الى الدكتور خالد السلطاني مع التحية .. لنتذكر مهندس أمانة العاصمة المنسي

الى الدكتور خالد السلطاني مع التحية .. لنتذكر مهندس أمانة العاصمة المنسي

رفعة عبد الرزاق محمد

أحد رواد الحركة الهندسية والاثارية في العراق، هو المرحوم شريف يوسف (1907 – 1998) ولقد ترك من الاثار المعمارية والفكرية ما يجعله علما من اعلام اليقظة الفكرية في العراق الحديث، ومن محاسن الايام ان التقي بالاستاذ يوسف في اكثر من لقاء استجلي فيها الحلقات المهمة من سيرته الهندسية والاثارية الطويلة.

والذي تأكد لي بشكل محقق ان المرحوم شريف يوسف بن محمد بن حسين من مواليد مدينة العمارة سنة 1907،، وانه من اصول عربية وبالذات من عرب ديار بكر، وقد جاء جده حسين افندي مع مدحت باشا، فقد رافق الوالي المصلح عند مجيئه الى بغداد سنة 1869 عدد من الرجال الاكفاء في شتى الشؤون الادارية والفنية. وقد عين حسين افندي قائممقاما لقضاء قلعة صالح في لواء العمارة عند التنظيم الاداريي للولايات في العراق، وسكن مدينة العمارةمع عدد من رفاقه مثل ابراهيم بك والد المرحوم يوسف ابراهيم وجميل افندي والد المرحوم فؤاد جميل، كما سكن نفس المحلة في ما بعد والد المرحوم فائق السامرائي والدكتور ابراهيم السامرائي، ومن هؤلاء تكونت محلة شهيرة في مدينة العمارة باسم (السنية) غير بعيدة عن سراي الحكومة.

وعندما احتلت القوات البريطانية مدينة العمارة سنة 1914 اعتقلت موظفي الدولة العثمانية، ومنهم والد شريف يوسف، فكان نصيبه الاسر في الهند لمدة اربع سنوات، وقد اثر الاسر فيه كثيرا، فاختاره الله الى جواره بعد سنة من انتهاء نفيه.

اكمل شريف يوسف دراسته الاولية على يد الكتاتيب في العمارة لعدم وجود مدرسة نظامية فيها ثم توسط عمه في ادخاله مدرسة (الأليانس) الابتدائية في العمارة، وكانت تلك المدرسة متقدمة في مناهجها الدراسية، وكانت لا تقبل من الطلاب، الا ضمن مواصفات دقيقة، ويذكر شريف يوسف انه تعلم في هذه المدرسة الانكليزية والفرنسية، وعرف اشياء كثيرة عن عالم اليهود ومؤامراتهم، ولم يكمل شريف يوسف الدراسة في (الاليانس) فقد انخرط في المدرسة الابتدائية التي افتتحتها الحكومة حديثاً، وتخرج فيها بعد ان ادى امتحان البكلوريا في البصرة.

وقد اهله هذا النجاح لدخول دار المعلمين الابتدائية في بغداد سنة 1921، غير انه لم يكمل الدراسة فيها، فاضطر الى العودة الى العمارة وعمل موظفا في متصرفية اللواء الى سنة 1923، وبتشجيع من اصدقائه، عاد الى الدراسة في بغداد ودخل الثانوية المركزية، وكان – رحمه الله – قد تعلم الضرب على الالة الطابعة منذ ان كان في مدرسة (الاليانس) فقدم طلبا الى مدير المعارف العام المرحوم ساطع الحصري لتعيينه موظفا في الثانوية المركزية، فقبل طلبه وتحول الى الدراسة المسائية. وعندما اكمل المرحلة المتوسطة (الثالث ثانوي) عين مأمور المكتبة العامة، فترك الدراسة واخذ يقرأ ما تقرر دراسته في الصفوف التالية. ودخل الامتحانات (الخارجية) لنيل شهادة الثانوية، وكان صديقه المرحوم يونس السبعاوي (المعلم في عنه) قد دخل هو الاخر هذه الامتحانات. ويذكر شريف يوسف ان المرحوم طه الهاشمي مدير التعليم العام خلفا للحصري الذي تولى عمادة كلية الحقوق، كان بتردد الى المكتبة العامة عند تأليفه الكتب عن احوال العراق الجغرافية والعسكرية، وكان معجبا بشريف يوسف الموظف في المكتبة، وعرف حرصه على الدراسة وتطلعه الى مستقبل زاهر.

ولنجاحه بتفوق. فقد رشح لبعثة وزارة المعارف الى الجامعة الامريكية في بيروت، وانتخب لدراسة الهندسة والبناء فيها (1929) وكان رئيس القسم اشهر المعماريين اللبنانيين يومذاك.. هو الذي صمم بناية مجلس النواب اللبناني، وهي من اجمل ابنية العاصمة بيروت.

وكان من زملائه في الجامعة المرحومان امين المميز وهاشم جواد وعوني الخالدي وعبد المنعم الكيلاني. ويذكر شريف يوسف ان رئيس مهندسي امانة العاصمة المرحوم علي رأفت (علي مي) زار الطلبة العراقيين في بيروت، وتعرف عليه وطلب منه ان يعمل بعد تخرجه في مانة العاصمة.

وبعد عودته الى بغداد ونيله شهادة الهندسة عين مدرسا في الثانوية المركزية (1934) لمدة سنة واحدة، وبانتهائها نقلت خدماته الى امانة العاصمة على عهد امينها المرحوم محمود صبحي الدفتري.

وظهرت مواهبه الفذة وافكاره الهندسية وكان له دور كبير في انجاز الكثير من مشاريع امانه العامة مثل تنظيف منطقة الوزيرية وجعلها محلة سكنية عصرية بعد ان كانت (زورا مخيفا) كما اشترك في تخطيط منطقة السعدون وفتح شارع الاعظمية وشارع الشيخ عمر وشارع دمشق وشارع موسى الكاظم وشارع ابي نؤاس، واسهم في تنفيذ بهو امانة العاصمة، وغيرها من الانجازات الهندسية.

وبعد ثلاث سنوات من العمل في امانة العاصمة، نقلت خدماته الى مديرية الاثار على عهد مديرها ساطع الحصري، وقد وجد فيه كفاءة لامثيل لها، واخلاصا نادرا، وغرة وطنية فائقة، فالحقه في بعثة اجنبية كانت تقوم بالتنقيب في التلول السومرية في منطقة ديالى للاشراف على عملها، ومعرفة ما تلتقطه من اثار لوضع اليد على المهم منها.

وبعد سنوات كلف لرئاسة العمل التنقيبي في مدينة سامراء قريبا من قصر العاشق، فعثر على اثار خطيرة منها القصر المعروف بقصر الجص، واسهم في ترميم واحياء مواقع اثارية كثيرة مثل القصر العباسي وخان مرجان وملوية سامراء وقصر الاخيضر ودار الامارة في الكوفة.

وبسبب عمله الدؤوب والمتعب في العمل الاثاري في ظروف طبيعية قاسية، اصيب بمرض (الديزانتري) فاعفى من العمل في الاثار وعين مدرسا في الثانوية المركزية ثم مديرا لها وبعد سنة عين مديرا لدار المعلمين الابتدائية ثم مديرا للتعليم المهني ثم عميدا لكلية الهندسة الى ان احيل الى التقاعد سنة 1960.

وبعد تقاعده انتخب مديرا في منظمة الاوبك في جنيف، ويذكر شريف يوسف ان الفضل في هذا الانتخاب يعود للمرحوم محمد سلمان وزير النفط الاسبق، وبعد سنتين عاد الى وطنه، وانصرف الى البحث والتأليف، فترك عددا من المؤلفات القيمة منها (فن العمارة الاسلامية والعربية) و(مساجد بغداد) و(تاريخ فن العمارة العراقية في مختلف العصور، وهيأ الكتاب الاخير لطبعة ثانية اضاف فيها الشيء الكثير عما في الصفحة الاولى، وكان قد وضع بعض الكتب الصغيرة عن المواضع الاثارية عندما كان موظفا في دائرة الاثار وكتب عددا كبيرا من المقالات والبحوث الهندسية والمعمارية والاثارية والتربوية وفي مجالات مختلفة.

واخيرا، لعل من الوفاء احياء ذكرى هذه الشخصية التي قدمت لوطنها الشيء الجزيل والمفيد واظن ان خير الوفاء يكون في نشر الطبعة الثانية من كتابه (تاريخ فن العمارة العراقية) التي مهدت الى نشرها اولا دار الشؤون الثقافية العامة وما ذلك على هذه الدار بكثير.