جوان ديديون : أما زلتِ، أيَّتُها الجميلة تروين القصص؟

جوان ديديون : أما زلتِ، أيَّتُها الجميلة تروين القصص؟

باسم محمود

لأنّ الحياةَ، كما النهر؛ تجري، في دَفْقٍ دائم، هي تُشبِهُ أيضًا (ركوبَ الدرّاجة، لكي تُحافِظ علي اتّزانك، لا بدّ أن، تستمرَّ في الحركة) كما قال آينشتين. أن تكتبَ، فذلك شيءٌ طيِّب، أن تُقرِّر أن تشارك الآخرين ما تكتب، نعم أن تنشر، فهو ليس بالأمر السّهل، لكن، أن يُرفَض كِتابُكَ الأول من اثني عشر ناشرًا؟ فذلكَ أمرٌ قد يفوقُ الاحتمال!

طوال لقاءٍ تلفزيونيّ أُجري عام 2000، دام لثلاث ساعاتٍ، وظلّت كما هي؛ ترتدي نظّارتها السوداء التي تُخفي، أغلب وجهها، حتّي باغتها اتصالٌ علي الهواء من جارتها، تطلب أن تخلعها، كي “يروا عينيكِ الجميلة” أمِن خجلٍ هو؟ لعلّها، عادةُ الكاتبِ كما هو دومًا؛ يتخفّي، خلف قناع السّرد.

تسألها المذيعةُ عن سبب تسمية كتابها “بعد هنري” بهذا الاسم، والذي هو اسمُ مُحرّر كُتبها، وعن؛ هل من العادي أن تكون علاقة بين الكاتب ومحرره بهذه الصورة، تجيب في كلماتٍ؛ متقطِّعة، مرتبكة، كعادتها:

«مات في محطة القطار. كان في الخمسين من عمره تقريبًا. وكنتُ أعتمدُ عليه تمامًا، وظننتُ، أني، لن أكتبَ مجددًا. لا أحدَ يفهمُ ما يفعله المحررون. هم، لا يمسكون القلم ويكتبون بدلًا منك. لكن، المحرر، يقترحُ عليكَ فكرةً ما، كي تعمل عليها، إنهم يؤمنون بك».

الكاتبةُ المولودةُ في ولاية كاليفورنيا في ديسمبر عام 1934، والتي، نظرًا لتنقُّل العائلة الدّائم لظروف الوالد، الذي كان ضابطًا في قوّات الدّفاع الجويّ الأمريكية، يشاركُ في الحرب العالميّة الثانية، قد استقرّت أخيرًا في عاصمة الولاية: ساكْرمنتو، والتي استوحت من النهر فيها أولي رواياتها: ((فلتجري أيُّها النّهر)) التي قبِلها الناشر رقم ثلاثة عشر، والتي قضت في كتابتها خمسة أعوام، وذلك في الرابعة والعشرين من عمرها.

قبل روايتها الأولي، كانت تتعيّشُ بشكلٍ أساسيّ من مقالاتها التي تنشرها في الصُّحف والدوريات، مثل مجلة: فوج، ثم حدث أن التقت جون جريجوري دون، الذي كان يكتب لمجلة التايم، ليشهد العام 1964عقد زواجهما، ومِن ثمّ، يرتحلان إلي لوس آنجلوس مؤقّتًا، ليعودا مرّة أخري إلي كاليفورنيا. تشاركَ الزّوجان كتابةَ ستّةَ أفلام للسينما، مثل: مولد نجمة، إعترافات حقيقيّة، وغيرها.

في ديسمبر 2003، بينما كانت ابنتهما كوينتانا، ترقدُ في غيبوبة طويلة في المستشفي، داهمت الزوج سكتةٌ قلبيّة قاتلة بينما كانا يتناولان العشاء. تم تأجيل مراسم العزاء ثلاثة أشهر تقريبًا، حتي استعادت كوينتانا عافيتها. لكن، بزيارتها لوس آنجلوس بعد وفاة والدها، أُصيبت بورم في الأوعية الدمويّة، مما استدعي جراحةً دامت ستِّ ساعات، استعادت عافيتها في 2004، لكن، لفترة قصيرة، حتي فارقت الحياة في أغسطس عام 2005. لكن، هل توقفت الحياة مرةً أخرى، كما كانت تظّن بعد هنري؟

في عام 2005، أصدرت كتابها “عام التفكيرِ السحريّ” والذي تروي فيه عن الحياة بعد موت زوجها، وصراعها مع التهاب الأعصاب، لتُتبِعه في العام 2011 بروايتها “ليالٍ كئيبة” التي تروي فيها قصة مرض ابنتها، والذي تحوّل إلي فيلمٍ تسجيليّ، ليصير عدد أعمالها الروائية نحو ستِّ روايات، وما يزيد عن عشرةِ كُتبٍ غيرِ روائيّة، صدّرتها بإهدائها إلي: جون، وكوينتانا، وذلك، كي تستمر الحياة، فالنّهرُ، لابدّ أن يستمرّ في الجريان.

يتّخذُ المكانُ دومًا مركزيّة فيما تكتب ديديون، فكما قام جيمس جويس بتخليدِ مدينته الأثيرة: دبلن، في “ أهالي دبلن “، ويتّخذُ منها مسرحًا لأحداث الثماني عشرة ساعة في روايته الأصعب “ يوليسيس “؛ فإنّ كاليفورنيا هي مركز العالم بالنسبة لديديون، وكما أنّ أهلَ مكةَ، أدري بشعابها، صارت عبارة “إنَّ كاليفورنيا تنتمي إلي جون ديديون!” هي ما اصطلح عليه تقريبًا أهل المكان. تحكي في كتابها “المكان الذي منه جِئت” عن وقائع بدايةِ الكتابةِ لديها، بمقالها الذي كتبته بتشجيع من والدتها وهي في الصف الثامن، والذي كان بعنوان “ ميراثنا في كاليفورنيا “، تقول:

هؤلاء الذين قَدِموا إلي كاليفورنيا، لم يكونوا من الرّاضين عن أنفسهم، السُّعداء القانعين، بل؛ المغامرين، القَلِقين والجسورين. هم كانوا يختلفون حتّي عن أُولاء الّذين استقرّوا في ولاياتٍ أُخري. لم يأتوا إلي الجانب الغربيّ ليتّخذوا لأنفسهم المأوي والأمان، لكن، لأجل المال والمغامرة.

وعن، متى أدركت أنها ترغب في الكتابة، تقول:

لم أكن أرغب أن أصبح كاتبة. أردتُ أن أكون مُمثِّلة. لم أُدرِك وقتها أنها نفسُ النَّزعة. وهي، العملُ علي خلْق اعتقاد. الفارقُ الوحيد، هو أنّ الكاتبَ، بإمكانه أن يقومَ وحده بالأمر كلِّه.

نحتت ديديون أسلوبها الخاصّ في الكتابة، فكتابتها اللاروائية والصّحفية، تنتهجُ فيها مَنطقَ السَّرد، حتّي ما يحمل منها طابع السيرةِ الذاتيّة، يتداخلُ فيه ما هو حقيقيّ، وما هو مُختلَق، تتحدث في كتابها “الطريقُ إلي بيت لحم” عن تدوين المذكّرات:

نحنُ ننسى مُبكِّرًا للغاية كلَّ الأشياء التي، كُنّا نظنَّ أنّه، لا يمكننا أبدًا أن ننساها. ننسى قصص الحبّ والخياناتِ على حدٍّ سواء، ننسي ما همسنا به أو صرخنا، ننسى مَن كُنَّا. إنّها فكرةُ طيّبة، إذن؛ لنكن علي تواصلٍ مع ما مضى، أفترضُ أنَّ أمرَ المذّكراتِ بأكلمه هو أن يكون المرءُ علي تواصل.

وحين تستفسرُ منها مذيعةٌ في لقاءٍ عن بعض كتاباتها التي تنتمي إلي السيرة الذاتية، أنها لم تكن حقيقةً بشكل كامل كما أخبرت، تقول: هو نوعٌ مغايرٌ من المذكرات لما قد يحدثُ في حياتك، حينما لا تُدرك ما هو حقيقيّ، وما لم يعد كذلك بعد الآن.

الأمرُالذي يُحيل علي ما قاله د.ه.لورانس يومًا ما: لا تثق أبدًا بالرّاوي، ثق بالحكاية. الوظيفةُ الأساسية للناقد، هي أن يحافظَ علي الحكايةِ، بمأمنٍ، عن الفنّان الذي أبدعها.

ومازال النهرُ يجري

في 2005، نالت ديديون الجائزة العالمية للكتاب للأعمال غير الروائية، عن كتابها عام التفكير السحريّ. مُنِحت شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة هارفرد في 2009، وأُخرى من جامعة ييل. وفي يوليو 2013، أعلن البيت الأبيض منْح جون ديديون الوسام الدّولي للعلوم الإنسانيّة، والذي سلّمهُ إليها باراك أوباما. في أغسطس من العام الماضي، صدر كتابٌ عن سيرتها بتوقيع تراسي دوغيرتي بعنوان: “أُغنيةِ الحُبِّ الأخيرة”. يستقصي فيه عنها من خلال كتبها وحواراتها.

أما عن الكتابة، فبالنسبة إليها فهي فِعلٌ عدائيّ، في حوارها في مجلة باريس ريفيو، تسألها ليندا كويل، عن تصريحها هذا فتقول:

هي فِعلٌ عدائيّ، أنتَ فيه، تحاولَ أن تجعلَ أحدهم يري شيئًا ما بالطريقةِ التي تراه بها، أنتَ تحاول أن تفرِضَ فِكرك، تصوَّرك. أمرٌ عدائيٌّ هو أن تحاول تحريفَ الأشياءِ فيما حول عقل شخصٍ آخر. أنت تحاول على نحوٍ ما أن تحكي لشخصٍ أحلامك، كوابيسك. حسنًا! لا أحد يرغب أن يسمع حلمَ شخصٍ آخر؛ سيئًا كان أو حسنا. يحتالُ الكاتب دومًا علي القاريء، كي يستمِع لأحلامه.

الكاتبة الفاتنةُ التي جاوزت الثمانين من عمرها ومازلت تحتفظُ بجمالها، وصارت كما يقول البعض: موديل أو “علامة تجارية”؛ فصورها تُطبع علي القُمصان والسُّترات والحقائب النّسائية، كي تُشبه تصميم كتابها “الألبوم الأبيض”، الذي صارت أوَّلُ عبارةٍ فيه هو الآخر، ترنيمة ديديون: “نحنُ نروي القصص لأنفسنا لأجل أن نحيا”. وفي رواية، يقول السيّد أومبرتو إيكو: كي تبقي علي قيد الحياة، لابد أن تروي القصص.

أهو حديثٌ موقوفٌ علي قائله، أم، هو ما اتفقَ عليه الرّواة؟ أمازال النهرُ يجري، ومازلتِ، أيتُها الجميلة، تروين القصص؟

عن جريدة الاهرام