء التي تهمنا.. الفقر والاستبداد والاحتلال والغش والنهب والسلب وغلاء الأسعار وتفتيت الأمة والحروب الأهلية بين أعراقها. هذا هو التحدي.

■ ولكن المناخات المحيطة بالعقل العربي بطبيعته التلقينية تُعزِّز فكرة التشدد كما أشرت. فكيف لنا أن نتجاوز ذلك؟

- في علوم القرآن شيء مهم يتجاهله الوعاظ والدعاة هو الناسخ والمنسوخ، ويعني أن القرآن تدرَّج في أحكامه طبقًا للزمان حتى يراعي قدرة الناس على تنفيذ نواهيه. وأشهر مثال على ذلك تحريم الخمر كما يعلم الجميع. فقال في البداية: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى. ثم قال: فيهما إثم كبير ومنافع للناس، إلى أن وصل إلى وصفها بأنها رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه. إذن هناك أحكام، ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها. ونحن الآن نريد أن نطبق كل شيء في اللحظة ونعد الناس بالمستقبل ولا نحقق شيئًا. فهل معقول غلاء الأسعار بحيث يضرب السعر في أربعة أضعاف؟ هل هذا تقدير منطقي في الحفاظ على موارد الدولة؟

تقديس الشخصي

■ ثمة رغبة قديمة في تقديس ما هو شخصي في التاريخ الإسلامي على حساب الانتصار للتاريخ الموضوعي. وربما يكون عِلْما الحديث والتفسير يمثلان دليلًا على هذا الالتباس. هل ترى ذلك؟

- أما علم الحديث فقد أبدع العلماء في دراسة السند من المقطوع والمُرْسَل والرواية، لكن المتن نفسه لم ينقده أحد. حتى إن بعضًا قال قد يكون السند صحيحًا والمتن غير صحيح، وقد يكون المتن صحيحًا والسند غير صحيح. أليس علينا أن نقول شيئًا في المتن والسند؟ ولو أخذت تطور الرواية في علم الحديث لوجدت تغليبًا لحديث الرسول على شخصه، وكذلك السيرة. لكن مشكلتنا الآن أننا نغلب شخص الرسول على حديثه، بمعنى أدق نقدم الشخصي على الموضوعي. وأصبحنا نطلق استغاثات غير مفهومة مثل: أغثنا يا رسول الله، حبيبي يا رسول الله. وأخيرًا فيما يتعلق بعلوم التفسير فهي حتى الآن تمثل إشكالية. انظر إلى الطبري وابن كثير وسيد قطب وتفسيراتهم من الفاتحة إلى الناس، وانظر كيف تتكرر الموضوعات نفسها. هذا ما دفعني لعمل تفسير موضوعي للقرآن، وهو تفسير يقوم على تجميع الآيات التي تدور حول موضوع واحد. الظلم، العدل، الحرية، حتى نعرف رأي الإسلام في أيديولوجيات العصر. وقد طبعت هذا الكتاب على نفقتي؛ لأن الناشرين معظمهم يأخذون الكتاب ولا يعودون إليك. يجعلونك تدفع قيمة الورق ويعدونك بردِّ ما دفعتَ ولا يرجعون، فقلت: إذن لماذا لا أطبع الكتاب على نفقتي. ولكنني لا أدري ما أفعل في التوزيع.

■ ولماذا لم تطبعه في إحدى هيئات الدولة؟

- هيئة الكتاب طبعت الأجزاء الأول والثاني والثالث من كتاب «من النقل إلى العقل» بعد ست سنوات مع أنني تنازلت للهيئة عن جميع حقوقي في سبيل أن يخرج هذا الكتاب جزءًا كل عام. في بيروت طبعوا الجزء الأول فقط، ومكتبة مدبولي طبعت ثلاثة الأجزاء ثم توقفت.

■ أشرتَ في كتابك «الدين والثقافة والسياسة» إلى ما يسمى ما بعد الأصولية. وكنتَ تقصد بهذا المصطلح اليسار الإسلامي أو الإسلام المستنير، واتهمت الغرب بالوقوف فحسب أمام ظاهرة الأصولية وغض الطرف عن التعامل مع ما بعدياتها. هل تعتقد أن هذا الموقف له علاقة برغبة غربية في نمذجة العنف ليكون جزءًا من ذرائعية التدخل بأشكال شتى، ولتكريس صورة الآخر العنيف والهمجي التي يقتات عليها وبها؟

- الغرب ما زال ضحية بعض الصور النمطية المؤثرة فيه مثل ربط الإسلام بالتخلف والإرهاب واللاعقلانية، إلخ. فإذا حاول أحد أن يبين حقيقة المرأة في الإسلام، التنمية والتقدم في الإسلام وأعطى أسئلة من التاريخ انزعج الغرب من هؤلاء المفكرين الجدد الذين يحاولون تجاوز الصور النمطية التي اعتادوا عليها منذ أيام الاستشراق والاستعمار إلى آخره، وبالتالي أنا أحزن عندما أرى في وسائل الإعلام المصرية أن الرجل يضرب المرأة. نحن نعطي من يريد تشويهنا المادة التي يشوهنا بها ومن ثم فإن أهمية اليسار الإسلامي هو الخطاب الثالث. فقد واجهت الخطاب السلفي الذي يعرف كيف يأخذ ولكنه لا يعرف ماذا يأخذ. فهو يدعونني إلى الأخذ بالأحكام كافة الحدود ومنع الاختلاط وكذا. ثم يتحدث أيضًا عن الحرية والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية لكنه لا يعرف كيف الوصول إليها في الواقع، فهو مرة يسميها اشتراكية ومرة يسميها قومية ومرة ليبرالية. أنا أريد أن أعطي خطابًا ثالثًا يعرف كيف يقول، أي يستعمل لغة التراث الإسلامي الذي تحول إلى ثقافة شعبية وماذا يقول ليتحدث عن مصالح الناس. فما زال يؤثر فينا ما حدث للمصري الذي ضربه ابن عمرو بن العاص عندما قال له عمر: لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ هذه هي الليبرالية. عرابي وقف أمام الخديو توفيق في قصر عابدين وقال له قولته الشهيرة التي صارت مثلًا: «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا، فوالله لن نستعبد ولن نورث بعد اليوم». لقد أخذ الرجل مطالب الناس وعبَّر عن رغبتهم في انتزاع الحرية. الأفغاني يقول مثلًا: عجبت لك أيها الفلاح، كيف تشق الأرض بفأسك ولا تشق بها قلب ظالميك. حتى القرآن يصف أخوين أحدهما عنده 99 نعجة والثاني له واحدة. الأول يريد الاستيلاء على نعجة أخيه. الأول لديه كل شيء والثاني ليس لديه شيء. إن أغنى أغنياء العالم من أمتنا وأفقر فقراء العالم من أمتنا أيضًا. هذا ما جعل اليسار الإسلامي يخاطب قلوب الناس.

■ مشروعكم في مجمله يقوم على استعادة نوع ما من الإسلام شأن مفكري اليسار الإسلامي. بالطبع ثمة أهمية لثورة فقهية كاملة كما ترون، لكن النتيجة في النهاية تتحصل فيما انتهى إليه محمد أركون من ضرورة العودة إلى ما أسماه إسلام الصفاء الأول. ألا ترى أن ثمة خطرًا من وصول مشروع الإسلام السياسي إلى الحكم؟

- الخطورة موجودة إذا ما دخل هذا المشروع إلى الحكم. التجربة الغربية نجحت؛ لماذا؟ مارتن لوثر حاول، وجاء هيغل وحوَّل العقيدة المسيحية إلى فكر. التثليث ليس الأب والابن والروح القدس لكنه الجدل بين الموضوع ونقيضه ومركبه، وهذا الجدل في التاريخ والأسرة. كنت أشرح للطلبة هذا الكلام فيقولون: إنهم لا يفهمون منه شيئًا، أقول لهم. مش فاهم التثليث؟ لكنك تفهم تثليث: «أنا والعذاب وهواك» هذه هي الهوية والواقع والآخر. ثم جاء الهيغليون الشبان وتساءلوا: ما الذي سنعمل بهذا الفكر وكيف نوظفه؟ لا بد من تركيبه على الإنسان والحرية وعلى الوعي إلخ، وكونوا تيارًا اسمه اليسار الهيغلي، ثم أتى ماركس وقال: ما الذي أفعل بالإنسان والوجود الذاتي والوعي؟ أين المجتمع والصراع، من هنا قدم نقدًا لنقد النقد أو يسار اليسار.

■ ولماذا لم يتحول الفكر عندنا إلى تطبيق يمس حياة الناس؟

- عيبنا أننا نريد الانتقال من الدين إلى الثورة من دون تحويل الدين إلى فكر، ثم ننقل الفكر إلى الواقع. وهذا ما حدث مع الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، ومع دعاة التيار العلمي مثل فرح أنطون وشبلي شميل وإسماعيل مظهر الذي قضى حياته يدافع عن دارون. نحن نريد أن نقفز على المراحل، لكن هذا يمثل السبب الرئيس في أننا كلما ننهض نقع ثم نقوم فنقع، سواء من يقوم بذلك الشعب أو النخبة العسكرية.

■ هل تعني أن النخبة الثقافية هي فقط التي لم تُجرب؟

- نحن لم نجرب حتى الآن النخبة الثقافية، كما حدث في الثورة الفرنسية. لكن يظل الخوف أن تقع النخبة الثقافية في أخطاء جسيمة بسبب تملقها للجماهير أو رجال الدين.

■ السؤال الذي يبدو تاريخيًّا ويردده مفكرون كثيرون هو: لماذا تخلف العرب وتقدم الآخرون. هل الإسلام السياسي هو السبب؟

- هذا خلط بين المراحل. لو كان هناك مفكر غربي يعيش في عصر ابن خلدون لسأل السؤال نفسه معكوسًا: لماذا تقدم العرب وتخلف غيرهم. إنها مراحل. ففي المراحل الأولى أبدعنا علمًا وثقافة وحضارة بعد أن تعلمنا من اليونان والرومان والفرس والهند وترجم الغرب عنا، ذلك في أوائل العصر الوسيط في القرن العاشر والحادي عشر وظهرت الرشدية اللاتينية. في الغرب تحكم العقل في العقائد وكنا سبب النهضة الأوربية بما في ذلك الإصلاح الديني عند مارتن لوثر، الذي كان معجبًا بالإسلام وتعلَّم العربية لكي يقرأ القرآن. إذن الذي يقول: لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟ يتكلم عن المرحلة الحالية، لماذا تخلفنا بعد أن تقدمنا وتقدم غيرنا بعد أن تخلفنا.

السؤال الأهم: لماذا تأخر الإبداع الفكري العربي رغم صلتنا بالغرب منذ أكثر من 200 سنة منذ الشيخ حسن العطار والطهطاوي، وما زال أكبر حدث لدينا هو مشروع الألف كتاب الأولى والثانية ثم تأسيس المركز القومي للترجمة في القاهرة وبيروت والمقصود هنا الإبداع الفكري لا أتكلم عن الإبداع الأدبي. حتى المشاريع العربية المعاصرة البعض يقول: إنها ما زالت صدًى سواء ما يتعلق بالمنهج البنيوي عند الجابري أو الماركسي عند الطيب تزيني أو المنهج الظاهرياتي الفينومنولجي عندي أو البنيوي عند أدونيس في الثابت والمتحول. وتظل القضية هي اعتقادنا أننا بالترجمة يمكننا أن نلحق. والغرب يقول: مهما ترجمتم، فإن إيقاع الفكر عندنا أسرع بكثير، ومن ثم فالمسافة تتسع. إذن الدرس الذي نأخذه من القدماء أنه حدثت ترجمة للفلسفة اليونانية في القرن الثاني، وفي القرن الثالث ظهر الكِنديُّ، وبعد ذلك بدأ الفلاسفة يشرحون ويكتبون ويؤلفون من دون الإشارة إلى أرسطو أو غيره. فلماذا تأخر الفكر العربي رغم أننا ما زلنا نترجم. هل عدم الثقة بالنفس، هل الإحساس بالدونية أمام الغرب؟ تخلينا عن الاجتهاد وذهبنا إلى التقليد. هل الصين نقلت عن أحد عندما أبدعت كونفشيوس؟ هل الهند نقلت عن أحد؟

عن مجلةى الفيصل