من ذكرياتي الأدبية في دار المعلمين الأبتدائية

من ذكرياتي الأدبية في دار المعلمين الأبتدائية

مهدي شاكر العبيدي

من عادة الأستاذ جمال الدين الآلوسي يوم كان مدرساً بدار المعلمين الابتدائية في الأعظمية أن يستفهم من طلابه عن المدن التي توافدوا منها لغرض التحصيل الدراسي في هذا المعهد العتيد الذي يعدهم للانخراط في سلك التعليم، رغبة منه في توثيق الصلة والألفة بينه وبينهم،

وبغية ابتعاث شعور معين في نفوسهم بكونهم موضع رعاية وتقدير من يحترم مشاعرهم ويمحضهم ثقته أن يكونوا بالحق رجال المستقبل وصناع مجد هذه الأمة لأنهم بالأساس حرب على الجهل والتخلف، واذكر انه كان وقتذاك، والعام عام 1950م، أكبر أساتذة المعهد سناً، فكان الطلاب بمحض طواعيتهم وتلقائيتهم يولونه احتراماً خاصاً، أما مَنْ يكتشف عندهم اهتماماً باللغة العربية وآدابها، وإلماماً مناسباً بالضروري من قواعدها ليعول عليه في القراءة الصحيحة المجانبة للوقوع في خطأ نحوي أو صرفي، فأولاء الطلاب المجلون لهم مكان متميز في نفس الأستاذ قوامه المحبة والثقة والاعتزاز، وقد حصل ذات يوم أن استجبت لطلبه بصدد إعراب جملة فأوفيت بالإجابة على الدقة والتمام من تحديد المبني والمعرب من المفردات وحال البناء ونوع الإعراب لكل منها على شاكلة حظيت بإعجابه ورضاه وقناعته بأن جهوده وأتعابه لن تذهب سدى وتضيع هباءً، إنما هناك من بين الطلبة من يوليه حسن الإصغاء والانتباه واستجماع حواسه وملكاته لاستساغه ما يلقي أو يملي من موضوعات ويفصل حولها، ولأمر لا أفقه كنهه يومها ابتدرني هذا الأستاذ الفاضل بالسؤال : أتحفظ يا بني شعراً لشاعر بلدتكم المرحوم السيد محمد رضا الخطيب؟ فأجبت على الفور وبدون استغراب من معرفة الآلوسي بالخطيب الذي رحل عن هذه الدنيا عام 1946م أي قبل أربعة أعوام من ذلك التاريخ الذي أطالب إبانه بأن أتلوَ مقاطع من شعره، وكنت أحسبه غير موسع عليه بالشهرة أو أنه لم يخص الصحافة بقصائده، وأنه لايعدو أن يكون من شعراء المناسبات، ولم تعهد عنه مواقف محددة من شؤون الساعة وماجريات الأحوال وصلات المحكومين بحكامهم خلال السنوات التي عاشها متصدياً للخطابة من فوق المنابر ومعولاً عليها في التقوت واكتساب الرزق الحلال : بلى أحفظ أبياتاً من قصيدة في هجاء طبيب لم يضطلع برسالته كما يجب من الإسراع لنجدة مرضاه والتهوين من آلامهم وأوصابهم ، وإبداء البشر والتبسط حيالهم من غير إظهار الازدراء والاستعلاء أو اصطناع الوقار والرزانة الكاذبة بإزاء ذويهم في نفس الوقت:

فكرْ لنفسك أيها الدكتور

إنْ كان ينفع قاسياً تفكير

قلب الغني تعيره سماعةً

وتصم أذنك إنْ أتاك فقير

تا الله إنَّ شهادة طبيَّة

صدرَتْ بحقك كلها تزوير

قد قيد الدستور كل موظف

وعن الطبيب تقيد الدستور

ورغم أن هذه الأبيات لاترقى إلى الأداء الفني المقبول أو تكتنز بما يهز الوجدان ويهيج الشعور فقد وجدت الآلوسي يعيرها سمعه وإصغاءه في حال من تعاوده الذكريات ويسترجع في ذهنه حوادث منطوية، ودخلني ما يشبه الاعتقاد بوجود صلة ما بينه وبين الشاعر الراحل، وكنت أسمع في ذلك الحين أن الآلوسي معدود من بين مريدي الشاعر الخالد معروف الرصافي وحضّار مجالسه ومحاوراته التي يسترسل عبرها بالإعراب عن آرائه وانطباعاته حول شؤون الحكم وتصرفات الساسة فضلاً عن خطراته السديدة بإزاء قضايا الفكر والفلسفة والدين واللغة وآدابها، وأنه أحد ثلاثة ألفوا حول الرصافي حلقة تحوطه بالاحترام والتوقير في أعقاب عودته من فلسطين بعد قيام الحكم الأهلي في العراق، والصنوان الباقيان هما المرحومان سعد صالح الذي عمت شهرته بين الناس كسياسي متجرد من الريب والأهواء، أو متصرف (محافظ اليوم) نزيه، أو وزير داخلية خلال بضعة شهور غادرها مبرأً من كل عيب أو شبهة في التفريط بمصلحة الوطن والشعب، ولم يعرفوا عنه شاعراً مقلاً أسهم بشعره في الثورة العراقية الكبرى على المحتلين الانكليز، وأنه نظم كثيراً من الأناشيد الوطنية التي تغنى بها تلامذة المدارس في امس البعيد، ومصطفى علي الأديب الكبير ووزير العدل الأسبق، وربما كان الآلوسي أميل من صديقيه إلى المحافظة ولانقول كراهة التجديد، فإن الصلة بين أولاء الثلاثة قوامها الوفاء والتواصل في الظروف الصعبة ولم ينفرط عقدها إلا بعد أن اختار الله لجواره سعداً في عام 1949م ومصطفى علي قبل سنوات قليلة بعد أن قطع أشواطاً من عمره منافحاً عن الرصافي وراداً عنه ما امتحن به من افتئات وكيد حياً وميتاً .

ويقع بين أيدينا بعد هذا التاريخ بسنوات كتاب ( أدب الرصافي ) الذي يتضمن مجموعة الردود التي كتبها مصطفى علي لدحض ما حسبه مفتريات ومطاعن حفل بها كتاب أصدره الأديب المصري بدوي أحمد طبانة إبان فترة انتدابه للتدريس بدار المعلمين العالية بعيد وفاة الرصافي وقدم لـه العلامة الشيخ محمد رضا الشبيبي، لتعريف القراء بالحقائق والوقائع الصحيحة التي رافقت حياته واتصلت بسيرته وجهاده وشعره بسبب وآخر، وفي الرد الختامي منها تتكشف ثمة صلة قوية بين الرصافي وبين الشاعر محمد رضا الخطيب وذلك في معرض التدليل على إقلال الرصافي من استهلاله قصائده بالبكاء على الأ طلال والرسوم، ومن هذا النمط قصيدته التي مدح به العالم المشهور محمد القزويني المتوفى أيام الحرب العظمى، وكان قد نسيها أو لم يحتفظ بنسخة منها بين أوراقه حتى وافاه بها محمد رضا الخطيب مع قصيدة للأخير يباري بها قصيدة الرصافي ملتزماً بنفس الروي المكسور ومطلعها :

هي ذي الديار وذي جآذر حيها

فأقم بها لوث الأزار وحيها

وفيها يقول للرصافي :

لك في القريض مواقف مشهودة

في الشرق هزّ الغرب صوت دويها

وسياسة كفكفت من غلوائها

وجعلت علياها على سفليها

وكأنني بك قد رفضت بأن ترى

متربعاً يوماً على كرسيها

ولو أنها قد أنصفتك لاصبحت

ولك التصدر في رفيع نديها

لله درك كم بذلت نصائحاً

للعرب تهديها صراط سويها

ويستطرد الأستاذ مصطفى علي بعد ذكر الأبيات السابقة إلى القول : « لما أبطأ عليه في الجواب، وكان الرصافي قد انتخب نائباً عن العمارة في مجلس النواب عام 1930م، أرسل قصيدة ثانية مع المرحوم رؤوف الجوهر نائب الحلة مطلعها:

ألهاك كرسي النيابة

عن ردٍ منتظر جوابه

فأجابه الرصافي بقصيدته ( إلى محمد الرضا) وفيها يشير إلى قصيدته الأولى التي ذكرته بالزمان الماضي ومراسلته القزويني :

إني لأشكر من محمد الرضا

شعراً ذكرت به زماناً قد مضى

وقد قدر لي أن أشهد حفل تأبين هذا الشاعر المنسي بقصبة الهندية بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته في يوم من شهر شباط عام 1946م واستمعت صغيراً إلى كلمات وقصائد في تعداد مزاياه وخصاله على جاري العادة وما يرادف ذلك بطبيعة الحال من إظهار الجزع واللوعة والأسى جراء فقده، وتعليل النفس بعدها أن الموت حتم لامنجىً منه ولا من فرار، وأن لابد من استئناف الحياة والنهوض بتبعاتنا نحوها، كان من خطباء الحفل ذاك- على ما أذكر- الشعراء الراحل عبد الحسين الملا أحمد وخالد عبد القادر وعند المنعم العجيل ومن أصحاب الكلمات جمال مهدي الهنداوي والمرحوم الشيخ محسن أبو الحب .