رحيل سولجينيتسين: اخر كلاسيسكي في الأدب الروسي

رحيل سولجينيتسين: اخر كلاسيسكي في الأدب الروسي

فالح الحمراني

توفي آخر كلاسيسكي في الأدب الروسي، الحائزعلى جائزة نوبل الكسندر سولجينيتسين عن 90 عاما. ولد سولجنيتسين في 11 ديسمبر 1918 وعاش حياة طويلة مليئة بالمتناقضات والاحداث. وقال البعض ان رحيل سولجينيتسن وضع خاتمة نهائية للقرن العشرين بالنسبة إلى روسيا. وبالاضافة الى أعماله الادبية والفكرية فان المأثرة الثانية التي اجترحها تمثلت بفضحه للستالينية كمنحى ذهني واخلاقي وطريق سياسي يؤديي آخر أيامه إلى العدم.

وكان شاهدا على عصر مضطرب، عايش السنوات الاولى لثورة اكتوبر وصعود الستالينية المظلمة وزُج مثل الملايين الاخرين بمعتقلاتها ووظف قلمه لفضحها، وما ان تمادى به حتى قررت السلطات السوفياتيه ترحيله للخارج، ومن هناك كتب الأعمال التي كانت هدف نشاطه الإبداعي التي كان اهمها :العجلة الحمراء، التي أرخ فيها لتاريخ روسيا القيصرية والبلشفية. اراده ان يكون عملا يساعد على وعي تاريخ روسيا وحل ألغازه.

عوالم روايات سولجنيتسين مستقاة من أجواء المعتقلات ومعسكرات العمل الإجباري التي أقامها النظام الستاليني لمعاقبة المنشقين والمشكوك بولائهم للسلطة. عوالم لا تعرف الشفقة غارقة بالعطن والرطوبة، يستولي عليها الرعب وتنقرض فيها الحياة بالعمل الشاق المضني، والمنهك للقوى الجسدية. وفي قصصه القصيرة استقصاء لآلام الحياة في الأقاليم البعيدة حيث الجوع والإهمال والخراب الروحي وتحويل العمل إلى عبودية.

دخل سولجينيتسين عالم الأدب إبان مرحلة الدفء الذي تسرب إلى الحياة السوفييتية عقب فضح الزعيم السوفييتي الأسبق نيكيتا خروتشوف الجرائم الستالينية، ومنحه فسحة لحرية الكلمة والفكر. وتحول سولجينيتسين بعد صدور روايته الأولى: يوم واحد من حياة إيفان دينيسوفتش عام 1962، بغتة إلى أديب صاعد النجومية وتلقفت الرواية دور النشر الغربية، فترجمت إلى اللغات الأجنبية وطبقت شهرته الآفاق. ولم تعرف الأوساط الأدبية قبل ذلك عملا يذكر لسولجينيتسين. فمؤلفاته كانت مخطوطات أو محفوظات في الذاكرة، يخشى عواقب نشرها. وحصلت يوم واحد... على المباركة الشخصية من خروتشوف، الذي كان يفتقر إلى حلفاء لتعميق خططه بفضح الجرائم الستالينية وهو لها واستمالة الرأي العام لجانبه في مقارعة بقايا القيادة الستالينية. وشكلت رواية سولجينيتسين الأولى تمردا جسورا على مبادئ منهج الواقعية الاشتراكية الذي ألزم السوفييت باتباعه، فليس ثمة في يوم واحد... شخوص سلبية أو إيجابية بالمعنى المتعارف عليه حينذاك. ولم تتضمن أحداثها وقائع لتجميل المنجزات الاشتراكية ولم تختتم بنهاية تبعث على التفاؤل.

تدور أحداث يوم واحد... في أحد معسكرات العمل النائية في شمال كازاخستان وتصور حياة إيفان دينيسوفيتش، الفلاح شبه الأمي المفعم بشعور الكرامة وخبرة الحياة، الذي وجد نفسه دون ذنب في معسكر العمل الإجباري بعد فراره من الأسر الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، فعاود الالتحاق بفرقته لمواصلة الدفاع عن وطنه، ولسذاجته أبلغ الحقيقة عن واقعة أسره، ولم يلفقها بحكاية كما فعل آخرون، فدارت حوله شبهات، بأن تكون الاستخبارات الألمانية قد جندته لصالحها في مهام تجسسيه، فتم اعتقاله على هذا الأساس، وحكم عليه بالأشغال الشاقة لعشر سنوات، لم يستبعد أن تمتد بصورة تعسفية حتى نهاية العمر. يوم واحد على غرار آلاف الأيام من حياة إيفان ومئات المعتقلين الآخرين الذين ساقتهم المصادفة التعسة إلى: النهوض قبيل انبلاج الفجر لمواصلة أعمال البناء، وشق الأرض والحجر الصلد في ظروف الشتاء القارس، الخضوع للسلطة المطلقة التي يمارسها الحرس، الإحصاء المتكرر لقطيع البشر الذين تحولوا إلى مجرد أرقام، الانتظار بذل في طابور أمام نافذة المطعم لتسلم ما يسد الرمق، هاجس الخوف من تفتيشات السلطات الأمنية المباغتة، تبادل الأحاديث قبيل النوم لبث شجون الروح واستعادة صور الحياة البعيدة. يمر هذا العالم الشاحب عبر عدسة إيفان الذي أضفى الكاتب عليه شيئا من شخصيته.

لقد أغرى النجاح - الذي حالف يوم واحد.. تقويم النقد الجاد الرفيع، واستحواذها على قطاعات عريضة من القراء - سولجينيتسين للمضي أبعد في معالجة الستالينية، كظاهرة سياسية وتاريخية من زوايا مختلفة وبأساليب متعددة، فشرع في آن واحد بكتابة عدة مؤلفات واستكمال ما اختمر في ذهنه، وعكف على جمع الوثائق لعمله أرخبيل الغولاغ وكتابة رواية جناح السرطان التي يطرح فيها انساقا مختلفة للواقع الروسي من خلال مستشفى لمعالجة المرض الخبيث، أبطالها الأطباء والمرضى من لحم ودم لكنهم رموز لحالات اجتماعية تتوزع بين الخير والشر، إنها رواية عن الحياة والموت ببعديهما الشخصي والقومي. وفي الوقت نفسه أعد للطبع قصته الطويلة الطبقة الأولى التي استعار عنوانها من ملحمة الكوميديا الإلهية، للشاعر الإيطالي العظيم دانتي 1265 - 1321 م . والمعروف أن دانتي خصص الطبقة الأولى في جحيمه للفلاسفة والشعراء الوثنيين تقديرا لهم. وإذا كان جحيم سولجينيتسين يرمز إلى معسكرات العمل والمعتقلات فإن الطبقة الأولى فيه هي معهد سري للأبحاث الفيزيائية حجزت السلطات فيه جمهرة من العلماء، لينهوا فترات محكومياتهم بين جدرانه، ويواصلوا اكتشافاتهم. وتضج الرواية بالمناقشات عن الأدب والفلسفة، والتاريخ لاستشراف الحاضر، فهي عن الناس في ظل الستالينية كنظام، عن الرجال والنساء الذين يكابدون المرحلة، عن المعتقلين وموظفي خدمات السجن. ومع صدور أرخبيل الغولاغ التي استمر في كتابتها زهاء عشر سنوات وتهريبها سرا لتنشر في الغرب، أنجز سولجينيتسين واحدة من أعماله المركزية للقضية التي كرس حياته لها. وجمع مادة عمله الأساسية من معايشاته الشخصية وشهادات المعتقلين سابقا. فجاءت بحثا تاريخيا وملحمة بكائية تنز بالحزن والأسى والنقمة على شرور المعتقلات، ووجهها المروع، وسرد فيها الأديب حوادث واقعة، وتحدث عن شخوص غير مختلفة. وتخللت كل ذلك تأملات نفسية وفلسفية لتفسير العنف. وعن الاعتقال كحدث جسيم في حياة الفرد يقول سولجينيتسين: إنه لحظة انتقال عجيبة من حالة إلى أخرى، حينها يطرح الإنسان، ويغبش العقل في إدراك ما يدور حوله، ولم يسع أكثر الناس حنكة وتبصرا بالحياة أن يعثر على ما يمكن قوله سوى الغمغمة: - أنا؟ ولأي ذنب؟ . ويتراءى الأرخبيل جزيرة معزولة ومغلقة تتحكم فيها قوانينها الخاصة الموروثة، بيد أن العرف السائد فيها هو قانون الغاب على حد قول أحد شخوصها إنها وثيقة عن جانب مما ارتكبه الإنسان من فظائع ضد أخيه الإنسان في القرن العشرين. وأحدثت الأرخبيل هزة عميقة في الضمير الأوروبي، وعلى ضوئها أجرى العديد من مفكري ومثقفي اليسار مراجعة شاملة لمواقفهم الأيديولوجية وأعلن بعضهم القطيعة مع الفكر الاشتراكي - الماركسي واشتدت على أثرها حملات النقد القاسية للنظام السوفييتي، واستثمرته قوى كانت تغذي الحرب الباردة لمصالحها الأيديولوجية. وأسس سولجينيتسين في الأرخبيل لجنس أدبي جديد إنه الرواية - الوثائقية التي لم يعرفها العصر السوفييتي. ويعد سولجينيتسين آخر كلاسيكي في الأدب الروسي. ويقارنه دارسوه - لنزوعه نحو الرواية الملحمية الطويلة التي يتدفق بها الزمن هادئا أو يتجمد لعقود، ولاستطراداته الفكرية - بـ ليون تلستوي صاحب الحرب والسلام، فالأحداث التاريخية العظمى في رواياتهما تتحول إلى خلفيات ترتسم في إطارها معالم الشخوص وقيمها، وتتشح أعمال كلا الكاتبين الكبيرين بالواقعية السيكولوجية، وتتشرب بحب عميق لروسيا.. والأدب بالنسبة إلى سولجينيتسين كما يحب أن يردد وسيلة للدفاع عن الحقيقة والقيم الأخلاقية. ومع أفول مرحلة الدفء، التي انتهت بسقوط خروتشوف خريف 1964، تنفست الأصوات التي ناصبت سولجينيتسين العداء وتحولت إلى حملة رسمية ضده، وتحركت أصابع أخطبوط المخابرات كي. حي. بي لملاحقته ومصادرة مخطوطاته والتضييق على نشر أدبه وفي رده على الأصوات التي دعت إلى منعه عن الكتابة عمد سولجينيتسين إلى تهريب مؤلفاته لنشرها في الغرب، وزادت حدة تصريحاته الانتقادية للسلطات السوفييتية وحصوله على جوائز أدبية من مؤسسات غربية ونيله عام 1970 جائزة نوبل، زادت من النقمة عليه وبدأ التعامل معه على أنه quot;عدو للبلاد السوفييتية فأودع السجن في شتاء 1974 وصدر قرار بسحب الجنسية السوفييتية عنه وترحيله إلى الخارج، فاتخذ ألمانيا وسويسرا محطة أولى له، لينتقل بعدها إلى فيرمونت في أميركا حيث واصل نشاطه الأدبي والفكري حتى عودته إلى بلاده.

كشف التطور اللاحق في أدب سولجينيتسين عن أن تناوله لشؤون الساعة في روايته الأولى، كانت مرحلة عابرة أصلتها الظروف، وأن الموضوع الرئيس الذي كان يستعد له تمثل في كتابة الرواية التاريخية. وبهذا الصدد قال في مقابلة تلفزيونية إن شعورا استحوذ عليه منذ شبابه المبكر بوجود مهمة ملقاة على عاتقه لكتابة تاريخ ثورة أكتوبر البلشفية الذي زيف ولفق ولم يجر الكشف عن حقائقه وفي منفاه جمع سولجينيتسين أرشيفا ضخما ونادرا من المذكرات والوثائق وشهادات أفراد شاركوا في الأحداث التي مهدت لانهيار الإمبراطورية الروسية عام 1917. واتخذ من تاريخ عائلته ومواطن إقامتها مادة لقصصه التاريخية أغسطس عام 1914 و مارس عام 1918 ومن ثم روايته الملحمية العجلة الحمراء. ولم تكن هذه الأعمال روايات بالمعنى التقليدي، فإلى جانب الحدث ثمة تحقيقات واستطرادات فكرية، وقصاصات من صحف المرحلة، فجاءت قراءة غير رسمية للتاريخ. ويذهب سولجينيتسين في تلك الأعمال إلى أن ثورة أكتوبر لم تكن خيارا جماهيريا أو تاريخيا لروسيا، لقد دبرها الغرباء والدخلاء وأصبح الشعب الروسي ضحيتها الرئيسة، مدللا على ذلك بما يسميه عمليات الإبادة الجماعية التي تعرض لها الروس. وفي كتابه لينين في زيوريخ يشير إلى أن الثورة البلشفية كانت مؤامرة حاكتها ألمانيا بالتحالف مع المهاجر حينذاك فلاديمير لينين. لحرف مسار التاريخ الروسي وقطعه عن تطوره الطبيعي، فروسيا سولجينيتسين محافظة، لا تهضم الفكر الليبرالي المتطرف، الغريب على لحمتها ويتوجب عليها أن تنهض بهدوء دون هزات عميقة، وبعث تقاليدها القديمة إنها روسيا الفلاحية المعافاة روحيا، فالصحوة الروحية بالنسبة إلى سولجينيتسين أهم دائما من التقدم الصناعي.وهكذا امضى حياته ينظر ويبرهن ويسعى غلى الاقناع بإحياء روسيا التي كانت. روسيا الارثذوكس.

شخصيات كبيرة توجه التحية لذكراه

باريس فرانس 24: وجه الرئيس الفرنسي فرانسوا ساركوزي التحية الاثنين لذكرى الكاتب الروسي الكسندر سولجينستين الذي توفي مساء الاحد وقال انه quot;احد اكبر الضمائر الروسية في القرن العشرين . وقال ساركوزي ان سولجينستين المولود بعد عام من الثورة الروسية، جسد +المعارضة+، طوال سنوات الرعب السوفياتي الطوال. واضاف الكسندر سولجنستين هو الذي فتح اعين العالم على حقيقة النظام السوفياتي عندما اعطى تجربته بعدا عالميا ..

وقال ساركوزي ان سولجينستين رفض مغادرة بلاده حتى يتمكن من فضح ممارسات السلطة بصورة افضل، فنشر مخاطرا بحياته quot;جناح مرضى السرطان ; ثم ارخبيل الغولاق اللذين شكلا مقاومة للقمع . واعتبر ساركوزي ان تصميمه ومثاليته وحياته المديدة والمضطربة تجعل من الكسندر سولجنستين وريثا لدوستويفسكي. انه ينتمي الى كبار الادباء العالميين. اني اوجه التحية الى ذكراه. وتوفي الكاتب الروسي الكسندر سولجنستين رمز معارضة النظام السوفياتي وحائز جائزة نوبل للادب عن 89 عاما ليل الاحد الى الاثنين في منزله في موسكو.

وقال نجله ستيفان لوكالة انباء ايتار تاس الروسية ان والده توفي نتيجة ازمة قلبية في الساعة 19,45 بتوقيت غرينتش. ولم يكن سولجنستين يظهر علنا الا نادرا، وكان التلفزيون يعرض صوره اثناء استقبال ضيوفه في منزله شمال غرب موسكو على كرسي متحرك.

واعلنت المتحدثة باسم الرئاسة ناتاليا تيماكوفا ان الرئيس ديمتري مدفيديف قدم تعازيه لعائلة الاديب، كما افادت وكالة انباء ايتار تاس.

حاز سولجنستين على جائزة نوبل للادب في 1970 عن اعماله التي كشف فيها واقع معسكرات العمل في ظل النظام السوفياتي من خلال مؤلفاته يوم في حياة ايفان دينيسوفيتش ، و لدائرة الاولى ، و ارخبيل الغولاق.

حرم في العام 1974 من جنسيته السوفياتية وطرد من الاتحاد السوفياتي فعاش في المانيا وسويسرا ثم في الولايات المتحدة.

عاد الى روسيا في 1994 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ووجه انتقادات للغرب ولروسيا داعيا الى العودة الى القيم الاخلاقية التقليدية.

قلده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 2007 جائزة الدولة الروسية الارفع شأنا. وقال حينها في آخر ايامي، آمل ان تشكل المادة التاريخية التي جمعتها جزءا من وعي وذاكرة مواطني .

واضاف تجربتنا الوطنية المريرة ستساعدنا، في حال تعرضنا لظروف اجتماعية مضطربة، في تفادي التعرض لاخفاقات مؤلمة. عبر سولجنستين عن تأييده لحكم بوتين الذي تولى الرئاسة بين العام 2000 و2008 ثم عين رئيسا للوزراء وكان مؤيدا لروسيا قوية معتزة بنفسها، رغم كونه ضابطا سابقا في جهاز الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي) .

وكتب في نيسان/ابريل ان بوتين ورث بلدا منهوبا جاثما على ركبتيه غالبية سكانه يشعرون بالاحباط وغارقون في البؤس (..) بدأ اعادة بنائه شيئا فشيئا، وببطء. لم تظهر جهوده او يتم تقديرها على الفور .

اتهم سولجنستين في 2006 حلف شمال الاطلسي بالسعي الى فرض حصار كامل على روسيا وتجريدها من سيادتها من خلال تعزيز آلته العسكرية في شرق اوروبا . وقال عنه بوتين في 2007 عندما زاره لتسليمه جائزة الدولة انه رجل كرس حياته للوطن. الملايين في العالم يربطون بين اسم واعمال الكسندر سولجنستين ومصير روسيا . واضاف بوتين كما قالها بنفسه: روسيا هي نحن. نحن لحمها ودمها، نحن شعبها (عن اخبار فرانس 24).