جابر عصفور حين يستدرجه عميد الادب ليجلس على كرسيّه:غواية أب ٍ لا يقرأ فيتنبأ لولده  أن يتمثل سيرة طه حسين..!

جابر عصفور حين يستدرجه عميد الادب ليجلس على كرسيّه:غواية أب ٍ لا يقرأ فيتنبأ لولده أن يتمثل سيرة طه حسين..!

فخري كريم

من عادة الدكتاتوريات أن لا تفصل بين الثقافة والسياسة، وهدفها في تصفية الحياة السياسية وطمر قواها ولو الى حين، يمر دائماً بالثقافة وحركتها وبالمثقفين، فيصبح هاجسها، تهجينهما معاً ووضعهما في الاطار الذي يخدم سلطتها واغراضها.

وهي إذ تفعل ذلك، تشّوه الحياة الثقافية والسياسية، وتعطل آلياتهما الايجابية، كدافع للتطور وحاملٍ للتغييرات الجذرية، وصياغة مفاهيمها.

وقد دخلت مصر في عهد السادات، وصولا الى سني حكم محمد حسني مبارك، مرحلة الصدام والقطيعة السياسية مع البلدان العربية، نتيجة زيارة الاول الى اسرائيل، ثم توقيع معاهدة كامب ديفيد برعاية البيت الابيض، لتدشن مصر عزلة سياسية عن محيطها العربي والاسلامي.

وكان طبيعياً ان يلعب المثقفون، والمنظمات الثقافية دوراً فعالاً في تشديد عزلة مصر، ومقاطعتها، في إطار مقاطعة"علنية"شاملة، وتحريم التطبيع مع اسرائيل، تحت اي ظرفٍ وتبرير. وتميزت مرحلة حكم السادات بقطيعة شملت كل الاوجه السياسية والاقتصادية والثقافية، بما في ذلك رفض عقد اي اجتماعٍ او لقاءٍ أو مؤتمرٍ في القاهرة في اروقة جامعة الدول العربية أو خارجها. وتطورت القطيعة العربية لمصر حد نقل مقر الجامعة الى تونس، ريثما يتقرر مصير دولة المقر في مؤتمر للقِمّة العربية.

في ذلك الجو المشحون باسباب التجاذب والاختلاف والاستنكاف السياسي والثقافي، وإظهار اي تعامل مع مصر وزيارة القاهرة، وكأنه كسرٌ للحصار ودعوة للتطبيع مع إسرائيل من خلال تزكية النظام المصري، بدأ حراكٌ ثقافي مصري، يسعى للفصل بين العزل السياسي، والتهميش للحركة الثقافية المصرية التي تبنت شعار رفض التطبيع والدعوة لتوسيع ميادينها في سائر البلدان العربية، وعدم الاكتفاء بالنظام الحاكم في مصر. وكذلك التفريق بين الشعب المصري والنظام الحاكم في سياسة العزل والحصار والعقوبات، والتمييز بين الممانعين للتطبيع ودعاته، والانفتاح على المبادرات الهادفة لتعزيز الحركة الثقافية المصرية ضد التطبيع، وتفهم دعواتها والاسهام في تقويتها وتكريسها في الحياة السياسية، وهو ما يتطلب الانفتاح عليها، وليس شمولها بالعزلة. ولم تكن هذه الدعوات نفسها، سهلة ومقبولة، بل كانت تصطدم بالاتجاهات المتشددة التي ترفض الاستثناء من العزلة، وإن تعلق الامربالمثقفين او نشطاء الممانعة والرفض.

وتصاعد هذا الاتجاه الانعزالي في الحركة الثقافية في العالم العربي طوال المرحلة الساداتية، ليمتد سنوات بعد اغتياله وصعود محمد حسني مبارك وفريقه الحاكم الى السلطة.

(٢)

كانت تلك مرحلة"اللاءات"العبثية التي لا تنطلق من برنامج عملٍ وطني يرتقي باستعداد الشعوب العربية، على ارضية تدابير وتوجهات تحرر ارادتها وتمنحها الثقة بجدية الانظمة القائمة في المواجهة مع اسرائيل وفك اسرها من دعاماتها الدولية. وفي واقع الحال، وكما اثبتت الاحداث التالية، فان الانظمة"الممانعة"والمحاور المضادة، كانت تدير صراعاتها لتكريس سلطاتها الدكتاتورية، على حساب القضية الفلسطينية والمصالح العربية العليا، وتستثمر تعقد الاوضاع وتشابك القضايا لتعيد ترتيب علاقاتها من وراء ستار الصخب والمزايدات الكلامية الاعلامية. وفي ذلك"الهيجان الثوروي"خيل للبعض من الحكام القومانيين، ولصدام حسين وحزبه، انها فرصة تاريخية لتحجيم دور مصر، وأخذ الريادة، وانتزاع"الزعامة القومية"منها!

وظلت بصمات صراع القوى العربية المرتبطة بالتجاذبات والمزايدات حول كمب ديفيد والصراع العربي الاسرائيلي، وخطط المواجهة"والتحرير"تؤشر الى ما ساد العالم العربي من تراجعات واخفاقاتٍ وهزائم. وبدلاً من تمكين الشعوب العربية ورفع يقظتها واستعدادها، استغلت الانظمة العربية، القضية الفلسطينية، لاتخاذ المزيد من الاجراءات القمعية وكم الافواه ومصادرة الحقوق والحريات عبر تكريس قوانين الطوارئ والتدابير الاستثنائية المرتبطة بها، وكأن المعركة مع اسرائيل تدور داخل كل بلد عربي ضد شعبه وقواه الوطنية. وفي ذات السياق، صارت منظمة التحرير والقيادة الفلسطينية هدفاً للحصار والتضييق وقضم الارادة، من وجهة نظر كل دولة وحاكم طامع بدور القائد الضرورة.

(٣)

التقيته اول مرة في مؤتمرٍ ينظمه المجلس الاعلى للثقافة. وكنت قبلها اتابع نشاطه عبر المثقفين الذين يتوافدون الى مصر، تلبية لدعوته للمشاركة في الفعاليات التي تغطي كل ميادين الابداع والفكر والفنون. وكانت الفعاليات تتواتر في مقر المجلس الاعلى للثقافة، وتتسع دائرة المدعوين للمشاركة فيها، لتشمل الطيف الثقافي والفكري المعارض للتطبيع وللنهج السياسي للفريق الحاكم في مصر. ولم يبدر من احد المشاركين ما يبدو مسّاً بتلك الفعاليات والقائمين عليها، بل كان الجميع يأتون على ذكر الدكتور جابر عصفورالامين العام للمجلس بتقييم ومحبة، وإشادة عالية بدوره في اعادة لَم شمل المثقفين وتجسير العلاقة بينهم، على اختلاف مشاربهم.وعادت مصر، دون ان تغير من توجهاتها السياسية وعلاقاتها باسرائيل، مركز استقطابٍ ثقافي، ومكان انعقاد فعاليات على مدار السنة، لتتبلور من خلال ذلك، صيغة الفصل بين السياسة والثقافة، او بصورة أدق، تحويل الثقافة الى منصة مضادة للتطبيع مع اسرائيل في الدائرة المحيطة بسفارة تل ابيب.

على مدى السنوات التي اعقبت اغتيال السادات، جرت تغييرات تدريجية في قيادة المؤسسات الثقافية في مصر، فيصبح الدكتور جابر عصفور اميناً عاماً للمجلس الاعلى للثقافة، برئاسة الوزير فاروق حسني، ويبدأ تحولاً يطاول كل قيادات المؤسسات التابعة للوزارة، ويتشكل فريقٌ منسجم الى حدٍ كبير يتولى عملية الارتقاء بالنشاط الثقافي في مصر، ويعيد معافاة العلاقة المقطوعة مع المثقفين والمفكرين والفنانين في العالم العربي.

كان جابر عصفور، بصفته الرسمية وسويته وخصاله الشخصية محور تلك الفعاليات والعلاقات المتنامية بين الحركة الثقافية المصرية، والمثقفين في البلدان العربية، في المشرق والمغرب، ويدب نشاطٌ غير منقطع لا يتوقف في المجلس الاعلى للثقافة بل يتتابع في اطار سلسلة من الندوات والمؤتمرات واللقاءات، يتناول كل القضايا العقدية في الثقافة والفكر والفنون.

(٤)

كلما اقتربت منه، تعجّلت صحبته، وازددت قرباً من أم الدنيا، واتسعت حلقة آخرين حوله، صار البعض منهم صديقاً حميماً، ولم تعد القاهرة بدونهم"وٍحشة"وبوارا من المتعة الثقافية والغنى الجمالي. ملامحه تجمع بين الرهافة والحساسية وبعضُ صرامة توحي بالتعالي، مع انها ترِق كلما ضاقت المسافة بينه ومن يصطفي من الاصدقاء.

شِلتُ معي وانا ألبّي اول دعوة له، خليطاً من الحكايات والمشاعر. هو مثقفٌ في السلطة، ام مثقفٌ سلطوي؟ وما هي المعايير التي يحتكم اليها في تقييم الآخر؟ وفي كل الاحوال، كيف سيلقاني وأنا منفيٌ، معارضٌ لنظام مستبدٍ يلاحق المثقفين حتى وهم في المنافي؟

كنت استطلعت احواله من أصدقاء ومعارف، كانوا بين مُحبٍ له وحاسدٍ ومتشنجٍ ومحبوسٍ في لا وعيه الملوث، وهو ما اسعى للاستفادة من معطياته، حين تلتبس علي الاشياء والحقائق، وأخشى ان أضيع فأفقد عكّازة الحقيقة.

من الصعب ان تبحث في الكثير من المظاهر والظاهرات في دولة مثل مصر، عميقة الجذور في التاريخ البشري والحضارة الممتدة الوارفة، كما تفعل ذلك في دولٍ تنغلق على نفسها، أو تضيع معالمها بفعل التغيرات والاختلاط وانتقال الهويات، مما تضيع منها، ملامح مكوناتها، التي تشمل انجازاً تاريخياً يُسّجلُ لها. ودون اطلاقٍ او مبالغةٍ، تخطُر اسئلة كثيرة وانت تبحث في الهوية الانجازية والتأثير، أيمكن ان تُحّرك الاهرامات من مواقعها، أو تنفي القيمة العلمية للتحنيط والفلك والهندسة والعمارة التي ابدعها الفراعنة. وكيف لا يمكن ان يكون"التوحيد"الذي فرضه"أخناتون"الخطوة الاولى للهداية البشرية نحو التوحيد ومفهوم الله؟

كان جابر عصفور، ملتقى تناقضاتٍ تشكل موضوعاتٍ أثيرة للمثقفين والكتاب الذين يتبارون احياناً لا لالتقاط شذرات الحقيقة والاهتداء لمعرفة جوهر الظاهرة، والبناء عليها وإثرائها، بل لافساد ما يتشكل في الحياة الثقافية، ليُغني مساراتها، ويُفعِّلها في الحياة الثقافية، لتصبح حوامل لتقدمٍ وارتقاءٍ، وتشيع قيمها في الوعي العام.

وحول جابر ومجايلين له من القامات الثقافية والابداعية، كانت الاسئلة المتضادة، تخلق بيئة جدلٍ حول هوية المثقف والسلطة، والمثقف في السلطة، ودوره في السياسة، لتنتهي الى معايير تُغني وترسي أسساً معرفية ومفهومية جديدة، وتَشذ من حيث اعتماد أدوات تجريبية تتفاعل في بيئات سياسية شديدة التناقض، ارتباطاً بالنظام السياسي فيها. وقد تكون مصر هي وحدها، بسبب طبيعة النظام السياسي الشمولي"المنفتح"أو البراغماتي، هي البيئة الممكنة الوحيدة، لقبول ازدواجية مفهومي المثقف في السلطة، ومثقف السلطة، وما يفصل بينهما من حواشٍ رخوة، تظل تلتبس وتعكس تناقضاتها في الحياة الثقافية والسياسية معا، وتبقى تثير تساؤلاً ساذجاً حول اول الثقافة أو السياسة، بتجاهل العلاقة الجدلية بينهما، باعتبارهما منصاتٍ للتقدم والحضارة الانسانية.

(٥)

وأنت تلتقيه، تصطدم بملامحه التي توهمك بانه سليل أسرة"باشوية". وتزداد وهماً وأنت تراقب خطواته وهو يتنقل في مكتبه، أو تستمع الى أوامره لمرؤوسيه. وما أن تقترب منه، وتتجاوز التخمين الى الواقع، وقبل أن تقرأ سيرته، تأخذك الحيرة، لتكتشف مزيجاً من آثار الطفولة ببراءتها، وأسباب الحذر الاولى التي شكّلتها خطوات وتجارب الطفولة نفسها.

يقول هو في كتاب سيرته غير المكتملة، انه كان في غير مرة بريئاً حد"اختطاف"ملابس العيد الجديدة منه، بطريقة لا تخدع"عبيطاً"! وتكاد خطواته الطفولية الاولى تزدحم بمشاهد الطيبة الساذجة، والتشوّفات لحياة متوازنة، تصبح الطيبة فيها سجيّةً لا مدعاة للاستغفال. ورغم تقدمه في العمر وخوض تجاربه الحلوة والمرة، فان احساسه الداخلي يضغط عليه أحياناً، ليقي نفسه من غفلةٍ او ارتيابٍ، بعد ما صار يترتب عليهما نتائج وقرارات، لن تكون ضحيتها مجرد"بدلة عيدٍ"!

كدتُ أتساءل مع نفسي، بعد ان قرأت بعض سيرته في"زمنٌ جميلٌ مضى"، هل أن له يدا في ما تشي به ملامح وجهه وخطوات مشيته"الارستقراطية"ليبدو على خلاف ما ولدته أمه، لولا أن"تكوينه"وملامح وجهه،"خَلقٌ"تسلل مع ولادته؟

يذكر جابر عصفور، بفخرٍ لا يخفيه، ان والده جُبِلَ في صباه وشبابه على شقاوة وتمردٍ، نقلته من المحلة الكبرى، الى مدنٍ واحياء، لم تكن حياته فيها ميسورة. فقد كان بلا مورد تقريباً، يلتقط رزقه مما يعثر به من عملٍ منقطع، حتى تجاوز تلك الشقاوة والتمرد وتَمكّن الاستقرار منه، كصاحب مصلحة تدر دخلاً يضمن العافية والستر لعياله. إذن فهو ليس من"سلالة باشا"بل من أبٍ يكدح ليحقق مستقبلاً فاته عن طريق ولده الوحيد الذي سمّاه"جابراً"تيمناً بسيدي جابر الذي استجاب لدعائه، فرزق بولده، وظل حريصاً على ما نذره، في زيارته سنوياً، والبِر بالفقراء والمساكين.

(٦)

رغم انه لا يقرأ ولا علاقة له بالثقافة، كان السيد احمد يعرف بطريقة ما، طه حسين. وقد يكون السبب انه"بصيرٌ"ولامعٌ سبقته الشهرة الى الامصار فصار علماً. وبعفويةٍ وتمنٍ مرهفٍ كان يردد: أريد ان يكون جابر، طه حسين!

وقد تحقق له ذلك، فشغل بعد تخرجه وتعيينه، الذي تمنّع عليه رغم تفوقه، بسبب فسادٍ إداري، كرسي طه حسين، وسار على خطاه، مريداً، متفوقاً، يسعى ليواصل دوره في التنوير والنهضة الثقافية. ولم يكن متاحاً له ان ينال حقه في التعيين لولا تدخُلٍ من جمال عبد الناصر!

وأتساءل مرات، وانا أتابع"تدخلاته"وهو في موقع الامين العام للمجلس الاعلى للثقافة، لصالح مثقفين ومبدعين، أهي من انعكاسات التدخل الاول؟ وماذا عن خيباته وهو يواجه كثيراً نكران الجميل..؟

(٧)

فُصل جابر عصفور من الجامعة، مع كوكبة من المثقفين المصريين البارزين والقيادات السياسية البارزة في الحملة التي شنها السادات، وانتقل الى استكهولم ليعمل مدرسا زائراً، ثم ليعود بعد سنة دراسية الى القاهرة بعد ان أعاد المفصولين محمد حسني مبارك، ويختار الالتحاق بالجامعة في الكويت بين اعوام ١٩٨٣ - ١٩٨٨. وفي فترات مختارة، أنتدب كاستاذ زائر في جامعاتٍ اميركية وسويدية، بعد عودته من الكويت، وخلاله اشتغاله كأمين عامٍ للمجلس الاعلى للثقافة. وكانت التنقلات معيناً له في توسيع معارفه واطلاعه على رصيد النتاج الابداعي، وادارة العمليات الثقافية والارتقاء باساليبها وأطرها.

عام ١٩٩٣ اختاره الوزير فاروق حسني، أميناً عاماً للمجلس الاعلى للثقافة، ومعه انتقل النشاط الثقافي في مصر، وما انعكس منها في العالم العربي، الى مستويات جديدة.

ومن اهم ما تحقق، وهو في الامانة العامة للمجلس، الفصل بين السياسة الرسمية للدولة على صعيد ما ارسته اتفاقية كامب ديفيد مع اسرائيل،"والتصالح"الضمني مع الحركة الثقافية في العالم العربي، المناوئة للسياسة الرسمية المصرية.

ومن اشترك في الفعاليات التي كان ينظمها المجلس، يرى ويسمع مع لا ينسجم مع وجود سفارة لاسرائيل على مبعدة من دار الاوبرا ومكاتب المجلس الاعلى.

لم يتردد مثقفٌ أو كاتبٍ في قبول دعوات جابر عصفور للاشتراك في فعاليات المجلس، بل كان العتب والانزعاج يلف من لا يُدعى، ليس بنوايا مسبقة، أو تهميش دون شك، وانما لاعتبارات المناسبة والتوصيف والعدد.

اختلق جابر كل مناسبة ليزيد ويوسع من دائرة نشاطات المجلس، معتمداً على تفهم ودعم الوزير الذي لم يغفل ان المجلس بما هو عليه صار وزارة. كما هو الحال مع قطاعاتٍ أخرى تابعة للوزارة. ولا يخفي الدكتور جابر، بل يُقر بجميل الفنان الوزير فاروق حسني، ودعمه غير المحدود له ولكل قيادات القطاعات الثقافية، وما حققته من انجازات مبهرة، ومعافاة للعلاقات الثقافية بين مصر ومثقفي البلدان العربية.

وفي دائرة واسعة من المساحة المفتوحة على الثقافة والفنون والابداع، شهدت مرحلة التسعينيات والعقد الاول من الالفية الثالثة نهضة ثقافية ومعرفية صاعدة. بفضل الفريق الذي جايل جابر عصفور وشارك في قيادة العمل الثقافي والقطاعات المتنوعة التي ظلت تحت رعاية الوزير، الذي خرج من معركة الاستهدافات القضائية، نظيف اليد والسيرة!

(٨)

تعرض الدكتور جابر عصفور، لحملاتٍ متواصلة وهو في موقع الامانة العامة للمجلس الاعلى للثقافة، وعند قبوله جائزة معمر الثقافية، واشتدت عليه الحملة، عند الموافقة على توزيره للثقافة. وكذلك خلال مسيرته، وهو استاذ كرسي الادب العربي"ظل يشغله حتى تقاعده، واستمر مشرفاً على الدراسات العليا حتى الان"ثم بعد توليه امانة المجلس، بسبب علاقته مع جيهان السادات التي كانت طالبة في الدراسات العليا في قسم اللغة العربية، وكذلك الامر مع السيدة سوزان مبارك.

كانت سويّته الثقافية، في كل المواقف، تغلب على ما تتطلبه السياسة من حذرٍ وتوازناتٍ وحسابات. ولا غرابة في ذلك، لانه لم يكن يوماً منتمياً الى حزبٍ، او محسوباً سياسياً متمرساً، يسعى لمركزً قيادي سياسي. والسياسة وفقاً لاهتمامه، هي مساحة همٍّ وطني لكل فرد، فيما هو عام، وعلى نحو اضيق فإن السياسة عند الدكتور جابر، ولدى المثقفين المهمومين بالثقافة من غير المشتغلين بالنشاط السياسي، انما هي حقلٌ معرفي تنحصر بمصطلحٍ مُركّبٍ يدخل في صلب العمل والتخطيط الثقافي يشترك فيه السياسي والثقافي، يُعرف"بالسياسة الثقافية"وهو ما يرى جابر انه ميدان خبرته والمساحة المشروعة لحركته ومبادرته.

هل اعتمد هذا المفهوم وهو يقبل جائزة يرى المثقفون انها ممحونة بكبائر مستبدٍ طاغية؟

وهل تتحكم بمواقفه معايير من لا يرى الثقافي في السياسي، حين لا تتناقض المواقف مع القيم الوطنية بمفاهيمها الاكثر عمومية وسعة مما هو يوميٌ ومتغيرٌ، ولا يؤسس لقيم ثقافية..؟

(٩)

لماذا قبلت ان تكون وزيراً في لحظة تنبيء بعاصفة من العواطف الجيّاشة، والانهيار مقبلٌ يضع الناس على مفترق طرق؟

رد جابر: كانت حيرة، ان يسألك سائل، أتريد المساهمة في انقاذ الوطن، معتمداً خياراتك في التغيير، دون التخلي عن قيمك ومفاهيمك..؟ هل استطيع القول، لا، وهي تفهم في لحظتها رفضاً للمساهمة في انقاذ الوطن..؟!

ويواصل: لقد استقلت في اللحظة التي شعرت انني خدعت..

(١٠)

في الزمن الذي كان العراقي المنفي، المغترِب، المُطارَد، يبحث عن ركن منزوٍ يلتقي فيه من يستمع اليه وهو يشرح محنة وطنٍ احتلته زمرة من الطغاة، في التسعينيات من القرن الماضي، كان جابر عصفور، وعلي ابو شادي وعماد ابو غازي وسمير سرحان وأحمد مجاهد وفوزي فهمي، ومثقفون وطنيون بارزون يستقبلوننا ويحتفون بنا، يطيبون خواطرنا ويتعاطفون معنا، ويشركوننا في فعالياتهم، دون خشية على عطايا وامتيازاتٍ مغرية يوزعها أزلام النظام السابق على احزاب وقيادات وزمرٍ ثقافية وفنية وأشباه رجالٍ..!

أليست هذه خصال المثقف الوطني، ورفعته..؟

ايمكن ان ننسى مأثرة وزير مثقف مثل فاروق حسني وهو يرى في العراقي المُلاحق، مواطناً او مثقفاً، موضع رعاية واحتضان وتضامن..؟

وكيف لا ننتبه لبعض ما كان يفعله عمرو موسى دون ان يعلن عنه في محفلٍ رسمي، في الموقف من مثقف مطاردٍ يحمل مشروعاً يرى فيه النظام المستبد هوية اعدائه..؟

(١١)

قبل ايام ختم الابجدية في عمر الشباب الاول، فاصبح في السبعين، متفتحاً على مساحة لحدود عطائها وطاقتها الابداعية على اثراء ثقافتنا ومعرفتنا لكينونتنا "المُرهَقَة" بتجارب الانظمة المستبدة، التي لا ترى في المستقبل الا ما تستقدمه من جهالة الماضي ورثاثتها التي لا تبني غير قبورٍ بلا شواهد..

دعك من قلق عمر السبعين وامض في الحفر على حجر العقل والفكر، واسترجع من التراث ما يُعيننا على الاستنارة ومواجهة التكفير وإذلال التابوات والتحريم..

جابر عصفور، سلاماً..