الملا عبود الكرخي..  حقائق وطرائف

الملا عبود الكرخي.. حقائق وطرائف

اعداد: عراقيون

في مثل هذه الايام من شهرتشرين الثاني عام 1946 توفي أمير الشعر الشعبي العراقي وأشهر أسمائه، الملا عبود الكرخي، الزجال والناقد الساخر والصحفي الجريء، وصاحب ملحمة (المجرشة) الشهيرة.

وُلِد الشاعر الكرخي في بغداد عام 1861م في جانب الكرخ لذلك سمي بالكرخي، وانتقل الملا عبود الكرخي وأخوه الملا توفيق إلى العمل في مصلحة لنقل المسافرين والزوار من بغداد إلى كربلاء والنجف في عربات اتخذت لهذه الغاية،. وقد هيّأ للملا عبود الكرخي عمله هذا اتصاله بمختلف أصناف الناس وأسفاره البعيدة وتنقلاته بين مختلف البلدان وان يتقن الحديث باللهجات الحضرية والبدوية وان يلم بالفارسية والتركية والهندية وبشيء من الألمانية وساعده ذلك على صقل عبقريته في نظم الشعر الشعبي حتى برز فيه ثم احترف الزراعة فلم يوفق فيها فتحول إلى الصحافة. وعندما قامت الثورة العربية عام 1916م شارك الكرخي مع بقية المجاهدين في هذه الثورة، وعند قيام المستعمرين البريطانيين باحتلال البلاد كانت له مواقف مشهودة بإنشاده القصائد الوطنية في جامع الحيدرخانة الذي كان محطة تجمّع الثوار. وفي عام 1927م أصدر جريدة (الكرخ) حيث لاقى من جرائها الكثير من المصاعب، فسُجن وقـُدم للقضاء لمحاكمته، بعدها أصدر جريدة الملا والمزمار وهما من الصحف الشعبية كان يتنافس على مسؤوليتهما كبار المحامين أمثال توفيق الفكيكي واحمد حامد الصراف، كما أن شاعرنا الكرخي كانت له مواقف بطولية إنسانية تجاه المرأة كونها ذات كرامة وكبرياء وعزة نفس من خلال كونها الأم والزوجة والأخت والبنت، فكان شعره في إنصافها هو انتفاضة بحق المفاهيم الفاسدة التي سادت المجتمع في حينه، لذلك عالج تعاسة المرأة من خلال قصيدته المعروفة «المجرشة».
نقدم في هذه الإضمامة من اخبار الكرخي واحواله، بعض الطرائف وحياته تعج بهذه الطرائف حتى حسبه البعض من اشهر ظرفاء بغداد، وحقائق فقد كتب عنته الكثير واختلطت بعض الكتابات بما هو بعيد عن الحقيقة، وأولها قضية ولادته.
متى ولد؟!
يقول الاستاذ حسين حاتم الكرخي حفيد الشاعر الكرخي وناشر آثاره:
لد عام 1861 في جانب الكرخ من بغداد (حسب دفتر نفوسه وجواز سفره)، ولكن الادلة والقرائن تحدد ولادته بعام 1855م، يؤيد ذلك قول الشاعر نفسه في عدة مواضع من شعره انه بلغ التسعين وربما تجاوزها:
قد بلغت من العمر تسعين عالم
لم تكن الا خيالا في منام
انا شيخ وهمتي همة غلام
واسيب عالحيطان سيبة حيه
واكد ذلك بقوله مخاطبا المرحوم حكمة سليمان:
وعمري قد بلغ تسعين
سنة يا قدوة الاوطان
وقال ايضا في قصيدته (الخرافيات):
رجلي ييلي كبري مهريش وسني
بلغ تسعين، سل عني الحبوبات
ولكن الاكثر اهمية ووضوحا قوله:
ويحذر (القناة) افطن انا رجال
ولما كانت قناة السويس قد احتفرت عام 1859 وافتتحت عام 1869 وانه مر بها وهو (رجال) والرجال في عرف الناس ايام زمان من بلغ سن الحلم (14 -15) سنة – مع قطار الابل الذي يحمل تجارة والده، فيكون تاريخ ولادته الاصح والارجح هو 1855 م وليس 1861م، وهذا ما يراه الاستاذ د. زاهد محمد، في كتابه (دراسات عن الملا عبود الكرخي) صفحة 21 الصادر عام 1871 ن وزارة الاعلام / المركز الفولكلوري.
ويراه ايضا المرحوم عبود الشالجي في موسوعته المطبوعة في بيروت عام 1982، وكذلك الاستاذ باسم عبد الحميد حمودي في مقال له بعنوان (جولة في حياة الملا عبود الكرخي).
كلمة (الملا):
لقب الملا يطلق على من كان في عهود الجهل يحسن القراءة والكتابة، وصاحب الكتّاب يدعى أيضاً (مُلاّ) وحين انتشر نور العلم أصبح هذا اللقب سبّه، يكنّى به الجاهل، بعكس ما كان يعنيه قبلاً، وعلى هذا الاساس حذفه الكرخي عام 1938م من اسمه، وكان الرصافي التقاه بعد الحذف ومما قاله له: يجب أن نطلق عليك بعد الآن لقب أستاذ، فيكون اسمك الأستاذ عبود الكرخي، لأنك تستحقه، خاصة أنني أول من بايعك بإمارة الشعر الشعبي.
وردت هذه الكلمة كثيراً في الأمثال الدارجة، والأشعار الشعبية، كما تلقب به الكثير من مشاهير الرجال، فمن أمثالهم السائرة (خوجة علي، ملا علي) و(يا ملا وجهك أصفر) ومن أشعارهم:
أيها الكرخي (المُلّة) صابتك بالچبد عِلّه
وممن اشتهروا بهذا اللقب: الملا عثمان الموصلي، والملا عبود الكرخي، والمقرئ الملا مهدي، والملا علي الخصي، الذي كان الناس ايام العثمانيين يخوفون به أطفالهم ليناموا، وهو من رجال الوزير علي رضا باشا اللاز، الذي حكم بغداد من عام 1831 إلى 1843م، اشتهر هذا الملا بالظلم والقسوة وأخذ الأتاوات الكيفية من الناس، وكانت أخباره تتردد إلى الأمس القريب على ألسنة العراقيين، وصفه المرحوم الألوسي في مقاماته بأنه (أعجوبة الأمم، ملا علي كتخذا الحرم) – تاريخ العراق بين احتلالين 7/49 للمرحوم عباس العزاوي، المطبوع عام 1955م. حدثني المرحوم عبد القادر البراك، قال: قال لي مرة المرحوم عبد القادر مطبوعات: (ثلاثة ما ينشافون، عين النملة، ورجل الحيّة، وخبز الملا).
الإباء والإعتداد بالنفس
كتب الاستاذ عزيز جاسم الحجية في بعض اوراقه المنشورة عن بعض سجايا الملا عبود الكرخي ومنها إباؤه واعتداده بالنفس، نقلا عن معاصري الكرخي العارفين بأخباره ، غير ان الاستاذ خالد القشطيني ذكرها على النحو التالي :
أقام رئيس الوزراء ياسين الهاشمي، حفلة تكريمية لعادل أرسلان عند زيارته لبغداد. لم تكن عندئذ أي قاعة للاجتماعات في العراق، فجرى الحفل في «سينما رويال»، التي تحولت فيما بعد إلى «سينما الحمراء» في شارع الرشيد قرب الجسر القديم. جرى تنظيم الحفل بصورة مستعجلة، فلم تصل الدعوات إلى الشاعر معروف الرصافي والشاعر الشعبي الملا عبود الكرخي. فشعرا باستياء كبير عن هذا الإغفال.
حضر لزيارتهما صديقهما القديم بديوي الحاج رحومي، فوجدهما في هذه الحالة الكئيبة من الزعل. فسألهما عن ذلك، فأجابه عبود الكرخي قائلاً: «الطابوق نام والحصو قام». لم يفهم بديوي ما الذي قصده من ذلك. فسأله صاحبه فروى له ما حدث من أن رئيس الوزراء أقام هذا الحفل الكبير احتفاء بضيف العراق عادل أرسلان، ولم يوجه دعوة لأي منهما. قال الكرخي هذا حفل كان المفروض أن يترأسه الرصافي نفسه. وصل هذا الكلام إلى علم ياسين الهاشمي، فبعث إليهما شفيق نوري السعيدي، ليعتذر لهما عما حدث، ويفسر كيف جرى الخطأ سهواً وأدى إلى عدم وصول الدعوة لأي منهما. توسل إليهما بالحضور، ولكن الرصافي رفض الاعتذار بإباء وإصرار كعادته. وأيده في ذلك عبود الكرخي.
عاد شفيق نوري السعيدي من حيث أتى، ليبلغ رئيس الوزراء بزعل الرصافي ورفضه الحضور. ما كان من ذلك الزعيم السياسي الخطير ورئيس الحكومة غير أن يتوجه بنفسه إلى بيت معروف الرصافي في الصابونجية، ليعتذر إليه وإلى عبود الكرخي اعتذاراً شخصياً، ويهيب بهما أن يقبلا اعتذاره ويحضرا الحفل. استطاع في الأخير أن يتغلب على اعتراض الرصافي وزعله ويقنعه بالمجيء.