ذكريات سينمائية في الستينيات..صراع السينما السوفييتية والامريكية في الجمعية البغدادية

ذكريات سينمائية في الستينيات..صراع السينما السوفييتية والامريكية في الجمعية البغدادية

بلقيس شرارة

لم يكن في البداية مكان خاص لعرض الأفلام في الجمعية البغدادية. لذا عُرِضَ أوّل فلم في الجمعية في الشرفة/ الطارمة الواسعة المطلة على الحديقة. كان الفلم (الجميلة و الوحش La Belle et la Bête) للكاتب الفرنسي جان كوكتو، وقد زوّدنا المعهد البريطاني بالفلم مع البروجكتر العرض و الشاشة، و ذلك قبل أن يتم بناء قاعة للعرض.

جلب الفلم المعمار ياسر عبد المجيد، و ألقى على الحاضرين الذين لم يتجاوز عددهم عشرين شخصاً، كلمة عن فحوى الفلم و أهميته التاريخية. لم تمضِ إلا بضعة دقائق حتى عصفت الريح بالشاشة المتحرّكة، و ألقت بها أرضاً. كان ذلك في فصل الربيع الذي تهبّ فيه أحياناً رياح عنيفة مفاجئة. لكن بعد أن خفت الريح و تلاشت العاصفة التي لم تدم إلا بضعة دقائق، عدنا إلى تثبيت الشاشة، و جلسنا ثانية في كراسينا نتابع الفلم بكل اهتمام، و بعد أن انتهت البكرة الأولى قام الجميع لملء أقداحهم، و عادوا إلى مقاعدهم، و إذا بهم يشاهدون البكرة الثالثة بدل البكرة الثانية. بدأ القلق يساور “ياسر”، و انهمك يفتش عن البكرة الثانية فلم يجدها، و يظهر أنّه جلب بكرتين بدل ثلاثة من المعهد البريطاني. فضاع بذلك على المشاهدين وسط الفلم، فشاهدنا البداية و النهاية.

هكذا كانت بداية عرض أوّل فلم في الجمعية، و كل بداية لها قصّة، و لم ننسَ بعد ذلك هذه الحادثة، بل تجنّبنا تكرارها. فقد أخذت لجنة السينما على عاتقها اختيار و جلب الأفلام من الموزّعين، بالإضافة إلى الاتصال بالسفارات المختلفة لتزويدنا بأفلام بلادهم.

لجنة السينما

كانت تتألف كل لجنة من أربعة أعضاء، فكانت تضمّ: مقرّر اللجنة محمود عثمان و السيّد وليد صفوة، و ياسر عبد المجيد و بلقيس شرارة.

كان أوّل فيلم عرض عن الحرب العالمية الثانية و الدمار الذي أحدثته القنبلة الذرية في اليابان، بعنوان: (Hiroshima Mona More) للمخرج الفرنسي (Alan Resnais)، و هو من المخرجين الذين كان لهم دوراً مهماً في قيادة الحركة الحديثة في السينما. ثم أعقبتها أفلام إلى مخرجين من أهم قادة السينما الحديثة.

و نشطت اللجنة في إقامة مهرجان السينما، فكانت تتصل بالسفارات للحصول على الأفلام الفنية التي لها أهمية في عالم السينما. فاتصلت بالسفارة السويدية، التي زودت الجمعية بأربعة أفلام للمخرج السويدي (انغمار برغمان Ingmar Bergman) و هي المرّة الأولى التي يعرض في العراق أفلاماً سويدية، و افتتح العرض هذه المرّة محمود عثمان، مقرر لجنة السينما، بكلمة عن أهمية المخرج إنغمار برغمان و الدور الذي لعبه في عالم السينما الحديثة. و الأفلام التي عُرِضَت تمثل كانت فترة الخمسينيات و هي: The Spring Virgin, Wild Strawberries, Smiles of a Summer’s Night, Seventh Seal. و المخرج إنغمار برغمان أوّل مخرج يظهر التأثير السيكولوجي العميق على الشاشة، فلا يمكن أن يكون أكثر منه تأثيراً في إظهار الناحية النفسية على وجه رقيق يملأ الشاشة مواجهاً موقفاً أو فكرة أو تجربة.

لقد لاقَ عرض تلك الأفلام استحساناً شديداً و تقبّلاً واسعاً من قِبَل أعضاء و جمهور الجمعية، الذي كان يشمل عدداً من الأجانب و من بينهم أعضاء من السفارة الأمريكية الذين كانوا من زوّار الجمعية. و أثارت تلك الأفلام نقاشاً عن أهمية السينما كأداة تثقيفية و ليست للمتعة فقط. و منذ ذلك الحين أخذت مناسبات السينما تحتلّ مكاناً كبيراً في نشاط الجمعية. فأقيم احتفال خاص بعرض للأفلام اليابانية التي زودّتنا به السفارة اليابانية، للمخرجين اليابانيين إيشكاوا و كوروساوا (Ishikawa & Kurosawa)، من الأفلام التي عرضت فلماً عن مكبث، بعنوان (عرش من الدماء Throne of Blood) و (راشامون Rashamon) و(كويدان Kwidan).

كان تأثير تلك الأفلام بالغاً و عميقاً على جمهور الجمعية، فكانوا يجهلون المستوى العالي الذي ارتقى إليه الفلم الياباني، و منهم من شاهد الأفلام اليابانية لأوّل مرّة. إذ لم تكن الأفلام اليابانية تجارية، و كان توزيعها محدوداً، خاصة في تلك الحقبة أي الستينيات من القرن الماضي. فلم تكن تعرض الأفلام اليابانية حتى في الغرب، إلا في السينمات الصغيرة الفنية أو نوادي السينما المقتصرة على الفئة التي تتبع الفلم كهواية و كأداة ثقافية.

كان لوجود وليد صفوة و زوجته هناء برتو أثر كبير في التأثير على أعضاء الجمعية في مفهوم السينما الحديث. فقد قضيا ستة أعوام في جنيف، كانا من هواة السينما الحديثة، متتبعين لآخر التطوّرات، و ساعدا في اختيار الأفلام الجيّدة التي كانت تعرض في الجمعية.

كما زوّدتنا السفارة الروسية بالأفلام،عندما أقمنا مهرجاناً عن المخرج الروسي (سيرغي ميخائيلوفش آيزنشتاين Sergei Mikhailovich Eisenstein) الذي هو من بذر النواة الرئيسة في تطوير السينما في الاتحاد السوفييتي. و لم يقتصر تأثيره على الاتحاد السوفييتي، إنّما كان تأثيره العالمي كبيراً حتى على مخرجي سينما هوليود. وقد أثر على مخرجي السينما في ابتكاره استعمال المونتاج، لذا لقلب بـ “أبو المونتاج montage» و عُرضَ في الجمعية أهمّ أعماله: (Battleship Potemkin, Ivan The Terrible & Alxender Nevesky).

كان ذلك في منتصف الستينيات من القرن الماضي، عندما كانت الحملة في أشدها ضد الاتحاد السوفيتي، لذا وجهت بعض التعليقات العدائية للجنة السينما، إذ اعتبر بعض الحاضرين أنّ تلك الأفلام دعاية و ترويج للشيوعية. و تجاهلوا الناحية الفنّية المهمّة في تلك الأفلام و لم يحاولوا أن يشاهدوا ما قام به هذا العبقري من تطوير للسينما. فكان أوّل من استعمل عدسة الكاميرة المقربة (Close up) لمشاركة المشاهد بشعور الألم العميق المتجسّم على وجه الممثل. لقد نجحت الجمعية تدريجياً في تغيير نظرة جمهورها السائدة عن الفلم، عندما قامت بعرض ذلك النوع من الأفلام، و أثبتت لهم أنّ هنالك جوانب أخرى للفلم لا تقتصر على اللهو و التسلية اللطيفة، و إنّما الفلم هو دراسة و معرفة أيضاً، كما إنه من بين أهم الفنون. إذ أن فنّ السينما كأيّ فنّ آخر من الفنون الذي يحتاج إلى تتبّع و مطالعة كي يستطيع المشاهد أن يتمتّع بما يحاول المخرج أن يوصله من آراء و أفكار معقدة من خلال الصور المرئية المتتابعة على شاشة السينما. فهو فنّ كالرسم و النحت و المسرح يحتاج إلى دراسة و تتبّع للحصول على المتعة.

لذا كانت تلقى كلمة من قبل أحد أعضاء اللجنة لتلخيص فحوى الفلم قبل البدء بعرضه، كي يتمكن المشاهدون معرفة مغزى الفلم و سهولة فهمه. كنّا في بعض الأحيان نقتطف المقالات التي تُكتَب عن تلك الأفلام في المجلات الأجنبية، و نعلقها على لائحة إعلانات الجمعية.

كنّا في بعض الأحيان نعرض أفلاماً بلا ترجمة، كفلم “الحرب و السلمWar & Peace « للكاتب الروسي” ليو تولستوي Leo Tolstoy» الذي أخرجه المخرج الروسي (Bogdanovich) و اكتفينا بتعليق النقد عن الفلم على لائحة الجمعية، إذ أن معظم أعضاء الجمعية كان لهم معرفة بالكتاب و بعضهم من قرأ رواية ”الحرب و السلم“. و استغربنا من الإقبال الشديد على الفلم، فامتلأت القاعة بالحضور بالرغم من طول الفلم عدة ساعات.