أنطوان دي سانت اكزوبيري ملحمة وجودية بصوت طفولي

أنطوان دي سانت اكزوبيري ملحمة وجودية بصوت طفولي

د.محمد ابراهيم الزموري

تمكننا الكتب الجيدة، من نبش الماضي وفهم الحاضر والتنبؤ بالمستقبل، سواء كان الكتاب فكريا او علميا أو ادبيا، فهو يملك من السحر الكثير ومن المخزون الفكري ما يوضح الرؤى، سواء كان موضوعيا أو ذاتيا، فهناك دائما رسائل مبطنة مهما بدت بسيطة في صياغتها، يقول أمين معلوف «إذا قرأت «قراءة فعلية» أربعين كتابا حقيقيًّا خلال عشرين عامًا، فبوسعك مواجهة العالم».

فهناك العديد من القصص التي تشبهنا، وتتقمص واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعاطفي، وربما هو راجع إما لفرط تأثرنا بالكتاب أو أن الكتب الجيدة والصادقة تأسرنا وتحكمنا في شع ابداعها الملهم، يقول ارنست هيمنغواي «جميع الكتب الجيدة متشابهة بأنها أكثر صدقًا مما لو كانت تروي ما حدث فعلًا، ومع ذلك ستشعر بعد الانتهاء من قراءة أحدها أن كل ما حصل بها قد حصل لك أنت، وكل شيء ينتمي لك».

من ضمن تلك الكتب المؤثرة نجد رواية «الأمير الصّغير» للكاتِب والطيار الفرنسي أنطوان دي سانت إكزوبيري، نُشِرت الرواية لأوّل مرّة سنة 1943 في نيويورك، ولاقت منذ ذلك الحين رواجًا هائلًا بين النّاس من مختلف الأعمار، وتُرجِمت إلى أكثر من 300 لغة، وتمّ عرض قصّتها في الأفلام والرسوم المتحرّكة والقصص المصوّرة، كما تدرّس هذه الرواية في المقرّرات الدراسية للأطفال وفي الجامعات، ففي صيف العام 1942 عندما كان أنطوان دي سانت اكزوبيري يعيش منفيا في نيويورك، وكانت حينها فرنسا محتلة، ولدت حكاية ذلك الكتاب من لحظة مزاح، رسم فيها اكزوبيري صبيا أشقر على غطاء طاولة في أحد مطاعم نيويورك، كان أحد الناشرين الأميركان حاضرا، فطلب منه أن يكتب قصة للأطفال، يكون ذلك الصبي بطلها.

وهذا ما حدث، كتاب صنعته الصدفة، غير أن الأمل الممتزج بالألم كانا حقيقيين، وهو ما يسّرَ للكاتب أن يبعث رسائل إلى البشرية محملة بالدعوة إلى السلام والمحبة من خلال براءة لغة ذلك الصبي، ولأن اكزوبيري كان طيارا وقد سبق لطائرته أن تعطل محركها وهبط بها في الصحراء، فقد كان ميسرا عليه أن يتخيل ما الذي يمكن أن يفكر فيه فتى قادم من كوكب بعيد وجد نفسه في بيئة لم تكن تحمل الكثير من الإشارات الإيجابية وهو ما جعل غربته مضاعفة.

حكاية الصبي الغامضة هي نفسها حكاية مؤلفها، فالاثنان يشتركان بشعور عميق بالضياع والشك الذي يحيط مصيرهما، لقد تكلم اكزوبيري بلسان الأمير الصغير ما كان يفكر فيه في واحدة من لحظات حياته الملتبسة.

تحدثت الرواية عن الحلم وكيف يتم استهزاء الكبار من أحلام الأطفال والمراهقين إلى التجارب السيّئة والعراقيل الكثيرة التي مرّوا بها وأخمدَت فيهم شرارة الأمل والممكن، لكن هل يجوز أن تقتل الحلم في شخص آخر لمجرّد أنّ الحلم داخلك قد مات؟

وتتحدث عن الوجود فأثناء زيارته لعدد من الكواكب، تعرّف الأمير الصغير على عدد من الشخصيات، تعيش كل واحدة منها وحيدة على كويكب صغير جدًا، من بينها: مَلِك يؤمن بأنّه يحكم كل شيء حتى النجوم والمجرّات البعيدة، ومهرّج متلهّف للإعجاب والتصفيق، وسكّير يشرب الخمر للهروب من عار شرب الخمر، ورجل أعمال يمضي كلّ وقته في حساب عدد النجوم لأنّه يعتقد أنّها ملكه، وباحث في الجغرافيا لم يخرج يومًا من مكتبه، ورغم الاختلاف الظاهري بين هؤلاء الأفراد، إلاّ أنّهم جميعًا يشتركون في صفة واحدة: «انعدام الفائدة»، فكلهم منغلقون في عالمهم الصغير داخل قوقعة متعفّنة من الانطواء على الذات.

لو أنّ واحدًا من هؤلاء وقف أمام نفسه بصدق، ووضع طريقة تفكيره أمام الامتحان بصدق، لاكتشف مدى عبثيّة الأسلوب الذي يقضي به حياته، وربّما، هذا ما يجب أن يفعله كلّ واحد منّا أيضًا! أن نقف أمام ذواتنا لنحاول تقييم أنفسنا بكل موضوعية، وتحديد ما إذا كان وجودنا على هذا الكوكب يجلب نفعًا لنا وللآخرين، أم أنّنا نعيش فقط في دائرة مغلقة من الفراغ الوجودي؟

الرّواية تحدّثت بإسهاب عن قيمة الحبّ، وأهمية الوقت الذي نقضيه مع أحبّائنا والجهد الذي نبذله للعناية بهم، تذكّرنا كذلك بأنّ «الأمور المهمّة لا تُرى بالعين، بل بالقلب»، وغيرها من النّصائح البسيطة التي ننساها في زحام الأيام.

ونصطف اتفاقا مع ما ذهب اليه الكاتب فاروق يوسف من أن «الأمير الصغير» كتاب لا نمل من قراءته، ذلك أنه يضيف إلى متنه جملة خفية بعد قراءة كل جملة منه، إنه «أمير الكتب وأبهجها» حسب قول أحد النقاد، كتاب طيّار كصاحبه لا يأبه بالمطبات، ولا يحط إلا على أصغر الكواكب وألطفها في تلافيف العقل البشري، كتاب «الأمير الصغير» ينتمي إلى فصيلة الكتب التي «تُميت ولا تموت».

لم يعش اكزوبيري طويلا حتى يرى الفتى الذي رسمه خلسة على إحدى مناضد الطعام في مطعم بنيويورك، وقد تحول إلى أيقونة شعبية تزين القمصان والقبعات والأشرطة الاحتفالية، وتحتل دميته واجهات المخازن الكبرى في مختلف أنحاء العالم، لكن لو كان الأمر بيد اكزوبيري لما سمح بأن يتحول أميره الحزين إلى وجبة استهلاكية تدر على الرأسماليين أموالا يستحقها العشاق الفقراء.

مرتبط