جوان ديديون.. الكتابة من أجل الحياة

جوان ديديون.. الكتابة من أجل الحياة

علي حسين

افتتحت كتابها “عام التفكير السحري” بعبارة: “بسرعة تتغير الحياة.. بسرعة تتبدل الحياة”. لم تكن تتوقع أن الحياة التي عاشتها سوف تتبدل في لحظة واحدة ، تتذكر آخر عشاء تناولته مع زوجها الكاتب “جون غريغوري” أخبرها بآلام في منطقة الصدر، لم يمهله المرض طويلا ليسقط مغشيا عليه ويموت في مساء السادس عشر من كانون الاول عام 2003.

توقفت عن الكتابة لمدة عام، حاولت ان تحتفظ بعادات زوجها التي كان يمارسها كل يوم، وفي النهاية قررت أن تسطر حزنها على الورق لتدون ايامها بصحبة الغياب، تصف للقراء عمق الفجيعة التي تعاني منها، لم تعتبر الموت علامة لنهاية علاقتهما، فهي تستحضر زوجها كل يوم وتنتظر عودته، مؤكدة ان لحظة غيابه هي لحظة خارج الزمن، حدث مؤقت سرعان ما سينتهي وتعود الحياة الى سيرتها الاولى حين كان “غريغوري” مولع بالتفاصيل. تكتب: “اعرف لماذا نحاول ان نُبقي امواتنا احياءً: نحاول ان نبقيهم على قيد الحياة ليستمر وجودهم في حياتنا.. لنبقى نحن احياء، اعرف ايضا اننا إذا ما اردنا نحن انفسنا ان نحيا يأتي وقت يتوجب فيه علينا ان نتخلى عن موتانا، ان نعتقهم من تعلقنا بهم، ان ندعهم وشأنهم، ان نسمح لهم بالموت “ -عام التفكير السحري ترجمة شادي خرماشو-، نشرالكتاب في الرابع والعشرين من كانون الثاني عام 2004 ليفوز بجائزة البوليتزر . وبعد اشهر من صدورالكتاب تموت ابنتها متأثرة بمرض سرطان البنكرياس.

شعرت جوان ديديون التي رحلت عن عالمنا يوم “23” كانون الاول عام 2021 بمتعة العيش بالقرب من الحزن، الذي وصفته بانه يضعف الركبتين ويعمي العيون: “الحزن ليست له مسافة، يأتي على شكل موجات، ونوبات، ومخاوف مفاجئة”، طبعت المأساة سيرتها وحدّدت حياتها.

الكثير من النقاد يعتبرون “جوان ديديون” الوجه الانثوي للكاتب الشهير ارنست همنغواي، كانت صورتها وهي تجلس على شرفة بيتها في ماليبو ترتدي سترة عريضة، تدخن بشراهة ، تمسك بيدها كأسا من الـ”بوربون”، تُذكر القراء بصور همنغواي في شبابه، تعترف أن صاحب “الشيخ والبحر” كان له الفضل الاول في تعليمها كتابة الجمل القصيرة. في الخامسة عشرة من عمرها عثرت على رواية همنغواي الشهيرة “وداعا للسلاح” فاعادت قراءتها اكثر من مرة واخذت تستنسخها في دفاتر صغيرة: “ كنت أكتب قصصه لأتعلم كيف تعمل الكلمات. دائما ما اعيد قراءة افتتاحية رواية (وداعا للسلاح)، وأعود إلى تلك العبارات. إنها جمل مثالية. جمل مباشرة للغاية، أنهار ناعمة، مياه صافية فوق الغرانيت» .

في حوار مع “باريس ريفيو” تخبرنا ديديون انها تمضي ساعات في حذف سطور كتبتها واضافة سطور اخرى، بعد الانتهاء من الكتاب تأخذ اوراقها معها الى غرفة النوم، تضعها على السرير وتحتضنها: “أؤمن أنه وبطريقة ما أن الكتاب لا يغادرك حين تكون نائماً بالقرب منه».

ترفض ما يقوله النقاد بان لها “صوتها الخاص” في الكتابة: “أنا لا أخبرك بهذا كإيحاء لا معنى له، ولكن لأنني أريدك أن تعرف، بقراءتي، من أنا، وأين أنا وماذا أفكر”. تعترف بان الكتاب الذين تقرأ لهم بشغف مثل هنري جيمس وهمنغواي وجين اوستن وجورج اليوت يتسللون الى الصفحات التي تكتبها، تسبب لها الكتابة نوعا من القلق الذي تحاول ان تتغلب عليه بان تردد مع نفسها: “لا عليك لقد كتبت دائما من قبل وستكتبين الآن. كل ما عليك فعله هو كتابة جملة واحدة صحيحة”. في مقال نشرته عام 1976 بعنوان: “لماذا اكتب؟” تطرح ديديون سؤالا حول علاقة الكاتب بالقارئ لتؤكد ان الكتابة هي محاولة لفرض الذات على الآخرين، و: “القول استمع لي، شاهد على طريقتي”. يصفها النقاد بأنها “شاعرة الخواء الامريكي، حيث يبدو الخواء ماثلاً في كل صفحة من صفحات (عام التفكير السحري)».

ولدت جوان ديديون في الخامس من كانون الاول عام 1934، في كاليفورنيا، والدها فرانك ريس ضابط في سلاح الجو ووالدتها إدوين مختصة بدراسة البيئة. تتذكر ديديون أنها كانت طفلة خجولة لكنها مولعة بالقراءة، تقرأ كل ما يقع تحت يدها، حتى أن والدتها حاولت ان تمنعها من قراءة الروايات التي ربما تؤثرعلى حياة ابنتها الصغيرة. في مكتبة المدرسة تعثر على كتب السير الذاتية، تسحرها سيرة جين اوستن، التي كانت ملهمتها اثناء فترة المراهقة. عاشت حياتها تتنقل مع عائلتها بين المدن الامريكية بسبب عمل والدها في سلاح الجيش، تكتب في مذكراتها أن التنقل في كثير من الأحيان جعلها تشعر بأنها فتاة دخيلة على العالم.

عام 1956، تتخرج من جامعة كاليفورنيا، وتحصل على شهادة في الادب الانكليزي، في نفس العام تفوز بمسابقة “جائزة باريس” التي اقامتها مجلة “فوغ” وكانت الجائزة تعيينها بصفة مساعد محرر في المجلة.. برزت في الستينيات كواحدة من دعاة “الصحافة الجديدة”، وقد ساعدتها الصحافة في النظر الى العالم من جهات مختلفة. نشرت عام 1968 مجموعة مقالات بعنوان (السير نحو بيت لحم)، وقد اقتبست العنوان من شاعرها المفضل وليام ييتس، سلط الكتاب الضوء على الثقافة الامريكية في تلك الفترة وتناول ظاهرة (الهيبيز).

عام 1970 صدرت روايتها (كيفما اتفق) -ترجمها الى العربية عماد العتيلي- وفيها تحاول ان تقدم صورة للمجتمع الامريكي في آواخر الستينيات، وقد حظيت الرواية باهتمام القراء وتم تحويلها الى فيلم سينمائي عام 1972، وصفت بانها رواية قاتمة، تمسك بانفاس القارئ، تبدأ الرواية ببطلتها الممثلة ماريا في مصحة للأمراض النفسية وهي تردد “قد يتساءل بعض الناس: لماذا يُعد إياغو شريرا؟. ولكني لا أتساءل ابداَ”، هكذا تباغتنا ماريا بسؤال في الوقت الذي تعلن فيه انها توقفت عن طرح الاسئلة. “أنا ما أنا عليه الآن”، هكذا تقرر لان البحث عن الاسباب بالنسبة لها عمل مضنٍ ولا معنى له، كانت ماريا تؤمن بان ما يخبئه لها القدر لا بد ان يكون افضل مما مضى: “بيد أني لم اعد اؤمن بذلك”، فالحياة بالنسبة الى ماريا اشبه بطاولة القمار، لذلك فان درس الحياة الاهم الذي تعلمته من والدها ان تواصل اللعب “كيفما اتفق» .

في حوارها لباريس ريفيو قالت ان الكتابة فِعلٌ عدائيّ: “أنت فيه، تحاول أن تجعل أحدهم يرى شيئا ما بالطريقة التي تراه بها، تحاول أن تفرضَ فكرك، تصورك. اليس أمرا عدائيا أن تحاول تحريفَ الأشياءِ وانت تروي؟ تحكي لشخصٍ ما أحلامك؟، كوابيسك؟ ولهذا يحتالُ الكاتب دوما على القارئ، كي يستمِع لأحلامه».

لم يترجم للعربية لديديون سوى رواية “كيفما اتفق” وكتاب “عام التفكير السحري” اضافة الى مقالات صحفية . عندما نشرت كتابها “عام التفكير السحري” قالت انها تحاول ان تتطهر من الحزن، وان تضع خساراتها في سياق جديد. تقدم لنا ديديون سيرة حياتها في ظل غياب زوجها، في سرد لمشاعرها والآلام التي عاشتها من خلال رحلة فلسفية وانسانية تتجسد فيها قسوة الغياب والحزن، لكنها في النهاية لا بد من ان تؤمن بان “واجب على الحياة ان تستمر».

أرّخت كتابات جوان ديديون الحالة المزاجية لجيل الستينيات، وكانت من الكتاب القلائل الذين امتلكوا جرأة تشريح الواقع الامريكي بقسوة، بالإضافة إلى التجربة الإنسانية بشكل عام، ولم تكن مهارتها الادبية تكمن في اسلوبها النثري المتميز، بل في قدرتها على مراقبة سلوك الآخرين بذكاء، وصِفت بانها الكاتبة التي “رأت ما فات الآخرين”. كتبت ذات يوم: نروي لأنفسنا قصصا من أجل أن نعيش».