ناجي السويدي والتجربة الانتخابية الاولى سنة 1924

ناجي السويدي والتجربة الانتخابية الاولى سنة 1924

د. سامي عبد مشعب الموسوي

في عشرينيات القرن الماضي وفي بداية تأسيس الدولة العراقية، استثمرت الفئة المثقفة العراقية الأحداث الوطنية من خلال إظهار مواقفها تجاه البلاد، فعززت بذلك مكانتها الاجتماعية والسياسية لدى غالبية الشعب، أما مواقف هذه الفئة التي توزعت بين التأييد والرفض والسكوت، فقد شكلت علامة بارزة في قوة الحوار الذي التزمته هذه الفئة وفي الديمقراطية التي بدأت بواكيرها تظهر من خلال اختلاف وجهات النظر.

إلا ان دورهم قد برز بشكل مؤثر وملموس في انتخابات المجلس التأسيسي. فمنذ ان صدرت الارادة الملكية في التاسع عشر من تشرين الأول 1922، بالشروع في انتخابات المجلس التأسيسي، وجه المثقفون اهتمامهم الشديد إليه، إذ اعتبروه الممر الأمين الذي من خلاله ستعبر السلطة الدستورية إلى ضفة العراقيين بشكل يحفظ سيادة بلدهم واستقلاله.

فقد عبر عنه المثقفون بعبارات تنم عن تصوراتهم الوطنية التي يهدفون من خلالها إلى ترسيخ القاعدة الاستقلالية والسيادة للعراق.

فقد سماه الصحفي ابراهيم حلمي العمر وهو يترقب وقت انبثاقه بأنه “الساعة التاريخية” التي تجمع مجمل الأحداث الوطنية ويعبر الشعب فيها عن ارادته. ووصفه ابراهيم صالح شكر، بأنه “محراب القضية العراقية”، وكلمة محراب تعني في دلالتها السياسية التحرر من ربقة التبعية والعبودية والتوجه نحو الحرية والاستقلال، واعتبره مثقف عراقي باسم مستعار هو “عراقي صميم” بأنه (لا استقلال بلا مجلس تأسيسي) كما ورد في صحيفة العاصمة البغدادية.

لقد تطلعت أنظار المثقفين العراقيين نحو المجلس، وعلقوا عليه آمالاً كبيرة تهم العراق ورصدوا المواضيع التي سيتناولها، ومن أهمها المعاهدة العراقية البريطانية، ووضع دستور للبلاد، وسن قانون المجلس النيابي.

ولجسامة تلك المواضيع وحساسيتها، فقد دعو ان تظم تشكيلة المجلس أعضاءً مثقفين من فئات القانونيين والسياسيين والاقتصاديين لأن المواضيع المطروحة للمناقشة هي “ مزيج من السياسة والاقتصاد “ لاسيما المعاهدة، وقد وضعوا في حساباتهم دقة الطرف الآخر، بريطانيا، التي (هي أدهى أمة سياسية عرفتها الأرض). فدعا الشاعر جميل صدقي الزهاوي إلى انتخاب أهل الاختصاص الذين سماهم (علماء بالسياسة) ودعا مثقفون آخرون إلى انتخاب (المتخصصين بالقانون).وبالفعل فقد تحققت مواقف المثقفين بانضمامهم إلى تشكيلة المجلس بالتصدي مع قانونيين ومحامين آخرين بارزين لمناقشة أعمال المجلس من الناحية القانونية. في السابع والعشرين من آذار 1924 افتتح الملك المجلس التاسيسي بحضور المندوب السامي ولم يكن جميع الأعضاء المنتخبين حاضرين ومن ضمن مجموع (100) عضو حضره (85) عضو وقد القى الملك خطاب العرش مذكراً بأن مهمتهم:

1. البت في المعاهدة العراقية … البريطانية.

2. اصدار الدستور العراقي.

3. اصدار قانون الانتخابات.

تم اجراء انتخاب رئاسة المجلس، فانتخب عبد المحسن السعدون رئيساً، وداود الحيدري وياسين الهاشمي نواباً للرئيس.

ضم المجلس التأسيسي في تشكيلته أعضاء من مختلف الثقافات والألوان الاجتماعية، فقد ضم رجال سياسة وكبار الملاك والعسكريين السابقين ووجوه اجتماعية، فضلاً عن مجموعة من رجال القانون ضمت اثني عشر قانونياً، مثل ستة منهم (نصف المجموع) من بغداد وحدها، (وهم كل من ناجي السويدي وعبد الرزاق منير وعبد الجبار الخياط وانطوان شماس وروبين بطاط ويوسف الياس، ومثل اثنان منهم لواء الحلة وهما رؤوف الجادرجي ومزاحم الباجه جي ومثل واحد منهم لواء البصرة هو محمد زكي، وآخر مثل لواء اربيل هو داود الحيدري، ومثل لواء ديالى واحد منهم أيضاً هو جعفر العسكري الذي كان ينتمي إلى فئة العسكريين في الوقت نفسه، كما مثل واحد منهم لواء الديوانية هو عبد الرزاق الرويشدي).

فقد كانت المعاهدة العراقية البريطانية على رأس القائمة الموضوعة على بساط البحث والتداول، للخروج بقرار نهائي حول تصديقها أو معارضتها.إن أهم الاتجاهات التي تركزت في داخل المجلس هي اتجاه المعارضة للمعاهدة، والاتجاه الآخر المؤيد لها، وهناك اتجاه ثالث تحصن بالتحوطات التي تدعو إلى دراسة المستقبل والعواقب التي تحدث في حالة معارضة المعاهدة او تأييدها. فالذين أيدوا تصديق المعاهدة ووقفوا موقف المدافع عنها، كان يحدوا قسماً منهم حرصهم الوطني على سيادة العراق وعدم تجزئته فيما لو عارضوا بريطانيا، فأن بريطانيا سوف لن تقف مكتوفة الأيدي حيال الغاء المعاهدة أو معارضتها، وسوف تلجأ إلى الضغوط السياسية امام عصبة الأمم، وكذلك التعرض العسكري لتشن به هجوماً يفضي إلى تمزق العراق.

عرض جعفر العسكري المعاهدة على المجلس بوصفه رئيساً للوزراء اعترض ناجي السويدي، على ان لا تكون نصوص المعاهدة في أيدي أعضاء المجلس فقط، بل يوزع نصها على جميع أبناء الشعب، لأن الشعب، في رأيه هو الذي يتحمل ضرر المعاهدة أو نفعها أي هو صاحب الحق في البت فيها.ودعا أعضاء المجلس للاسترشاد برأي الشعب على وفق رغباته وأمانيه، وكان هدفه الرئيسي من هذا الاعتراض، تمسكه العالي بقيم الوطنية ومعانيها.

ولم يعترض أحد على رأيه، مما يعد بحد ذاته كسباً مهماً، لا بل عد نصراً على الذين كانوا يطالبون بحصر الموضوع في لجنة خاصة، كما عزز أعضاء آخرون موقف ناجي السويدي وعضدوا موقفهم هذا بايراد حجج قانونية لا مجال لنقضها ومنهم رؤوف الجادرجي ومحمد زكي، وهما من النخبة القانونية، فعد مؤشراً لتحول نوعي في التفكير وفي أسلوب التعامل، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار ان ما تحقق جرى في غمرة نقاش متشعب، تباينت فيه طروحات الأعضاء والمعارضين ومنهم المثقفون.

لم يتوقف دور المثقفين داخل المجلس عند اتجاه محدد، بل تعدى ذلك ان خطى المثقفون خطوات واسعة في قيادة المناقشات داخل المجلس وابداء الآراء السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى بروز اتجاهات ثلاثة، شكلت الدعامة الرئيسية لوجهات النظر التي تباينت بين المتشددين والذين يدعون إلى المرونة.

فقد مثل الاتجاه الأول المتشدد ياسين الهاشمي ومحمد زكي، إذ اكدوا ان المعاهدة تثقل كاهل البلاد بقيودها وتضعف سيادته وتنسخ استقلاله. لذا طالبوا فقط بتعديلها على وفق ما جاء في تقرير لجنة المعاهدة.

أما الاتجاه الثاني فقد تميز أصحابه بالمرونة، والنظرة إلى الواقع وإلى توفر الامكانات التي تؤهلهم إلى ان يكسبوا تقدماً من خلال إبرام المعاهدة، ورأوا ان المعاهدة ما هي إلا عجلة تدور بخطوات إلى الأمام، وهي أفضل من الانتداب، بغض النظر عن ثقل بنودها ونواقصها، كما أدركوا ببصيرة السياسي والقانوني والوطني، ان اقتناص الفرصة من خلال الحوار السياسي مع البريطانيين، سيؤثر بشكل ملموس على نوع العلاقة بين الحكومتين العراقية والبريطانية، مما يعطي وزناً سياسياً لحكومة العراق.

ومن الأمور المهمة التي أخذها أصحاب هذا الاتجاه بنظر الاعتبار وضع البلاد العام داخلياً وخارجياً، فقد قال ناجي السويدي، وهو من رواد هذا الاتجاه، عن المعاهدة: (انها على علاتها أرجح لدينا من الانتداب وأفضل، رغم ثقلها ونقصانها)، لأن (وضعيتنا ليست وضعية دولة مستقلة تمام الاستقلال حتى نتمكن من ان نعقد معاهدة كما تعقدها الدول المستقلة).

أما الاتجاه الثالث الذي تمخض عن دور المثقفين في مناقشات المجلس، فقد اتخذ الموقف القانوني سبيلاً مأموناً في مناقشة بنود المعاهدة، مع مراعاة الأعراف القانونية والدولية في تنظيم العلاقات بين الدول.

وقد برز في هذا الاتجاه نخبة من المثقفين القانونيين، منهم رؤوف الجادرجي، وعبد الرزاق منير، وعمر الحاج علوان، إذ أخذوا على عاتقهم دراسة بنود المعاهدة ومقارنتها ببنود الانتداب، وخرجوا بنتيجة تؤشر قبولهم المعاهدة بشرط ان يتم تعديل بنودها على وفق ما جاء في تقرير لجنة المعاهدة التي كان أغلب أعضائها من المعارضة.

باشر المجلس التأسيسي مناقشات القانون الأساسي يوم الرابع عشر من حزيران سنة 1924، وانتهى من مناقشاته يوم العاشر من تموز من السنة ذاتها. وقد بذل المثقفون داخل المجلس جهوداً كبيرة طغت على بقية الأعضاء. وأداروا مناقشاته بوعي ثقافي منقطع النظير، لا سيما منهم القانونيون إذ ناضلوا من أجل اجراء تعديلات جوهرية على أهم مواد القانون الأساسي في اتجاه تعزيز وحدة العراق واستقلاله والحفاظ على مصالحه الحيوية، وايجاد المستلزمات القانونية الضرورية لإقامة نظام ديمقراطي، وتركيز سيادة القانون وصيانة الحريات العامة، وكانوا وهم يناضلون من خلال تشكيلة لجنة القانون الأساسي، يؤكدون على اشراك أهل الاختصاص ممن يحملون شهادة القانون والمطلعين على تجارب الأمم العربية والعالمية.

عن رسالة ( دور المقفين في الحركة الوطنية في العراق )