بين الأب الكرملي والشيخ جلال الحنفي

بين الأب الكرملي والشيخ جلال الحنفي

أنوار ناصر حسن

كان للأب انستاس ماري الكرملي العالم اللغوي الكبير مجلس أدبي يعقد كل جمعة تناقش فيه القضايا اللغوية والأدبية والمشاكل التي تحيط بالثقافات المختلفة وكان الحنفي مــــن رواد هذا المجلس المنعقد في كنيسة اللاتين. وشــكـلت الأشهر الأخيرة من عام 1930 بداية حضوره هــذا المجلس.

ومن ضمن الحوارات التي جرت بين الكرملي والحنفي في أول لقاء لهما، قال الحنفي للكرملي بعد أن أعطاه نسخة من صحيفة بغداد التي نشرت له مقالا ً في اللغة قائلا ً « هذا مقال لي « فأجابه الكرملي بعد أن قرأ المقال « قدرتك فائقة في تحرير المقالة « ثم عاود الحنفي قائلاً للكرملي « وهـذه أفتتاحية لي « فقرأ الكرملي الأفتتاحية ثم نظر إلى الحنفي وقال له « ستصبح شيئا ً أن معلميك في المدرسة لا يحسنون كتابه ما تكتب « وقد شكل هذا اللقاء البداية التي شجعت الحنفي للتأدب بأدب الكرملي وحضور مجلسه حتى أصبح الكرملي من الشخصيات العزيزة عليه والمؤثرة فيه.

ويقول الحنفي في أن الكرملي كان ينظر إلى « مقالي والي َّ بعين الأعجاب والتزكية وأنه لو صرفني عن الكتابة فلعلي كنت أنصرف « ولو ثبطني عنها وأحصى علي الأخطاء الكثيرة « لردني عما مضيت في سبيله من الكتابة والتأليف أو لتأخرت عنه ولما عالجته منذ مرحلة الصغر « ويعني الحنفي من كتابة هذه الخواطر عن الكرملي بان للتشجيع أثره العظيم في نفوس المبتدئين «.

ويحتفظ الحنفي في خزانته بدفاتر صغيرة كتب فـيها مذكراته اليومية عن مجلس الكرملي وفيها مزيج من ارائه ِ وملاحظاته وهوامشه أو من رأي الحاضرين في المواضيع التي يتم النقاش حولها في مجلس الكرملي ولو طبعها لأفاد منها كتاب التاريخ الأدبي أو السياسي. وأحتوت صفحات هذه الدفاتر على بعض الأسماء التي كانت تشارك في نقاشات مجلس الكرملي وكانوا يمثلون نخبة متميزة في حقول الأدب واللغة والثقافة والدين والتاريخ وغير ذلك ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عباس العزاوي ويعقوب سركيس وعبد الرزاق الحسني ومصطفى جواد والدكتور داود الجلبي ورزوق عيسى ويحيى محمد علي الدباغ ومحمد الهاشمي.

وأورد الحنفي طرفا ً من تلك المناقشات الأدبية في هذا المجلس فيذكر مثلا ً أن الكرملي يرجح أستعمال كلمة (المعاملة) بدلا ً مـن كلمة (العملة) ولم يكن تحت يديه نص يحتج به أمام مجادليه. فعبر الحنفي عن رأيه وأشار إلى بعض النصوص التي وردت في كتاب ألف ليلة وليلة فأعتمدها الكرملي لاحقا ً بعد أن وجد مصطلحا ً مــكتوبا ً ألا هو (نقود المعاملة)وهـذه الألتفاتة من الحنفي كما يقول عن نفسه مـــفتخرا ً أنما هي»التفاتة متطلع ومتضلع في الوقت نفسه. كذلك ذكر الحنفي في مذكراته جانبا ً من النقاشات التي كانت تدور بين الدكتور داود الجلبي والدكتور مصطفى جواد والأستاذ عباس العزاوي حول الألفاظ ومدلولاته.

لقد إنتفع الحنفي أنتفاعا ً كثيرا ً من حضوره المنتظم لمجلس الكرملي عبر الأحتكاك والتعرف عن قرب على رواد الفكر العراقي ممن نالوا شهرة في زمانه وكانوا في طليعة الكتاب والفقهاء والأدباء وقد أسهمت هذه المشاركات في تنشيط فعالية الحنفي في حقول الأدب والمعرفة، إلى جانب حصوله على الكثير من المعلومات الفولكلورية واللغوية والتي لا يتسنى الحصول عليها من مكان آخر. حـيث أطلعه الكرملي على مصادر متعددة ومعلومات جمة منها على سبيل المثال خرائط لمراقد الأنبياء في بغداد الموجودة في كتب فرنسية وكتب للرحالة غير المترجمة.

ومن خلال مجريات جلسات مجلس الكرملي وما جاء في مذكرات الحنفي يتوضح أن الكرملي توسم في الحنفي مهارات ومواهب فكرية كثيرة وكان يثق بأطلاعاته وتفسيراته ويرى في ذاكرته عمقا ً ووثوقا ً ولهذا فأنه لقبه منذ عام (1933) بـلــقـب (الشيخ) وكان الــحنفي يــــعتز بـهـذا الــلـقـب كــثـيـراً،وصار بمثابة توقيعه الشخصي.

كان الكرملي شيئا ً ثمينا ً في عقل الحنفي وفي مسيرته الثقافية لأنه حفزه على الكتابة في مجال اللغة وفي التراث الفولكلوري وفي معرفة اللغة وأمهات المباحث اللغوية كما أن الحنفي كان شيئا ً ثمينا ً في عقل الكرملي لأنه أفاده في التعريف بمواقع الخطأ التي ظهرت في مجلته (لغة العرب) أو غيرها من مباحثه اللغوية.

عن رسالة

(جلال الحنفي وأثره الثقافي في المجتمع العراقي).