في مكتبة عباس العزاوي .. حقائق وذكريات

في مكتبة عباس العزاوي .. حقائق وذكريات

الشيخ محمد علي القرداغي

من جملة ما استقر في ذاكرتي من كلام استاذي الجامعي: “ان العزاوي كان يملك اكبر مكتبة شخصية في الشرق الاوسط من حيث كمية ونوعية المخطوطات»..
«وان العزاوي جمع محتويات مكتبته تلك خلال سنوات طوال، وكان في سبيل هذا العمل يجوب القرى الثانية من بلاد الاكراد – فضلا عن العراق – من تركيا وايران وسوريا ممتطياً البغال والحمير، جامعا نوادر المخطوطات من شيوخ العلم وائمة المساجد عن طريق الهبات والهدايا، او عن طريق الشراء حيثما اتفق ومهما بلغ الثمن»..

وبعد ذلك رأيت اثناء مراجعاتي لمكتبة المحتف العراقي على السلالم والمدارج المؤدية الى قسم المخطوطات في تلك المكتبة قماطر عديدة وكبيرة مكتوب عليها (مكتبة عباس العزاوي).. وبما اني ترعرعت في بيئة غير غريبة عن عالم المخطوطات كان لكل ما اسمع وارى وقع في نفسي وصدى في مسمعي واثمنى ان اظفر بايام واوقات انعم فيها بالعيش في رحاب هذه المخطوطات وغيرها، ومضت الاشهر والسنون وانا في انتظار ذلك الظرف المأمول، حتى عزمت في العام الماضي على ايجاد متسع قاطعا سبيل التسويق والتمني لاصبح احد رواد دار المخطوطات) التي استقلت عن مكتبة المتحف وضمت جميع مخطوطاتها.

ومنذ الايام الاولى من مراجعاتي لتلك الدار وضعت نصب عيني – من بين (40) الف مخطوطة التي تضمها تلك الدار – مخطوطات المرحوم عباس العزاوي، واخذ مني العمل في هذا الاطار كثيرا من الوقت وتطلب الاكثر من الجهد. غير اني لم ولن اتاسف على ما بذلت في هذا المضمار، فقد غصت في غمار يم ورجعت بلأليء ودرر، ووقفت على ما لم يكن في الحسبان، وتذكرت قول استاذي الفتيه صادقا فيما قال، اذ وجدت – حسب المناطق الجغرافية – العجب العجاب من امر صبر العزاوي ومثابرته على التجوال في كل المناطق التي جابهها وجلب منها شاهر خير على تطوافه فيها.

ومنذ فترة تدغدغني فكرة كتابة شيء عن هذا العالم الذي لم يتصف بعد رحيله، ولم تقدر جهوده حق قدرها، الا ان عظمة شخصية العزاوي، وسعة جهوده، وضخامة تركته جعلتني احجم، كلما راودتني الفكرة، عن العروج على هذه القمة السامقة، متيقنا ان هذا يحتاج الى الكثير والكثير، حتى قرأت في العدد (8123) من جريدة (الثورة) الكلمة التي كتبها السيد ابراهيم الجبوري فشجعني ما قرأته – وبخاصة ان الجبوري استقى معلوماته من اسرة المرحوم العزاوي وهي مع ذلك معلومات ضحلة تدور على بعض هوامش شخصية العزاوي – على ان اضم صوتي الى صوته، وابين عن جوانب غفل عنها حتى اسرة المرحوم العزاوي، راجياً ان تكون هذه المحاولات قدح زند يهدي الباحثين الى الطريق لتبديد شيء من الظلام الذي لف حياة هذا العالم الذي لم يضن في يوم من الايام بشيء من ماله وجهده وراحته في سبيل انقاذ تراث العلم والادب والدين من الضياع.

ان اول ما يؤسف له ولا يمكن جبره بحال من الاحوال بعثرة مخطوطاته ومحتويات مكتبته بعد رحيله. وكان من الواجب – بل المفروض – لو قدر هذا الرجل حق قدره، ان تصان مكتبته من اي عبث، وتخلد في مكان امين وجناح مستقل مبرزة فيه جوانب الجهود والابداع، مخصصة لها الكوادر القادرة على النهوض بما ينبغي النهوض به من مواصلة السير على الطريق الذي سلكه المرحوم العزاوي، واتمام المشاريع العديدة التي ارسى اسسها وبدا في انجازها غير ان كثرتها من جانب، وطموحه العالي من جانب آخر ابقيا كثيرا منها دون الوصول الى المرحلة النهائية.

فان قصة بعثرة هذه الثروة غريبة مثل غرابة قصة جمعها واقتنائها.

فقد سمعت ان كثيراً من نوادر مخطوطات هذه المكتبة هربت عبر الحقائب والوسائل الاخرى لتستقر في اماكن الغربة ككثير من نوادر تراثنا التي خرجت من مواطنها الاصلية - لاسباب عديدة – وادرجت في خزائن مكتبات، وقاعات متاحف العالم والتي بقيت من ثروة خزائن العزاوي بعثرت بشكل لا يعرف عنها – حتى اسرتها – الكثير.

ومن خلال فترة معايشتي في (دار المخطوطات) الممت بجوانب من هذه البعثرة، وحددت معالم جزء من الحيف الذي لحق باثار هذا العالم. فقد كان المرحوم العزاوي معنيا بمحتويات مكتبته – والمخطوط منها على وجه الخصوص – اذ افرد لهذا الجانب سجلات خاصة تضم (17) دفترا، دون فيها اسماء مخطوطات مكتبته ، مراعيا فيها – في الغالب – التبويب الموضوعي واللغوي، واعطى كل مخطوطة منها رقما خاصا بها، مدونا ذلك الرقم في السجل وعلى كعب المخطوطة وصدر صفحاتها الاولى، لكن المخطوطات حين نقلت الى مكتبة المتحف – (دار المخطوطات) لاحقا – لم يراع فيها شيء من ذلك الترتيب ، ولم تحظ – على الاقل – بخزانات مستقلة ، بل ولم يستقر ما نجا منها من السطو والتهريب، في دار المخطوطات فقط بل هناك قسم منها – كما اشار اليها الاستاذ الجبوري – ال الى المجمع العلمي العراقي ، وربما الى اماكن اخرى لم تطلع عليها.

بيد ان ما ظفرتا به من السجلات وما اطلعنا عليه من المخطوطات – ربما – لا يمثل الرقم الحقيقي من تركة العزاوي الخطية، ولربما هناك سجلات تبين نواحي مهمة من شؤون كنز العزاوي، ولا تستبعد ظهور امور لم تكن او ليس في الحسبان الان.

وعلى كل حال فكم كانت ثروة العزاوي الخطية، وكم بلغ عدد مخطوطاتها ونوادرها، هناك شيء اهم من كلها وهو ان المرحوم العزاوي لم يكن فيما فعل وجمع هاويا يجد متعته في جمع المخطوطات، ويتلذذ بمشاهدة الزخارف الفنية وروائع المخطوطات، او يتباهى بما لديه من نوادرها.

وانما كان خبيرا بما يقتني، واثقا من ان هذا التراث هو المصدر الثر للعلوم والمعارف بصنوفها المختلفة، والينبوع الصافي الذي يعكس ماضي هذه الامة، ويصور قيم ومكانة رجالاتها، ويحكي ما انتظمت عليه من المبادئ والمثل السامية، وكان العزاوي يعرف انه كلما كثرت وتنوعت لديه هذه المصادر، تمكن بشكل افضل وادق من الغوص اكثر فاكثر للوصول الى ما يطمئن اليه ويثق به، فجمع المخطوطات على هذا الاساس ومن اجل هذا الهدف النبيل، وكان هو الماهر الضليع في هذا المضمار يطير من بستان الى بستان، متنقلا بين زهراتها الفواحة يجني من رحيقها ليعطينا عسلا مصفى فيه شفاء لغليل الباحثين ولذة ومتعة للقراء والدارسين.

من مقدمة كتاب ( تاريخ السليمانية )