رحيل إيتيل عدنان المبدعة العالمية بين الشعر والرسم

رحيل إيتيل عدنان المبدعة العالمية بين الشعر والرسم

عبده وازن

حال المرض الذي أنهك جسد الشاعرة والرسامة إيتيل عدنان في الأشهر الأخيرة، دون مشاركتها في افتتاح معرضين استعاديين لها، كرّسا اسمها في المشهد التشكيلي العالمي الراهن، الأول في متحف غوغنهايم العريق في نيويورك، والثاني في مركز بومبيدو الشهير (فرع ميتز).

وبينما كانت الصحافة والأوساط الفنية تحتفل بهذين الحدثين الكبيرين، أسلمت الشاعرة والرسامة روحها في منزلها الباريسي، وكانت إلى جانبها رفيقة عمرها الرسامة سيمون فتال. عندما أثقل المرض عليها في الأسابيع الأخيرة كانت تلحّ على طبيبها الفرنسي قائلة له: “اجعلني أغيب”، وكان الطبيب عاجزاً تماماً عن منحها “قربانة” الموت الرحيم، وهي التي كانت تفيض روحها حياة وشعراً وفناً، بينما ينحدر جسدها في هاوية الأوجاع المبرحة، خائناً رغبتها في الرسم التي ظلت تساورها حتى الرمق الأخير.

ولعلها حين لفظت آخر أنفاسها تذكرت جملة من قصيدة تقول فيها: “هذا المساء، سأنام مبكراً يا أصدقائي لأن الظلمة تكاثفت كثيراً.../ وسأحاول ألا أضيع المفتاح/ وأن أنام مثلما ينام الأطفال/ كما أظن”. هذه الطفولة كانت تعاود الشاعرة التسعينية في شيخوختها، فتستعيدها بحبور وفرح، من دون أن تفقد لحظة، عمق نظرتها الوجودية.

الإلتزام الإنساني

رحلت إيتيل عدنان عن 96 عاماً، قضت ردحاً كبيراً منها، مأخوذةً بهموم الشعر والفن والثقافة والالتزام، بل و»النضال»، ولكن في مفهومه الإنساني، أو «الإنسانوي» الشامل، المثالي والطوباوي. ويذكر أصدقاؤها وقراؤها كيف أنها عندما بدأت اعتناق الإنجليزية بعد انتقالها إلى أميركا كتبت قصيدة في هذه اللغة، عن حرب فيتنام، وأعلنت فيها رفضها هذه الحرب وكأنها واحد من شعراء الرفض أو شعراء مدرسة «بيت جنرايشين» الشهيرة. كانت إيتيل مواطنة من العالم، في كل ما تعني هذه الصفة من معاني الانفتاح والتثاقف والتعدد.

كانت لبنانية المولد، سورية الأب، يونانية الأم، عربية، فرنسية وأميركية... وبدت في الوقت نفسه كأنها تنتمي إلى الشعوب المضطهدة من الهنود الحمر الذين كتبت عن قضيتهم، فإلى الشعب الفيتنامي الذي ناهضت الحرب التي شنت ضده، إلى الجزائريين الذين خاضوا حرب التحرير القاسية ضد الاستعمار الفرنسي، إلى الفلسطينيين الذين احتلت إسرائيل أرضهم، وعانوا الاضطهاد على مرأى من العالم، فإلى العراقيين الذين دمرت الحرب وطنهم، واجتاحت أرضهم القوات الأميركية... ناهيك بموقفها الرافض للحرب الأهلية في لبنان، التي دفعتها إلى هجره، بعد أن كانت قد عادت إليه عام 1972، لتشارك في حياته الثقافية ونهضته الحداثية التي كانت قد انطلقت في الستينيات.

ولئن كانت إيتيل متعددة الجذور واللغات و”الهويات”، فهي لبثت إيتيل الشاعرة والرسامة، التي تنتمي إلى الإنسانية من غير أن يحرجها هذا الانتماء المفتوح، وطنها اللغة التي تخاطب بها من يقرؤها بالفرنسية أو الإنجليزية، أو في العربية التي ترجم الكثير من كتبها وقصائدها إليها أو في اللغات الأخرى. حتى في الرسم بدت لوحاتها تفيض بروحانية الشرق ونور المتوسط وزرقة بحره وسمائه وملامح الحداثة الأوروبية والأميركية، ما جعل فنها عالمياً بقدر تجذره في أرض الشرق والمتوسط. ولعل هذا التفرد الفني هو ما جعل المتاحف الكبيرة تفتح أبوابها لأعمالها البديعة.

الهوية المتعددة

ولئن ولدت إيتيل في لبنان في بيت لا يجيد العربية، ولا يتكلم بها إلا نادراً، فهي أعلنت عندما اكتشف دعوتها الفنية أنها “سترسم بالعربية”، بعد أن عجزت عن الكتابة بها. والدها السوري المسلم، كان ضابطاً في الجيش العثماني يتحدث التركية، وأمها يوناينة أرثوذكسية تتكلم اللغة اليونانية، وقد سجلا ابنتهما في مدرسة كاثوليكية فرنسية تابعة لأحد الأديرة، فأصبحت الفرنسية لغتها الثالثة والأساسية بعد إجادتها التركية واليونانية، ثم تعلمت الإنجليزية والألمانية، حتى غدت سليلة هذه اللغات المختلفة كل الاختلاف التي تضج في رأسها ووجدانها، بما تحمل من جذور إثنية وحضارية.

وقد تطرقت إيتيل إلى تعددها اللغوي هذا في مقالة مهمة عنوانها “الكتابة بلغة أجنبية”، وأشارت فيها إلى بدايتها في كتابة الشعر بالفرنسية في الدير الكاثوليكي، وإلى محاولة والدها تعليمها الكتابة بالخط العربي. وتذكر كيف أنها تعلقت بالخط العربي من دون أن تجيد اللغة، وكيف أنها وجدت ذاتها الحقيقية في بيروت الغريبة عن عالم أبيها وأمها، هذه المدينة التي شهدت فيها “عاصفة صغيرة” من لغات وحروب ورغبات.

أول ما قرأت لإيتيل عدنان ديوان عنوانه “خمس حواس لموت واحد”، ترجمه إلى العربية الشاعر الرائد يوسف الخال، مؤسس مجلة “شعر”، وأصدره عام 1973 عن “غاليري وان” الذي كان يملكه، مع رسوم للفنانة سيمون فتال. وكان هذا الديوان بمثابة اكتشاف فعلاً، لا سيما أن القصيدة التي يضمها تختلف كل الاختلاف عن شعر الخال، وتخرج عن ذائقته الشعرية، وعن رؤيته إلى الفن الشعري، وهو الذي دأب على ترجمة إليوت وازرا باوند وروبرت فروست، وسواهم من الشعراء الأنغلوساكسونيين الحداثيين “المحافظين”. فهذه القصيدة تنتمي بروحها ولغتها إلى الشعر الأميركي الحديث والحديث جداً الذي واصل مسار شعراء “بيت جنرايشين”، أو “مدرسة نيويورك الشعرية”. وبدت ترجمته جميلة جداً على الرغم من أن القصيدة تتمثل خريطة شعرية جديدة، وتحفل بأسماء وحالات ومعالم غير مألوفة عربياً، ومنها مثلاً: اسم جيمس دين وبوب ديلان وشحصية الهندي الأحمر ومارلين مونرو والبوليس وماسح الأحذية والدراجة وصالة السينما، وسواها. وكان الخال قد طلب سابقاً من الشاعر العراقي سركون بولص أن يختار قصائد لإيتيل عدنان، ويترجمها لينشرها في مجلة “شعر”. ويمكن القول إن بولص هو أول من ترجم شعر عدنان الإنجليزي طبعاً، وليس الفرنسي.

بعد هذا الديوان رحت أبحث عن شعر إيتيل، ووجدت بعض الدواوين بالفرنسية وبعض الترجمات العربية، وهي غير قليلة. وقد أسهم في ترجمة أعمالها الشعرية والنثرية في كتب: فواز طرابلسي وعابد عازريه وشوقي عبدالأمير وخالد النجار وفايز ملص وسعدي يوسف وجيروم شاهين ودانيال صالح وأوديت خليفة. وقد ترجم لها كاتب هذه السطور قصيدتين طويلتين هما “ليل” و”فصول”، صدرتا في كتابين عن دار غاليري أليس مغبغب، ضمن مشروع سوف يشمل ثلاثة دواوين أخرى. عطفاً على ما نشر لها من قصائد متفرقة في المجلات والصحف ترجمها: عيسى مخلوف وشربل داغر وصباح الخراط زوين وجمانة حداد وعقل العويط وإسكندر حبش وعلي مزهر، وسواهم.

غير أنني كلما قرأت شعر إيتيل عدنان أشعر بحاجة إلى أن أقرأ مزيداً منه، والذي يصعب الحصول عليه. إنها المشكلة التي تواجه قارئ الشاعرة الكبيرة المتمثلة في “تبعثر” دواوينها وقصائدها بين الفرنسية والإنجليزية والترجمات العربية، بل هي عدم خضوع الدواوين لتوثيق كرونولوجي وتاريخي يكشف عن تواريخ صدورها واحداً تلو آخر. هذا “التبعثر” يحول دوماً دون قراءة أعمالها قراءة شاملة ومنهجية. حتى الشاعرة نفسها لم تكن تذكر بالتفصيل ما كتبت من شعر ونصوص ومقالات، لا سيما في مرحلة بيروت وعملها في جريدة “الصفا” الفرنكوفونية. ولعل أول مبادرة يجب الأخذ بها بعد رحيلها، هي جمع أعمالها الكاملة جمعاً توثيقياً وكرونولوجياً، ولم شمل قصائدها في اللغات الثلاث. فهذه الشاعرة الكبيرة خلقت لغة خاصة بها وأساليب تختلف باختلاف زمن القصائد وأمكنتها وقضاياها، عطفاً على سبرها آفاقاً غير مألوفة، سواء في الشعر الفرنسي والأنغلوساكسوني. عالمها الشعري واسع، ولا يمكن الإحاطة به بسهولة، ومصادره متعددة، مثل تعدد شخصية الشاعرة نفسها وتعدد معاجمها وحقولها.

الرسامة الرائدة

إلا أن الكلام عن شعر إيتيل عدنان لا يكتمل من دون التطرق إلى عالمها التشكيلي والفني الغني والمتعدد أيضاً في الأساليب والتقنينات والفضاءات. فهذه الرسامة التي تتمتع بشهرة عالمية فرضت وجودها بجماليات فنها وخفة أشكالها وألوانها وبداهة عفويتها المبدعة وتلقائية رغبتها التعبيرية، كما يشير الناقد الفرنسي ميشال بودوسون في دراسة له عنها. ويتوقف أمام تعدد عناصرها الفنية التي تتراوح بين اللوحات والرسوم والرسم بالحبر الهندي والنسيج المطرز والخزفيات وفن الخط والكتب الأكورديون (ليبوريللو).

وكم يعبر العنوان الذي اختاره مركز بومبيدو – ميتز للمعرض الاستعادي لإيتل عدنان، وهو “أن أكتب يعني أن أرسم” عن فرادة تجربتها الجامعة بين الرسم والشعر. فإيتل شاعرة الرسم، ورسامة الشعر إذا جاز القول، وعالمها الذي يفيض بالألوان المشرقة والمتفجرة بلطافة وعذوبة وشفافية هو شبيه بعالمها الشعري الذي يحفل بالصور والمشاهد والأصداء والأنوار الداخلية. يقول الناقد الفرنسي بودسون: “ما يجذب العين في لوحات إيتيل عدنان قبل كل شيء هو السرور، لا بل سعادة التأمل. إلا أن هذه البساطة المطبوعة بالفرح التي تتكشف عن هذا الانطباع الأول، لن يكتمل معناها، ولن تترك بصمة فينا، إلا إذا وجهنا انتباهنا من ثم إلى تنوع شخصيتها وعمقها وحيويتها”. ويتحدث الناقد عن تلاقي “عمل اليد وعمل الروح، في لوحاتها، على غرار الحركة والكلمة اللتين أصبحتا محط النظر”. وهنا نتذكر ما قالته إيتيل: “أرى لأرسم، وأرسم لأرى... إن الرسم يعبر عن مكاني السعيد، ذلك الذي يشكل واحداً مع الكون».

عن صحيفة الاندبندت عربية