الإضراب الشهير لعمال المطابع سنة 1942

الإضراب الشهير لعمال المطابع سنة 1942

شهاب أحمد الحميد

نقابي وصحفي راحل

رحل قبل أيام مؤرخ عراقي ، كرس حياته للعمل النقابي كاحد عمال المطابع ، ثم الحقها بجهود خالصة لكتابة تاريخ الطباعة في العراق ، وقد اختص الراحل شهاب احمد الحميد ( المدى) بالكثير من تلك الكتابات ، ومن ذلك هذا المقال عن إضراب عمال المطابع سنة 1942 وتوقف الصحافة بسبب ذلك الإضراب ، نعيد نشره تحية للفقيد وذكراه .

ما ان تم القضاء علىحركة مايس 1941. واستكملت قوات الجيش البريطاني احتلالها العسكري لبغداد للمرة الثانية ، حتى خضعت الصحف ، المجلات ، وسائر المراسلات والمطابع الى رقابة عسكرية شديدة ، وقيدت الحريات العامة وزج المئات من اصحاب الرأي والفكر ، والصحافة في السجون وابعد العشرات منهم وازدادت الحياة سوءا بعد ان توقفت عن الصدور صحف عدة تعرض عمال المطابع من جرائها للبطالة وتفاقمت الازمة المعيشية للمواطنين بعد ان دخل بغداد في غضون شهر حزيران نحو مئة الف جندي عسكروا الى الجانب الغربي منها - اي في الكرخ -واحتل ضباطهم معظم الدور الحديثة المجاورة لمعسكرهم فارتفعت اسعار الحاجيات ارتفاعا فاحشا،وتعذر على الطبقتين الفقيرة والمتوسطة العيش بيسر فانصفت الوزارة الموظفين والمستخدمين بزيادة مرتباتهم غير ان تلك الزيادة لم تجد نفعا اسعار المواد الاساسية تضاعفت عشرات المرات بشكل متصاعد ومستمر.

في الوقت الذي ضاقت فيه الحياة بالطبقة العاملة وشهدت الحركة الطباعية اسوأ كساد في تاريخ العراق الحديث حيث اصبحت فيه الاجور التي يتقاضاها عمال المطابع لاتتناسب والاسعار المحلية السائدة ، وكانت الاوضاع العامة سيئة جداً بحيث اعتبرت فيه مديرية الرعاية (قيام مديرية السجون بانتاج الصمون لتخفيف وطأة ازمة الخبز في العاصمة ) مكسبا من مكاسب الوزارة السعيدية للترفيه عن المواطنين .(وبالرغم من وجود قانون العمل فقد كان عمال المطابع يعملون بدون وقت محدد .. يأتون الى مطابعهم في الصباح ويخرجون في ساعة متأخرة من الليل .. وفي ايام جلسات المجلس النيابي يحمل عمال مطابع الصحف هموما متزايدة ، حيث كانت الصحف تتسابق في نشر اكبر مساحة من الخطابات . منها ما ينشر من خطب المعارضة ومنها ما ينشر من خطب المؤيدين للوزارة وبالاضافة الى ذلك ساءت الحالة المعيشية لعمال المطابع ، وعمت البطالة جميع اصناف مهنة الطباعة وقد بدأت الصحف تصدر باربع صفحات لقلة الورق ـ وتعطلت الكثير من المطابع لعدم وجود الادوات الاحتياطية .. وهكذا غدت الحياة اكثر قسوة من اي وقت مضى وعلى الرغم من قلة عدد عمال المطابع ، الا ان معظمهم كان يقرأ ويكتب ، فيها كان بعضهم يمتلك جذوراً ثقافية ومنهم من تعلم اموراً كثيرة بحكم طبيعة المهنة ، وارتباطها بحركة تطور الثقافة والفكر والادب على المستويين القومي - والطبقي . لهذا كله لعب عدد من عمال المطابع دوراً كبيراً .. ومؤثراً في تدارك الامور وكانت طبيعة تواجدهم في المناطق الشعبية من بغداد تسمح لهم بعقد اللقاءات وتبادل الاراء حول ضرورة وضع حد لضائقتهم المعيشية فاتخذوا من مقاه عدة في بغداد مقرات لتجمعهم مثل مقهى ياسين في شارع ابي نواس واخر في الصالحية ، وثالث في جانب الرصافة بالقرب من مطبعة الحكومة ومقاهي شارع المتنبي والميدان بالاضافة الى اتخاذهم مسكن احد شعراء عمال المطابع مقرا للاجتماعات المهنية النقابية يلوذون اليه كلما وجدوا مضايقة من شرطة التحقيقات الجنائية . وفي عطلة يوم الجمعة المصادف 29 تشرين الاول 1942 اجتمع بعض عمال المطابع وكان معظمهم من العمال المرتبين من مختلف الاتجاهات الوطنية والقومية والديمقراطية للتشاور فيما بينهم بشأن وضع حد لاوضاعهم الاقتصادية المتدهورة ، ونتيجة للمشاورات السريعة قاموا بتنظيم مذكرة تضمنت جملة من المطاليب كان اولها زيادة رواتبهم بمعدل لايقل عن 25% وتحديد ساعات العمل في جميع المطابع الاهلية بثماني ساعات ، ودفع مخصصات الاعمال الاضافية ومنحهم الاجازات المرضية والاعتيادية ، والالتزام بقانون العمل رقم 72 لسنة 1936 . وقد انبثقت من بينهم لجنتان تشكلتا للمتابعة وتنظيم الاتصالات مع اصحاب المطابع الاهلية ، وللتفاوض مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية , وبعد تمحيص المذكرة تم تبليغ الجهات ذات العلاقة بان عدم تنفيذ المطالب خلال 48 ساعة سيؤدي الى اعلان الاضراب العام .

ولن يعود عمال المطابع الى اعمالهم مالم تتحقق مطاليبهم كاملة لهذا فقد ابدت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية اهتماماً كبيراً حال تقديم الطلب في يوم السبت الموافق 30 / 10/ 1942 وفي مساء اليوم نفسه اجتمع المتفاوضون فتبين لهم اولا : ان وزارة العمل : تؤيد مطاليب العمال بتطبيق قانون العمل ولكنها تتمنى عدم القيام بالاضراب . ثانيا: ان اصحاب المطابع لم يهتموا للامر باديء ذي بدء ، واعتقدوا بانهم يتمكنون من التفريط بالحقوق المشروعة لعمال المطابع من خلال المماطلة والتسويف ، وكان اشدهم قساوة وتعجرفا اولئك الذين اصبحوا اصحاب مطابع اثناء الحرب وكانوا عمالا قبلها ! وكان لسماع عمال المطابع نتائج المفاوضات وقع كبير في نفوسهم ، ورفع معنوياتهم ، فازدادوا تماسكا بحيث اصبحوا على مطلق الاستعداد لاعلان الاضراب ، بل انهم اخذوا يترقبون اللحظات التي تعلن انتهاء المدة المحددة لاعلان اضرابهم التام والشامل ، ليبرهنوا على قوتهم ووحدتهم وتفانيهم في النضال من اجل الحصول على مطاليبهم المشروعة>

كان عمال المطابع يرددون بعض كلمات الاستهجان لخطاب العرش ، وهم يعانقون نور الشمس أول مرة في حياتهم ويداعبون خيوطها في وضع الظهيرة ، بعد ان تركوا جميعا دياجير الظلام التي تقبع بها مطابعهم في تلك السراديب المعتمة ذات الرائحة المتعفنة التي تنبعث من الجدران الرطبة ، معلنين اضرابهم التام والشامل ،فقد لازم معظمهم دور سكناهم ونظم فريق اخر منهم سفرات جماعية حشدوا فيها بعضا من الذين يخشىمن تعاونهم مع السلطة البائدة ، وقد بذلت اجهزة القمع السعيدية ، ولاسيما الشرطة الجنائية كل ما في وسعها لكسر الاضراب ملاحقة عمال المطابع والصحفيين التقدميين ، مستعينة ببعض اصحاب المطابع وبعض العاملين باللزمة فيها ، ولكن كل تلك الجهود ذهبت هدراً .

ولما كانت وسائل الارهاب لم تجد نفعا ، وخشية ان يستمر الاضراب وتتعمق ازمة السلطة ، وتتعالى اصوات النقد والاستنكار لمظاهر الاحتلال البريطاني الجديد، طلب وزير الشؤون الاجتماعية احمد مختار بابان من الاستاذ مصطفى جواد الذي كان يشغل منصب ملاحظ العمل في الوزارة والاستاذ هاشم جواد مميز العمال (التوسط لدى العمال المضربين) من خلال لجنة الاضراب ، وبالفعل فما كادت شمس تشرين تنحسر خلف الافق حتى كان لفيف من العمال على موعد مع الوزير الذي استقبلهم بكلمات الترحاب .

ومع هذا فلم تصدر في صبيحة اليوم التالي سوى صحيفة واحدة عمد عمال المطابع على اخراجها بصفحة واحدة تأييدا لاضرابهم فنشرت تلك الصحيفة خبر الاضراب في المكان المخصص لافتتاحيتها تحت عنوان بارز ، هو (اضراب عمال المطابع) الذي جاء فيه :-

(اضرب امس عمال المطابع لتاييد مطاليبهم المتضمنة زيادة اجورهم بمناسبة غلاء المعيشة وتحديد ساعات العمل اليومي بثماني ساعات ودفع اجور اضافية اذا زادت مدة العمل على ذلك ، وهذه مطاليب مشروعة سبق لمطبعة الاهالي ان قبلت بها تجاه عمالها ، ونأمل ان تقبل بها سائر المطابع). وهكذا خاض عمال المطابع اول اضراب في تاريخ الصحافة والطباعة في العراق ، وكان ذلك يوما مشهوداً حقا في تاريخ الحركة العمالية ايقظ الشعب الذي تنبه معجبا ومتعاطفا مع هذه الشريحة العمالية التي صنعت شيئا لم تصنعه فئة من العمال بمفردها،في ذلك الوقت المتأزم وتلك الاونة المصيرية .

وكان للتماسك الاخوي الرائع لعمال المطابع اثر كبير في توجيه تلك الضربة الفولاذية التي اذهلت السلطة البائدة واصحاب المطابع وجعلتهم يلبون مطاليب العمال المضربين بعد اضراب دام يوما واحدا فقط ، بحيث كان من شروط العودة الى العمل مطلب جديد له دلالته هو عدم استقطاع اجرة العمال عن يوم الاضراب او اعتباره اجازة اعتيادية بل اصرواعلى ان يكون يوم عمل باجر تام فاستجيب لهذا المطلب ايضا ، وعاد العمال الى اعمالهم في صبيحة اليوم التالي فرحين مستبشرين بالنصر الذي حققوه .