(الأمير الصغير) يبلغ الشيخوخة على كوكبه ورؤيته تختلف

(الأمير الصغير) يبلغ الشيخوخة على كوكبه ورؤيته تختلف

كاتيا الطويل

لم يتوقع الكاتب والطيار الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري (1900- 1944) أن يضع قصة فلسفية ستتحول إلى أكثر كتاب يحصد أرقام مبيع في الأسواق العالمية والمكتبات. لم يتوقع كاتب القرن العشرين هذا، أن يترجم عمله “الأمير الصغير “ الذي لا يتعدى المئة والعشر صفحات،

إلى أكثر من مئتي لغة، وأن يكون أكثر الكتب ترجمة في العالم من بعد الإنجيل المقدس. ولم يتوقع هذا الجندي الفرنسي الوطني الذي توفي من أجل وطنه، أن توافيه المنية بالطريقة نفسها التي يلتقي بها الراوي بالأمير الصغير، سقوطاً من طائرته.

يرجح كتاب السير أن أنطوان دو سانت إكزوبيري توفي عندما سقطت طائرته في إحدى رحلاته الجوية الاستطلاعية التي كان فيها بمفرده، ويرجحون أن ألمانيا أسقطها عمداً، وليس الأمر بحادثة ناجمة عن عطل تقني. وقد بدأت هذه النظريات بالتبلور عندما اكتُشفت جثة الكاتب في سنة 1988 على أحد شواطئ فرنسا الجنوبية قبالة مرسيليا. وسانت إكزوبيري، الذي دأب على تحليل قيم مجتمعه وأخلاق أهله كما دأب على متابعة الأخبار السياسية المحيطة به، عرف عنه خوفه من أن تبتلع دول المحور (إيطاليا- ألمانيا- اليابان) العالم بأسره وأن تسيطر بقيمها الفاشية النازية الاستبدادية على دول العالم كله، فكان في الولايات المتحدة في رحلة دبلوماسية عندما وضع مؤلفه الفلسفي “الأمير الصغير” القائم على نص وصور مطعمة بحكم وفلسفات وقيم إنسانية.

وعلى الرغم من أن البعض قد يعتبر الرواية القصيرة “الأمير القصير” قصة للأطفال، فإن المسألة تتخطى ذلك بوضوح. فهذه القصة الشاعرية المنحى، الفلسفية العمق، إنما هي رؤيا للعالم ودعوى إلى التأني والعيش بحكمة وحب وتفاؤل. إن الراوي الذي تسقط طائرته في الصحراء ويلتقي “الأمير الصغير” الآتي من كوكب آخر يفهم معاني الصداقة والاهتمام بالآخر وتكريس الوقت للآخرين. فمن منا لا يحفظ الجملة الشهيرة “إنما بقلبه يرى المرء بوضوح، فالجوهر غير مرئي للعيون”. أو الجملة الرائعة “إنه الوقت الذي كرسته لوردتك، ما يجعل وردتك مهمة للغاية”. اعتمد الكاتب الفرنسي الأربعيني الحكاية الرمزية وسيلة للتعبير عن قضايا مجتمعه وهمومه ومخاوفه. أوصل سانت إكزوبيري الواقع الإنساني عبر وردة وأفعى وثعلب وشخصيات من كواكب مختلفة ليرمز إلى أفكار إنسانية ومفاهيم حياتية أرادها لإنسان زمنه.

يجد القارئ العربي اليوم نفسه أمام هذا “الأمير الصغير” نفسه إنما بعد سبعين عاماً، فيقدم الرسام والكاتب نبيل أبو حمد قصة قصيرة بنص ورسومات مائية تشكل تابعاً لقصة سانت إكزوبيري وتكملة لها إن شئنا. وقد صدرت عن الدار العربية للعلوم ناشرون (2021) بعنوان “شيخوخة الأمير الصغير”. أبو حمد قلب الأدوار هذه المرة وأرسل راويه رائد الفضاء القادم من كوكب الأرض إلى كوكب “الأمير الصغير”، فماذا وجد هناك على كوكب هذه الشخصية الأسطورية، وهل نجح أبو حمد في الحفاظ على روح نص أنطوان دو سانت إكزوبيري الأصلي المطعم بالرمزية والفلسفة والإيحاءات؟

فضاء سردي فني

في بنية قائمة على التوازي السردي، قدم نبيل أبو حمد رحلة مضادة لرحلة قصة «الأمير الصغير». فبينما يأتي الأمير الصغير في قصة سانت إكزوبيري إلى كوكب الأرض ليكتشفه ويكتشف عادات أهله، يرسل أبو حمد رائد فضاء إلى كوكب الأمير الصغير، أو مجرته كما سماها، وذلك بمحض مصادفة ناتجة عن عطل تقني في مركبة الراوي الفضائية. وبينما يكون راوي سانت إكزوبيري مرشد الأمير الصغير على كوكب الأرض، يتحول الأمير الصغير مرشد راوي أبو حمد، فيمشي معه على سطح كوكبه ويجعله يكتشف المباني والناس والحدائق والساحات والعادات والتقاليد. فيصف أبو حمد الاستقبال الذي تلقاه عند وصوله إلى هذا الكوكب الغريب قائلاً «مخلوقات تحمل بعض الزهور ولها رؤوس في شكل علامات استفهام يبتسمون وينحنون مرحبين، وفي وسطهم رجل سميته فوراً الرجل لأنه يشبهنا لكنه كهل وصليع الرأس، له لحية بيضاء وعينان لامعتان يبتسم بمحبة مريحة تدعو للاطمئنان يحمل بيده عكازاً» ص 15. ويوسع الراوي وصف الأمير الصغير الذي غزاه الشيب قائلاً «كان ظهره مقوساً للأمام من حيث الرأس... لكنه في الشكل أقرب إلى ملامح أهل الأرض متميزاً عن كل الآخرين... عاد إلي الأمير بابتسامته الرقيقة وقال: لا بد أنك سمعت عني.. فأنا «الأمير الصغير» الذي كتب عني أديبكم المعروف أنطوان دو سانت إكزوبيري روايته الشيقة...» (ص: 15).

يختار أبو حمد أن يحافظ على صورة الأمير الصغير الأساسية بملابسه نفسها وتعابير وجهه نفسها، وذلك في صور مائية جميلة وملونة ومنعشة. يضفي أبو حمد على نصه لمسة جمالية وإبداعاً وخيالاً دافئاً عبر تقديمه هذه المائيات الجميلة إلى جانب نصه، ليتحول الكوكب الجديد إلى شيء مألوف بعض الشيء بالنسبة للقارئ وفي متناول يده ومخيلته.

وبينما يختار الكاتب أن يستعيد بعضاً من حكم الأمير الصغير في مواضع من نصه، نراه يضيف إليها شيئاً من لمسته، فيقول في أحد المواضع ملخصاً الحياة “نولد... نؤدي... نموت... هذه هي الحكاية”. (ص: 43) يلخص الكاتب على لسان أنثى عجوز من سكان كوكب الأمير الصغير دورة الحياة الإنسانية ببساطة وسلاسة تضارع لغة سانت إكزوبيري الجذلة.

كوكبان مختلفان

يفاجأ القارئ أمام هذا النص بصفات الكوكب التي اختارها أبو حمد لكوكب الأمير الصغير. فالكوكب الصغير القديم الذي ما كانت توجد عليه سوى وردة هادئة مدللة، تحول إلى كوكب يعج بالروبوتات والمباني والساحات. تحول كوكب الأمير الصغير إلى معقل للتكنولوجيا والآلات والتطور الإلكتروني. وعلى الرغم من أن الأمير الصغير هو الكائن الوحيد الذي يملك شكلاً خارجياً يشبه شكل الإنسان، فإن الكائنات الأخرى الموجودة على هذا الكوكب الغريب تملك صفات بشرية كثيرة، فهي تحب وتأكل وتمرض وتتعب وتنام وتنتخب وتعمل وتموت. هناك وظائف وحدائق ووسائل تنقل ووسائل تواصل وتلفاز وأحزاب وموسيقى وغيرها من معالم الحضارة الإنسانية. فأين الوردة، وأين الكوكب الصغير، وأين الشمس التي تغيب ثماني وأربعين مرة؟

يفاجأ القارئ أمام العالم الجديد الذي خلقه أبو حمد لأميره الصغير، فأمير سانت إكزوبيري البسيط الهادئ القادم من كوكب صغير فارغ تغيب الشمس عنه ما يزيد على خمس وأربعين مرة، تحول إلى عالم متقدم جداً تسيطر عليه الآلات والتكنولوجيا. وعلى أن أبرز سمات كائنات هذا الكوكب هي حب المعرفة وحب التطور والسلام والتآخي.

“شيخوخة الأمير الصغير” محاولة جميلة للكاتب نبيل أبو حمد من ناحية النص والمائيات الزاخرة بالألوان والأبعاد الجميلة، محاولة جلبت الشاعر والفيلسوف العربي العريق أبا العلاء المعري (973 - 1057) نفسه إلى النص بأبياته الرائعة، لتلتقي فلسفته بفلسفة الأمير الصغير الذي يرى جوهر الأمور بقلبه ليس بعينيه: “أما اليقين فلا يقين وإنما – أقصى اجتهادي أن أظن «.