تأسيس مدينة العمارة ومحلاتها القديمة

تأسيس مدينة العمارة ومحلاتها القديمة

د. حميد حسون العكيلي

يعود أصل تسمية مدينة العمارة إلى دواعٍ عسكرية كما يذكر أكثر من مؤرخ عراقي. فعلى أثر تمرد عشيرة البومحمد برئاسةِ فيصل الخليفة على السلطات العثمانية,وكان ذلك اعتماداً على ماحصل عليه الشيخ فيصل من المدافع بواسطة بعض الأمراء الإيرانيين,

فعند ذلك أرسل والي بغداد مصطفى نوري باشا(5/3 /1860- شباط1861) للتنكيل بهم وتأديبهم أمير اللواء محمد باشا الديار بكري ومعه من الجنود النظامية والهايتة مع اسلحة مدفعية وغيرها الشيء الكثير، فأتى إلى المحل الفاصل بين دجلة ونهر الجحلة(الكحلاء), وكان البومحمد جمعاً غفيراً فرماهم امير اللواء محمد باشا بالبنادق وفرق جموعهم , وانزل الجنود والعساكر في محلهم واتخذه مقراً للأردو أي الفيلق.والى الآن يدعو عشائر العمارة ذلك المحل بـــ(الأوردي).وبعد هروب الشيخ فيصل الخليفة...بقي الأوردي(الفيلق) محافظاً على إسمه مدة.وفي ايام الوزير نامق باشا(2/2/1862- 15/7/1868) أعاد الأوردي الى محله. وهناك تجمع كثيرون. ومن ثم تكونت البلدة باسم العمارة. والملحوظ أن الاراضي التي تكون فيها الأوردي قديماً كانت معروفة ذكرها مؤرخون عديدون في أزمنة مختلفة وقد غلط من ذكر أنها نالت اسم (عمارة) بعد ذلك التاريخ لما نالت من عمارات. فقد ذكرت في كتاب سيدي علي(مرآة الممالك) وكتاب يوسف المولوي(قويم الفرج بعد الشدة) وكان ذلك في القرن العاشر وما بعده.

وإذا ما أردنا أن نفصل في أسبابِ تأسيس مدينة العمارة، والتي لا تختلف كثيراً عن أسبابِ وظروف المدن الأخرى، فنقول: إن التأسيس كان بتأثير أمرين,احدهما العامل العسكري، الذي كان واضحاً جداً، فقد اتخذها الجيش العثماني مقراً له، مما دفعهُ إلى بناء معسكر ومباني أخرى لإيواء جنوده، الذين وقعت على عاتقهم مهمة بسط الأمن والحفاظ على النظام في تلك المنطقة التي تضم عشائر ذات شوكة.والآخر تأثير العامل الاقتصادي في تأسيس مدينة العمارة وتطورها، فهو بارز وواضح جداً، فإن الموقع الجغرافي المتميز للمدينةِ الواقع على ضفافِ أنهارٍ متعددة فتح لها مجالً ان تكون ملتقى لطرقِ التجارة البريةِ والنهريةِ، ولم يكن محض صدفةٍ ان تبُنى فيها احدى أهم محطات إدامة السفن وتزويدها بالوقودِ.

توافرت أسباب متعددة في تطورِ مدينة العمارة ونموها والتي أصبحت قضاءً منذ العام 1861، وكان أول قائمقام لمدينة العمارة هو عبد القادر الكولمندي، يقف في المقدمةِ منها موقعها الجغرافي المتميز، الذي يطل على نهرِ دجلة وفرعيه نهري الكحلاء والمشرح، فضلاً عن وقوعها على مفترقِ طرق بين البصرة وبغداد والأهواز ولرستان، فأصبحت المجهز الرئيس للبضائع الأوربية والأسيوية لبعض تلك الجهات. وكانت مدينة العمارة تقوم بتصديرِ بعض الغلال والمنتوجات التي عرفت بإنتاجها، لاسيَّما بعد ان ربطت المدينة بخطوط الملاحة النهرية المنتظمة.

بعد تأسيس لواء العمارة عام 1861 بأربع سنوات، رُقيت رتبة القضاء الإدارية إلى لواء تابع إلى ولاية بغداد, وبعد صدور النظام الإداري العثماني عام 1864، والذي أُلغيت بموجبهِ التقسيمات الإدارية السابقة الآيالات،وحل محلها وحدات إدارية سميت ولايات ,قُسم العراق إلى ولايتين رئيسيتين:هما بغداد والموصل وقُسمت الولايتين إلى ألوية , فقد ضمت ولاية بغداد ألوية البصرة والعمارة والحلة وكربلاء ونجد, فجاء لواء العمارة بالمرتبة الثانية بعد لواء البصرة, واستمرت هكذا حتى عام 1875عندما أصبحت البصرة ولاية فأُلحق لواء العمارة بها حتى اندلاع الحرب العالمية الاولى. وطبقاً للنظام الجديد قسُمت الولايات إلى وحداتٍ أصغر سميت اللواء والقضاء والناحية، وكان أول نتيجة لذلك تقليص عدد ايالات الدولة العثمانية من 40 أيالة إلى 27 ولاية، مما سمح لها بتعزيزِ سيطرتها المركزية على الأقاليم المضطربة بصورة مباشرة، عبر تطبيقها قانون الولايات الذي استمر نفاذه حتى الاحتلال البريطاني، وعلى وفق هذا الأمر، كان لواء العمارة مقسم إلى خمسة أقضية هي العمارة – مركز اللواء، وعلي الغربي وقـلعة صالح وقضاء دويــــريـج والكحلاء،كمــــا ضَم اللواء خمــــس نـــــواح هي: علي الشرقي والمجر الصغير وكميت والمجر الكبير والعزير، وبلغ نفوس العمارة (150) ألف نسمة، حسب إحصاء تخميني عثماني جرى عام 1913.

لنعد الى مركز العمارة حيث المدينة القديمة بمحلاتها العريقة:

تعد محلة القادرية التي انشأها القائد العثماني عبد القادر الكولمندي، الذي حَكم العمارة في المدةِ 1861-1866، أقدم محلة سكنية في العمارةِ. حصل مع مرورِ السنين توسع عمراني في مدينةِ العمارة،لاسيَّما بعد نزوح العديد من العوائل والعشائر القريبة اليها والاستقرار فيها، لاسيما في منطقةِ المسجد الكبير والمنطقة المحيطة بسجنِ العمارة المركزي والذي يقع في الطرفِ الجنوبي للمدينةِ حيث حوّلَ فيما بعد إلى مديريةِ تربيةِ العمارة. أما المحلة المهمة الأخرى في مدينة العمارة فهي محلة السراي،سميت هكذا لقربها من سراي الحكومة العثمانية، إذ بنيت حوله المساكن والحوانيت والمحلات، حتى أصبحت محلة كبيرة تسمى السراي، ضَمت هذه المحلة أهم المباني الحكومية، كقصر المتصرف، والمستشفى الملكي، والبناية القديمة لمحطةِ الكهرباء، والمركز العام للشرطةِ، وتوسعت بالتدريجِ، وأصبح بجوارها دكاكين وأسواق، حتى غدت لها معالم معروفة، باقية حتى اليوم، ومن أشهرها البنك البريطاني (البنك الشرقي المحدود) تسكُن هذه المحلة، التي أصبح شارع بغداد الممتد من جسرِ الكحلاء شرقاً، وحتى الضفة الغربية لنهرِ دجلة غرباً حدودها الجنوبية، أقدم العوائل الميسورة، لاسيما ذات الإصول البغدادية والنجفية، وبعض العوائل اليهودية والمسيحية وغيرها من العوائل ذوات الأصول المتنوعة، ولا زالت تحمل نفس الاسم حتى الآن.

أما محلة السرية، التي أخذت اسمها من سري باشا متصرف لواء العمارة 1871-1874، فكانت إحدى المحلات المهمة في العمارةِ، تقع في النصفِ الشرقي من رأسِ شبه جزيرة العمارة، والتي يمتد عمرانها حتى ضفاف نهر الكحلاء شرقاً وإلى شارعِ بغداد جنوباً، كان أغلب ساكنيها من التجارِ والفلاحين وبعض المهاجرين من الريفِ.

أما محلة الماجدية، فإنها تقع على الضفةِ الشرقية من نهرِ الكحلاء، وإلى الشمالِ من نهرِ المشرح، تنتهي حدود هذه المحلة من جهةِ الشرق ببساتينِ ومزارع واسعة، التي تزود مدينة العمارة ببعضِ حاجاتها من الفواكهِ والخضروات، يعود تأسيس هذه المحلة إلى ماجد مصطفى، متصرف لواء العمارة 1938-1941، فضلاً عن ذلك كانت هناك محلة المحمودية، وهي من المحلات القديمة في مدينةِ العمارة، وأخذت اسمُها هذا نسبةً إلى محمودِ الإبراهيم، التاجر الكبير في المدينةِ، سكنها عدد من العوائل الكردية، غير ان وجود ورشة لصناعةِ الصابون فيها، جعل اسم محلة الصابونجية يغلب عليها. وتعد محلة التوراة من المحلاتِ التي واكبت إنشاء مدينة العمارة، واتخذ اسمها كون أغلب ساكنيها من اليهود، وفيها كنيس يهودي. ولا نبالغ إذا سجلنا هنا، إن نسبة اليهود لمجموعِ سكان اللواء كبيرة نسبياً، لدرجةِ إنها تأتي بعد نسبة اليهود في بغدادِ، وأغلب بيوتات محلة التوراة , التي ضمت الكثير من العوائل المسيحية,من البيوتات التي تمتهن التجارة والصيرفة وبعض الحرف , ومن أبرزها هي أسرة بيت كوهين ورئيسها نسيم كوهين. بالمقابلِ كانت العوائل المسيحية هي الأخرى تمتهن التجارة، ووكالة بعض الشركات الملاحية، فقد كانت عائلة جان وكلاء لشركةِ لنج للملاحةِ النهرية.

مما يجدر ذكره هنا، إن مركز لواء العمارة لم يضمُ وحدات إدارية فرعية حتى تموز عام 1945، الذي استَحدث فيه مجلس الوزراء قضاء مركز لواء العمارة،الذي الُحقت به أربع نواحٍ هي , الكحلاء التي تقع في الجنوبِ الغربي من مدينة العمارة, وهي في الأساس قرية، أسسها الشيخ فيصل بن خليفة أحد شيوخ البومحمد في العامِ 1848 وكان اسمها عند التأسيس مسيعيدة( مسيعيدة: اسم أطلقه الشيخ فيصل الخليفة من البومحمد على وصيفته(خادمة البيت) مسعدة أي السعيدة شغفاً وحباً بها، الكحلاء المكان الكثير النبات )، تقع هذه الناحية التي استُحدثت في العامِ 1881، وبقيت تابعة لمركزِ لواء العمارة حتى عام 1945 يحدها من الشمال مدينة العمارة، ومن الشرق هور الحويزة، ومن الجنوب والجنوب الغربي قلعة صالح، وتبعد الكحلاء، التي يبلغ عدد سكانها حسب إحصاء العام 1947 حوالي 48,326 ألف نسمة عن مركزِ لواء العمارة حوالي 30كم.

عن رسالة (علاقة الإقطاعي بالفلاح في العراق 1932- 1958 لواء العمارة أنموذجاً )