من مذكرات  الدكتور كمال السامرائي مع المصور جان صاحب استوديو (بابل) وزوجته

من مذكرات الدكتور كمال السامرائي مع المصور جان صاحب استوديو (بابل) وزوجته

في صباح يوم 14 تموز 1993 كلمتني سيدة تلفونيا تقول :

ــ انا يا دكتور كمال زوجة المصور ( جان ) صاحب استوديو بابل للتصوير ، وهو يحتاج الى عملية لرفع حصى من كيس مرارته ، وقد عرفنا من الدكتور معد سلمان انكم كنتم مصابين بمثل حالته وعالجتموها في الاردن ، فحبذا لو سمحتم ان نعرف منكم تفاصيل هذه العملية .

فأجبتها :

ــ انا مستعد للاجابة عن كل إستعلام تطلبونه مني بهذا الموضوع .

ــ هل من الممكن ان تشرفوا بيتنا اذا كنتم تتضايقون من زيارتنا لبيتكم ؟

ــ على العكس يا مدام ، انه اكثر راحة لي لو تشرفون بيتي ، وانا في الحقيقة لا أستطيع سياقة سيارتي الى بيتكم حتى لو كان قريبا من بيتي .

فقالت :

ــ يشرفنا ان نزوركم ، ولكن متى ان سمحتم لنا بالزيارة ؟

فقلت لها :

ــ متى تشائين يا مدام ، فانا في اكثر ايام الاسبوع في بيتي .

فقالت لي :

ــ هذا اليوم مثلا ؟

ــ نعم في هذا اليوم وبكل سرور ، فهل تعرفون عنوان بيتي ؟

ــ عرفناه من الدكتور معد ، وهو صديق زوجي .

وشكرتني واغلقت المخابرة . ولم يصعب علي ان اقدر من نطق هذه السيدة عمرها بشكل تقريبي ، فهي في تقديري في الاربعين سنة ، كما عرفت من لهجتها انها ارمنية نبيهة باحتمال كبير. وكنت اسمع باستوديو بابل ، ولكني لم ار المصور جان وقدرت انه لابد ان يكون بعمر يقارب عمري .

وفي تمام الساعة الحادية عشر رنّ جرس باب بيتي ، ولم اكن في انتظار احد ليزورني في هذ الوقت سوى السيدة التي كلمتني تلفونيا . فتحت باب بيتي فأذا هي عليه ورجل يكبرها عمرا بكثير ، فاستقبلتهما بترحاب فيه قدر من التساؤل عن هوية هذا الرجل الذي كان اكبر من ان يكون زوجها ، فهل أخطأت حين كلمتني تلفونيا ،أم ان هذا الرجل هو ابوها ، او هو غير زوجها أقلا . فقد كان أشيبا يتجاوز عمره الثمانين ، بطيء الحركة ، ولكنه كان ألمعيا وذو جاه غابر وعز زائل ، لمسته من أدبه الجم وحسن تصرفه مع المرأة التي تصحبه ، ولاحظت يقرب رأسه مني حين أتكلم وهو يصيخ اليّ ، فعرفت انه ضعيف السمع .وبادرت تلك االسيدة بعد قليل تقول :

ــ جئناك يادكتور لنستعلم منك عن امور طبية كثيرة ، أبدأها بالاول وهو الذي يخص زوجي ( ومدت يدها تشير الى الرجل الذي يصحبها ) لنعرف منكم ما يلزمنا لأجراء عملية رفع كيس المرارة في عمان .

فقلت لنفسي باستغراب ، اذن هذا الرجل هو زوجها ، ولا أظنها أدركت استغرابي . وشرعت اطيل النظر الى وجهها حينذاك ، فاذا هو اكثر اشراقا بسمات الشباب مما رأيته في أول المقابلة ، وقد يكون ذلك حين وقفت على الفرق بين عمرها وعمر هذا الرجل الذي يصحبها . وهكذا تفعل المقارنة بين الأضداد ، فتضاعف في إظهار الفروق في ما بين طرفي المقارنة ، وداومت المدام تقول :

ــ مسيو جان يشكو منذ سنتين من آلام مبرحة من حصى في كيس مرارته ، وهو يرغب ان يعالج حالته في عمان . اقصد بلا عملية شق وخياطة .

فقلت لها :

ــ نعم ،هذا هو ما أقصده ، بعملية الناظور .

ثم سألتني :

ــ أليس في بغداد من يمارس هذه الطريقة ؟

فأجبتها :

ــ ان هذه الطريقة لم تمارس بعد في بغداد .

ثم استطردت تقول :

ــ لعلمك يا دكتور ان مسيو جان مصاب بضغط الدم ، كما اصيب مرتين بالذبحة القلبية ، كذلك أجريت له عمليتان في البروستات .

وكان مسيو جان يراقب زوجته وهي تتكلم ، ويهز رأسه احيانا يؤيد ما تقوله لي .

قلت لها :

ــ لا أظن الجراح الاردني يشرع بالعملية قبل ان يستعلم ما في تاريخ مسيو جان من حالات مرضية ، وقبل إجراء العملية بعض الفحوص السريرية والمختبرية لضمان نجاح العملية باالقدر الذي يستطيعه .

ثم سألتني :

ــ وما هي درجة الخطورة في هذه العملية ؟

فأجبتها :

ــ في كل عملية جراحية خطورة بدرجة ما ، وعملية رفع كيس المرار بالناظور بأي حال لا خطورة فيها بقدر ما في عملية الشق التقليدية .

ثم نطق مسيو جان وقال كالمعترض :

ــ ان ( فرانكو ) بأسبانيا اجريت له عملية رفع المرار وهو بعمر الثمانين .

واعرف ان فرانكو توفي في أيام هذه العملية وباحتمال كبير كان مسيو جان يعرف ذلك ، ولكنه أغفل ذكره ليدعم نفسيته على إجراء العملية ، اما انا فقلت له :

ــ ان عملية فرانكو لم تكن بالناظور بل بالطريقة التقليدية .

وكنت أشير بذلك الى انه ان لم يكن يعرف ان فرانكو قد توفي بسبب العملية فأنه قد لا يموت لو أن عمليته كانت بالناظور .

وسألتني زوجة مسيو جان :

ــ وكم تكلف هذه العملية في الاردن ؟

فأجبتها :

ــ لست متأكدا من ذلك ، وقد تكون كلفة العملية وحدها الف دينار اردني .

فقالت ، وهي توجه كلامها لزوجها :

ــ العملية وأجور المستشفى والأقامة قد تكلف مليون دينار عراقي .

ورأيت مسيو جان بما يبدو عليه الرضى والقبول بدفع هذا المبلغ الضخم .

وبعد سكوت لم يطل كثيرا قالت :

ــ نأتي الى موضوعي يا دكتور ، نحن تزوجنا قبل خمسة أشهر ، وانا الآن بعمر الواحد والأربعين ، واتشوق كثيرا ان انجب لمسيو جان .

فقلت لها مجاملا :

ــ انا قدرتك بسن الاربعين ، وخطأي في هذا التقدير يسير .

ــ لا غرابة فأنك طبيب نسائي ، ومسيو جان بضعف عمري ولو عرفت حقيقة شخصيته وعظمته في فن التصوير لما أستغربت مني ان أتزوجه .. توفيت زوجته الاولى قبل ثلاث سنوات ، وانا اعمل في محله بالتصوير منذ سنوات ، اعني قبل وفاة زوجته ، وعرفته في خلال ذلك معرفة موثقة لما أستغربت من زواجي منه ، وليس من المروءة ان لا يكون له خلفا يحمل أسمه .

فسألتها :

ــ ألم يتزوج قبلا .

ــ بلا ، وله بنتان ، وقد تزوجتا ، فهما الآن مع اهل زوجيهما واولادهما من صلبهما لا من صلبه .

ــ هذا صحيح الى حد كبير .

وأستمرت زوجته تقول :

ــ اردت بعد تفكير طويل ان ازيح عنه كابوس الترمل ، وانا الذي حرضته بطريقتي الخاصة ان يطلبني الى الزواج منه ، فالزوجة هي الوحيدة التي تستطيع مداراة وسياسة زوجها ولا غيرها من بناته او اي من اهل بيته ، فتزوجنا برغبة متعادلة من كلينا ، وانا الآن سعيدة بحياتي معه ، واكونا كثر سعادة لو اعرف ما يسعده اكثر فاكثر .

وعدت بعد الذي سمعته من زوجته انظر الى وجهها مجددا ، فلم ار فيه ولا في جسمها الا ما يحبه الرجل في المرأة ، فسحنتها ملساء ، وبضة ، وعيونها جهراء ناطقة ، كما لم تبدو لي انها قاست يوما ما من ضنى او وجد فاشل ، فأعجبت بها اي اعجاب ورأيتها المرأة التي تستحق ان تكون زوجة فيسعد بها رجل من شقاة العالمين .

ونبهني زوجها يسألني :

ــ تعرف بهجت الأثري ؟

وأستغربت من هذا السؤال ، فأي منهما في عالم غيرعالم الآخر !

من كتاب ( حديث الثمانين ــ سيرة وذكريات ) الجزء الرابع