شوقي ضيف بلا وريث

شوقي ضيف بلا وريث

سوسن الأبطح

قبل أيام، مرّت الذكرى السادسة عشرة لرحيل مؤرخنا الكبير، شوقي ضيف. قلّة تذكرته، أو كتبت عنه جديداً. وليس في الأمر مفاجأة. ثمة جحود يطال المفكرين والمؤرخين، وأصحاب الجهد الذهني، وهذا من جملة إشارات التردي المتسارع في المنطقة العربية.

أذكر أن المفكر محمد عابد الجابري، صاحب «نقد العقل العربي»، يوم جاء «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» وكان هذا قبيل وفاته، أصابه الضجر وهو يجلس على كرسيه، خلف العشرات من كتبه، ينتظر مَن يطلب منه توقيعاً على نسخة، فيما كانت الجموع الغفيرة، على مبعدة أمتار، تتحلق حول جناح أحد نجوم برامج الطبخ في إحدى القنوات التلفزيونية، طمعاً في شراء كتابه.

ولو كان شوقي ضيف إنجليزياً أو ألمانياً، لاستذكرته أمته في كل مناسبة، ولدرست كتبه وأعادت تشريحها وبثت فيها نبضاً لا ينقطع. فالتأريخ أبو العلوم جميعها. وهو عند الأمم المعافاة قضية وطنية، وفي الصين وسيلة لتعزيز روح الانتماء وتدعيم الهوية، التي من دونها لا توثب إلى الأمام. عمدت جريدة «لوموند» قبل أيام، في مبادرة ذات أهمية استثنائية، إلى نشر قراءة جديدة لتاريخ فرنسا، في عدة مجلدات، للمؤرخ جول ميشليه، تبيعها بأسعار زهيدة لقرائها، وتقدمها هدية لمشتركيها. وميشليه هذا له رأي في التأريخ لو تنبه إليه العرب لربما تغير مسارهم. فهو يعتبر أن معرفة التاريخ بعمق «رافعة تحرر الناس من جمود العادات والمعتقدات، وتساعد على اختراع نماذج أخرى» غير التي مرّت وانقضت. وإذا كان ميشليه يرى في هذا العلم النبيل وسيلة «لإفراز كيمياء التحولات» عند الشعوب، فقد جعل منه العرب، من دون دراية منهم، أداة لتكريس الجمود، وأقصر طريق للذهاب إلى الجحيم.

تختلف العلاقة بالتاريخ تبعاً لزاوية الرؤية التي يقرأ منها. وضيف كانت له فلسفته القومية، وحسّه الإسلامي الانفتاحي. تقرأ كتابيه عن الحضارة العباسية، تلحظ كيف يحتفي بين السطور بتلك التعددية الدينية التي سادت وتثاقفت، والاختلاط العرقي الذي صنع مجد بغداد ووهجها. يعرض أمامك حياة المجّان والزنادقة بتفاصيلها، كما يبسط حكايا المتصوفة والزهّاد باحثاً عن أصولها وجذورها. نشأته القروية التسامحية أبقت لروحه اتساع أفقها، وتتلمذه على يد مصطفى عبد الرازق، وأحمد أمين وعبد الوهاب عزام، وبالتأكيد طه حسين، الذي سيخلفه في رئاسة مجمع اللغة العربية، منحه منهجه العلمي.

أهمية الرجل أنه من صنف المؤرخين الذين وضعوا أحداث الماضي في متناول الجميع، بأسلوب سلس، عذب. كتب في سلسلة «تاريخ الأدب العربي» التي سطّرها في عشرة مجلدات، حكاية ألف وخمسمائة سنة من آداب العرب وحضارتهم، ولغتهم. ثلاثين سنة قضاها هذا المترهب في محراب البحث، ينحت في الحقب التاريخية، يخصص لكل حقبة جزءاً أو اثنين، من الجاهلية إلى العصر الحديث. وهو في هذا سار على نهج عميد الأدب العربي الذي رافقه في محطاته الجامعية، وهو يجتازها بتفوق، وأثار إعجابه، وهو يشرف على رسالتيه في الماجستير والدكتوراه. وكما أستاذه عندما كتب «على هامش السيرة»، و«الفتنة الكبرى»، و«الشيخان» عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ذهب ضيف ينبش في قصص الأسلاف بطريقته الخاصة، وعلى خطاه عمل في النقد، وسعى من خلال مؤلفاته اللغوية إلى تبسيط القواعد.

ومثل النهضويين الكبار، تحولت كتب ضيف إلى كلاسيكيات في الجامعات، تتداول جيلاً تلو آخر، مع فارق هو أنه من الصعب أن تجد لها بديلاً يستسيغه الطالب. فالمؤرخ الذي كتب بموضوعية، ووثّق، وتخّير كلماته كي لا يجنح في الحماسة، أو يُضجِرك من شدة الحيادية، أمكنه أن يقدّم مؤلفات فيها من المصداقية بقدر ما فيها من الليونة في المنهج والتناول. ميزته عن كل من ذكرنا، أنه أكاديمي، ومعلم، يعرف ما يحتاج إليه طلابه، ويقدم مواضيعه منظمة، وأفكاره متسلسلة، جاهزة للهضم.

بعد سنوات طويلة على صدور سلسلة شوقي ضيف التي كانت مشروع حياته، وطُبِعت على الأقل عشرين طبعة، من دون احتساب آلاف النسخ المتداولة بالتزوير والتصوير، لا يُلتفت جدّياً إلى قيمته المعرفية الموسوعية. ما يقارب ستين كتاباً، سُخّرت جميعها لتعريفنا بتراثنا وهويتنا: «الحب العذري»، «الفن ومذاهبه في الشعر العربي»، «الفن ومذاهبه في النثر العربي»، «الشعر والغناء في المدينة ومكة»، «المدارس النحوية»، «تجديد النحو»، «البلاغة تطور وتاريخ»، «البحث الأدبي... طبيعته ومناهجه وأصوله ومصادره». كل ما تبحث عنه تجده في مؤلفات ضيف مبسّطاً منساباً وقريباً من ذائقتك. في هذا هو سليل النهضويين الكبار من أساتذته الذين اعتبروا كتبهم جسراً بين المصادر القديمة الصعبة، والناس العاديين. في رؤيته لدوره شبيه بعباس محمود العقاد، عندما وضع عبقرياته، وأحمد أمين وهو يسطّر «فجر الإسلام»، و«ضحى الإسلام» و«ظهر الإسلام». أستاذنا، ومؤرخنا، لا يُعثر له على تسجيلات مصورة، للأسف، باستثناء واحد مدته أقل من دقيقة، يبدو فيه شيخاً طاعناً في السن، ربما تجاوز التسعين. في هذا الشريط النادر الذي يختتم فيه محاضرة للعالم الألسني الجزائري عبد الرحمن الحاج صالح، تسمع لدهشتك الشيخ شوقي ضيف، يتحدث بشغف الأطفال عن «الحوسبة»، أي علم احتساب اللغة رياضياً وبرمجتها إلكترونياً، متأسفاً لأن المحاضِر كان موجزاً، وهو يرغب في أن يعرف المزيد عن هذا العلم الجديد. لقد كان حقاً صاحب ذهن متوقّد وفضول لا ينضب.

عن الشرق الاوسط