العلامة الأب ألبير أبونا أيها المتبحر في أغوار كنيسة المشرق

العلامة الأب ألبير أبونا أيها المتبحر في أغوار كنيسة المشرق

جبرايل ماركو

ابتي الجليل. ستدخل التسعين يا مودع الثمانينات. وستجتاز وقرها بلا قلق من الاتي وبدون رهبة. ويستتب لكم البال والاطمئنان الى الوجه الالهي الحي الذي طالما احتضن بالمحبة العلوية التي لا تنضب. تكريما لعطاء وثمار رسالتكم الروحية التي ابتدأت من مرحلة عنفوان شبابكم المستقيمة مرورا بسن الكهولة وصولا الى ايام الشيخوخة. وسيبقى الوجه الالهي البهي حاضنا لشهود ميلاد المسيح والفصح. المعمدة روحهم بانبعاث الحياة من الحياة. حيث لا موت يعروهم من بعد بزوغ الفجر القيامي.

العلامة البير ابونا لم يغادر يوما بيئته وطبيعته القروية البريئة. ولم يحذف من قاموسه الايماني والفكري والثقافي انتسابه الى الكلمة. أما براءة طفولته فهي اول ارض مس جلده ترابها. وقد حظيت بها فلم يدعها. ولم تطيب نفسه بتركها. لان الكلمة هي الاصل. مهما ارتبك المشككون واختلطت عندهم المفاهيم. فالبشر ينتسبون لآدم. وبين الكلمة والابداع والعلامة البير ابونا صفاء وداد ووفاق على الدهشة والابتكار وخدمة الجمال الالهي. حتى غدت الحياة معه منظومة سرمدية لها منهج واضح الاهداف والمعالم. اسهمت في بناء وترسيخ هذه العلاقة المتأنية التي رسمت فوق الفراغ قوس غمام. سفك الاب البير ابونا في سبيلها موهبته. ومنحها بعدا روحيا ورمزيا حيا يتحرك في كل اتجاه. أما شخصيته فاعتنقت مفهوم الشفافية ولم تخجل في الانتساب اليها. بل اغتنمت الكلمة خدمته لترد اليه بافضل عطائها السرمدي. وهي لم تبق معه كلمة مفردة معزولة بل كلمات وكلمات وكلمات أعاد الاب البير ابونا صياغتها لتفصح عن الوان عقله وبنات افكاره. لان الكلمة المبدعة عنده لا تُكرم لغناها بل لفضلها.

ابتي الفاضل. ايها العابر من حياة البساطة الى عالم بناء الذات والعطاء والبحث والتوثيق. لم يعاينك جيلنا كثيرا في مسيرة الطفولة والشباب. بقدر ما عايش مسيرتكم الكهنوتية وانتم تمرون في كل مدن وبلدات وقرى شعبنا المنتشرة في ربوع الوطن. مكرسا حياتكم في سبيل تقديم الخدمات الروحية الى كل ابناء الكنيسة. حتى باتت سيرة مسيرتكم الروحية كتابا روائيا محكيا على شفاه كل الاجيال تروي عن تأريخكم الروحي وعن خدماتكم المشهود لها وعن رؤيتكم الاصلاحية في الكنيسة. في الوقت الذي سنحت فرصة المعاينة اكثر امام بطاركة ومطارنة واساقفة وكهنة وشمامسة والعديد من ابناء كنيسة المشرق المنتشرين في الوطن من شماله الى جنوبه وامتدادا الى كل بلدان عالم الانتشار. الى جانب نخبة من المثقفين الذين طالعوكم ناهلين من سنابلكم المليئة بثمار الروح والثقافة السريانية وعبيرالحياة الازلية. مرورا بكل الاسفار والبينات التي سطرها قلمكم. ومتصفحين العديد من ابحاثكم وكتبكم ومقالاتكم التي تنزهكم بين الوجدان والتأريخ والواقع المشرقي اللاهب. التي تجعل القارئ ان يلامس اشجى اوتار الانسان الحميمة. في تساؤلاته عن سبب وجوده والمصير. وعما يجابهه اليوم من ظلم وكفر ويقين واحباط وقلق ورجاء... وموت وقيامة. انها تساؤلات جريئة طرحتها ايضا امهات الفسلفة. ولكن لا خلاص ولا رجاء إلا بيسوع المسيح.

العلامة البير ابونا الباحث دوما عن الحقيقة العارية. جاهد في استثمار الحداثة المتحررة لخدمة الرسالة الروحية. بالرغم من بعض هفوات ستينات القرن المنصرم. واذا كان الصراع بين القديم والجديد يفتك بالحياة الفكرية والثقافية لدى جميع الاجيال. لكن العلامة البير ابونا حذر في اجتناب الذنوب. بالرغم من عشقعه للحداثة في كل تحولاتها. لان الولادة الجديدة وحدها تمحو ذاكرة الخوف بالرغم من أن نفوس التقلديين تضيق بها. لهذا فضل الاب البير ابونا التأمل الفلسفي على العروض. والفلسفة خواطر الإفهام وعلمُ يُربى باستقامته ودقته كل الذين يستبعدون ان يكون للفلاسفة انفتاحهم على كل مناحي الحياة. حيث الحقيقة تكمن في خواتم وفكر وثقافة الاب البير ابونا. لانها الترجمان الذي اراد ان يتوارى فيه المنهل الذي لم يستطع الا ان يغرف منه بدون تشتت. فلم يأخذ بنوازل الاحكام وبمن قال ما ترك الاول للاخر شيء. فلكل قلب خاطر. ولكل خاطر نتيجة مضافة هي ثمرة الاتصال المكثف بين الانسان وذاته ومحيطه الاجتماعي. من هنا. فالنقش الفكري عند الاب البير ابونا تجلى في نحت الحروف في الصخر. داعما لمذهبه في التفكير الايجابي تجاه الخالق. بالرغم مما رافق ذلك من شحنات الوجع الوجداني والتي تتمايل في نقاء جمالي هارب من كل قاعدة.

أبتي. لم تكن دخيلا الى الحياة الكهنوتية. بل نلت الدرجة الكهنوتية مؤمنا ورعا وخشوعا. وأديت رسالتك الايمانية والروحية في بيوت الله بكل صدق وصفاء ووفاء واخلاص. ولم ترضك يوما انصاف المعارف فطلبت فيها مشقة الاصالات وسهرت الليالي من اجل تحقيقها. مخترقا بطون كتب تأريخ اللاهوت والادب الروحي وافاق الفكر والثقافة باحثا في رحلة الاكتشاف والتوثيق لكل ابداعات كنوز ومخطوطات الاباء الروحيين العظام نذكر منهم لا للحصر( مار افرام السرياني ومار نرساي ومار توما اودو ومار اوغين منا. ومار ادي شير والمفريان ابن العبري وخامس القرداحي.) فنضج خصبكم الروحي والفكري والثقافي معادلا ومعياريا لفضول معرفي يتدفق علما وفكرا وانفتاحا وتعمقا اسهم في اغناء لاهوت كنيسة الشهادة والشهداء.

ومن ثمار ابداع تراثكم الروحي والثقافي المتراكم والمجبول بخبرة الحياة الروحية التي كانت زادكم اليومي. ان العاطفة تسقط عند نتوء الأنا. وان الانسان يحمل قلبا رحبا بالمحبة والحق أو هو ليس بشيئ. من دون ان نغفل التطرق الى العديد من انتاجاتكم المتنوعة التي اغنيتم بها مكتبة كنيسة المشرق لغة وفكرا وثقافة وتراثا. لتفتح الافاق المستقبلية امام كل الباحثين والمستشرقين. اما قمة موقفكم الشجاع والغيورعلى مستقبل كنيسة المشرق الكلدانية تجلى بكل وضوح في مقالتكم الجريئة والمعنونة ( كنيستي تفتقر الى رعاة ) يومها وجهتم صرخة الى قداسة البطريرك مارعمانوئيل الثاني دلي والى كل مطارنة واساقفة كنيسة المشرق الكلدانية والى جميع ابنائها في الوطن وفي عالم الانتشار. تلك الصرخة التي استجاب لها الرب يسوع المسيح مجسدا امنيتكم من خلال عمل الروح القدس الذي اختار قداسة البطريرك مار لويس روفائيل الاول ساكو راعيا صالحا لكنيسة المشرق الكلدانية. فقد أثبتت الايام للجميع. ان قداسته أفلح في انقاذ سفينة الكنيسة من الغرق ليقودها بكل ثقة وامانة الى بر الامان. مساهما في اعادة الثقة بين المؤمن والكنيسة. ومرسخا دعائم وجودها بالرغم من كل الظروف الصعبة التي يمر بها الوطن وانعكاساتها السلبية. مسجلا نقلة نوعية مميزة من خلال خارطة الطريق التي وضعها قداسته المبنية على صوابية رؤيته السديدة ونظرته المستقبلية الواضحة الاهداف المعتمدة على مفهوم وحدة كنيسة المشرق والانفتاح على جميع الكنائس وعلى الشريك الوطني الاخر في العراق. ليؤكد للجميع. وفي وسط هذا الغليان والتكفير والارهاب. ان الانبعاث المشرقي قادم. ليثبت ابناء الشعب الكلداني السرياني الاشوري وجودهم وليساهموا بدورهم الريادي والفعال في بناء الذات والوطن. وليعودوا ويؤكدوا للعالم. نحن هنا باقون في ارضنا وفي اوطاننا لنشهد باستمرار للمسيح. ونِعمَ المسيح الحي الذي يوحدنا بمحبته وعطائه وتضحيته على الصليب لانقاذ البشرية من الهلاك. تلك هي الرسالة وذلك كان الرجاء.

ابتي. كثيرون أذهلتهم ثقافتكم وافكاركم وارائكم. ولكن قلة منهم احسنت قرائتكم وادركت حقيقة اهدافكم ودوركم ومساعيكم الوحدوية لكنيسة المشرق بكل تسمياتها. وكم ساهمتم بدوركم الفاعل كصمام امان ضد المذهبية والقبلية والطائفية والعصبيات البدائية التي مازالت مع الاسف تعشعش في عقول البعض الى يومنا هذا. مع ان موضوعيتكم التأريخية ومحملوكم الوطني والقومي يشهدون لكم ولرسالتكم بكل فصاحة بل هم اسياد احكام. ومن هؤلاء القلة اذكرعلى سبيل المثال ( المغفور له الاب المناضل بولس بيداري. والمغفور له مثلث الرحمات قداسة البطريرك مار روفائيل بداويد. وقداسة البطريرك مار لويس روفائيل الاول ساكو. والمرحوم المطران اندراوس الصنا. والمطران الشهيد مار فرج رحو. والمرحوم الاب الدكتور يوسف حبي. والبروفيسور افرام عيسى السناطي) والفريق النخبوي الذي طالما كنتم ــ ولو افراديا ــ على تواصل وثيق بفكرهم وتطلعاتهم.

يا اثيلا في الفلسفة واللاهوت والاداب وعلم الانسان. يا أميرا مشرقيا تاجه المحبة والايمان. وفكره وعقله وقلبه وحلمه كان وما يزال. ان يرى يوما وقد تجسدت وحدة كنيسة المشرق. من دون ان نغفل ابدا القيم المسيحية واللغوية في الادب والتراث السرياني والتي انسكبت منذ عشرين قرنا على اديم زاخو. زاخو التي رفدت وما زالت ترفد كنيسة المشرق بنخب الاحبار الكبار. ومن دون ان ننسى شهدائها. وجبل الزيتون المقدسي المتصل بسماء القيامة. انها الحقيقة السرمدية الساطعة والمحبة التي تجلت منذ اكثر من الفي عام في اورشليم. والتي كانت مرصودة منذ الازل من قبل انشاء هذا العالم. وستبقى مفتوحة على المدى الانساني اللامحدود.

أبتي. ايها المستضيء بالنور الالهي الساطع. الغارف من الينابيع وروائع الادب الروحي ومؤلف العديد من كتب اداب اللغة الارامية وتراثها ــ كما يحلو لكم تسميتها ــ ستبقى كلها مصادر مهمة لتدرس في كلية بابل اللاهوتية وفي الاديرة وفي كل كنائس المشرق. لتغرف من ينابيعها كل الاجيال القادمة. ولتلمس عن كثب حقيقة وعظمة لاهوت وفكر واداب كنيسة المشرق. لتتسلح بالمعرفة وتساهم بدورها الريادي في متابعة المسيرة وصقل هذه الكنوز الروحية. أما تأججاتكم وعطاءاتكم ستبقى معينا حضاريا لا تنضب ينابيعها. وشواهقكم الفكرية ستبقى واحات يلاذ بها من الصحراء.

واخيرا أقر بأنني ما خفت على عباءة هذا الراهب الكاهن وعلى اسكيمه. وعلى حسه المرهف والطيبة التي ما بعدها طيبة. المتجذرة في اعماق انسانيته وفي فكره الوجداني المصفى وفكره المؤرخ الباحث الثاقب. وثقافته الواسعة وخياله اللاهب وقلمه الملهم. مع ازدياد شوقي لحرقته الصارخة وتوقه اللهيف الى الخلود. والجائع للسلام. للحب. للغفران.