في ذكرى رحيله..حضيري ابو عزيز  في حياته الخاصة

في ذكرى رحيله..حضيري ابو عزيز في حياته الخاصة

ثامر العامري

هناك سمة اساسية تميز المطرب حضيري عن المطربين الاخرين الريفيين ذلك ان المطربين الريفيين القدامى لم يتفاعلوا مع معاناة الشعب واقتصرت مواضيعهم على الحب والغرام ولنعد الى المطرب حضيري الانسان الذي نشأ امياً الا انه تمكن بقوة الحافظة ان يربط اطواره بانغامها وان يحاول جاهداً التعرف على هذه الانغام حتى تمكن من احتوائها.

وهذه سمة ميزت حضيري على المطربين الذين عاصروه وحتى اغلب المطربين الريفيين المعاصرين اما السمة الثانية التي ميزت حضيري عن سواه فهي سمة نظمه للشعر وبهذا يكاد يكون المطرب حضيري متميزاً بها على من سواه اذا ما استثنينا المطرب عبد الامير الطويرجاوي ، وبين ايدينا الكثير من تراث حضيري الغنائي الذي هو خير مؤشر يوضح لنا قابلية حضيري الشعرية، هذه القابلية التي ميزت كثيراً من مطربي العرب وفي مقدمتهم الموسيقار فريد الاطرش.

اما السمة الثالثة: فهي حسن اختيار حضيري ابو عزيز للمواضيع الاجتماعية التي تعبر عن روح الجماعة وتعالج قضايا الساعة.. وتكاد تكون مترجمة للسمة الثانية وهي نظمه للشعر، مثال ذلك اغان (يابو بشت بيش بلشت) و(شيريد مني المختار) و (عمي يابو التموين) و(فوك فوك على الرصيف) وان هذه الاغاني قد عالجت مشاكل اجتماعية كان يعانيها الشعب ترجمها المطرب حضيري ويكاد يكون منفرداً فيها ليس بين المطربين الريفيين العراقيين بل وحتى المطربين الشعبيين في الوطن العربي.

اما السمة الرابعة: والتي لم يسلكها مطرب ريفي من قبله ومن بعده فهي سمة التلحين والتي تأتي مترجمة للسمة الاولى عند حضيري وهي سمة معرفة الانغام. فلو لم يكن حضيري ملماً بالانغام التي تسجل عليها الاطوار الريفية لما تمكن من تلحين اغانيه ولذلك نجده لاينشز عند قراءاته لوصلة غنائية اذ تتطابق البستة عنده مع نغم طور الابوذية.

المطرب الكبير حضيري بن حسن بن رهيف بن غالي بن شلول بن ديوان الصرخبي من عشيرة العبوده الموجودة في مدينة الشطرة وضواحيها، حضيري ابو عزيز مطرب يكاد يكون طرازاً خاصاً ومدرسة مستقلة متعددة الفصول في كل فصل منها مقاعد لمختلف ضروب الفن والادب الشعبي هذه المدرسة كانت وما زالت وستبقى اساساً لرواد الغناء يدرسون فيه مختلف الاطوار واساليب ادائها ومواقع الضعف والقوة والاثارة فيها تماماً كدراستهم لانسان عصامي انجبته محافظة ذي قار يتيماً في احدى قراها يعيش مع عمته بعد فقد والده في حادثة رويت بأنها نمط من انماط الصراع بين ابناء المنطقة والمستعمرين الغزاة، فقد قتل والده بعد ان تصدى الى احدى سفن المستعمرين العثمانيين والتي كانت تسير في نهر الفرات مرورا بمدن وقرى المنطقة لاخذ الضرائب من ابناء الشعب، وبعد ان اختير للتصدي لها قتل على اثر المناوشة التي جرت آنذاك وتجلى حقد هذا المستعمر عليه اذ فصل راسه عن جسده اما اخوه بغدادي فكان في بطن امه الامر الذي حدا بعمته «نورة» ان تتكفل رعاية حضيري فنشأ في الريف معها..

ولد المطرب ابو عزيز في مدينة الشطرة من اقضية محافظة ذي قار منتسباً الى عشيرة العبودة التي تعتبر من اوسع العشائر انتشاراً في المنطقة ومن فخذ (الصراخبة) المعروف بين افخاذها وبعد مقتل والده تبنته عمته حيث نشأ في ريف الشطرة الجميل وبرز منذ نعومة اظفاره مغنياً. ولعله تأثر بما كانت عمته تنعى اخاها والد حضيري بعد مقتله على الطريقة المعروفة في رثاء النساء والذي يتميز بترنيمات اثرت في نفس حضيري الذي خصته الطبيعة بحنجرة متميزة صوتاً ونقاءً فأخذ يترنم وهو يرعى الماشية العائدة لعمته والتي كانت تعتاش منها، وفي اثناء رعايته كان يغني بينه وبين نفسه خلسة حتى ان والدته وعمته روتا بأنهما سمعا حضيري لوحده ولا ينهانه باعتباره كان يخجل منهما اثناء الغناء.. ولكن ذلك لم يطل كثيراً حتى عرفته بنات السلف وهو يجلس عند استسقائهن الماء من النهر حيث كان مكان اختلاء حضيري لنفسه على صفاء الجو وخرير المياه يغني بصوته العذب اجمل الاغاني المعروفة حينذاك، ويتغنى بها مضيفاً عليها طرقاً جديدة ليظهرها جميلة كجمال الطبيعة التي كان يعيشها فما كان الا ان انتشر خبره بين ابناء الريف واصبح حقا بلبل الريف كما لقبوه حينذاك يتصارع الفلاحون على الاستئثار به في تلك المنطقة حتى كانوا يتنافسون في اغرائه لاخذ مواشيه الى مزروعاتهم لتأكل ماتشاء وتترك وقتاً اكثر لكي يجتمعوا الى هذا الصبي ذي الصوت الجميل يشنف اسماعهم ويطربهم، وهكذا ذاع صيته في مناطق الريف المجاورة حتى اصبح مكان رعيه للمواشي اشبه بمنتدى للغناء يجتمع اليه الكثير من ابناء المنطقة للاستماع لغنائه الجميل.

لم يؤثر ما اصاب حضيري ابو عزيز من يتم على حياته المعيشية فقد كانت رعاية عمته له عوضاً كبيراً عن رعاية ابيه فضلاً عن انه يسكن بجانب اعمامه واخواله والذين كانوا يعرفون ظروف مقتل ابيه.. فيعزونه ويكرمونه وفاءً لما قام به ابوه من بطولة وشهامة.. وقد روي بأنه استحوذ على قلوب الناس غناء وهو ابن الرابعة من عمره وهذه ميزة جعلته يسكن في احاسيس ومشاعر ابناء منطقته بقدر ما كان ساكناً في قلوبهم وعيونهم والتي كانت ترى فيه صورة والده الشهيد ومن هنا كانت حياته غير عسيرة بالشكل الذي عاش فيه اغلب الفنانين، فقد استفاد من فنه منذ طفولته وحتى نهايتها ـ وبعد ان ازدادت شهرته وانتشرت في الريف تعرف على المطرب داخل حسن الذي كان يعمل بالعمل نفسه. رعاية المواشي ، وفي احدى القرى المجاورة لقريته ، وكثيرا ما اسهم الاثنان مشتركين في الغناء في تلك المنطقة وقبل ان يفكرا باللقاء الفني على مستوى شركات التسجيل او الاذاعة ، ولذلك تكاد تكون علاقة حضيري بداخل علاقة صميمية زادتها ترابطا علاقة العشيرتين عشيرة حضيري الصراخبة وعشيرة داخل آل الغزي المتجاورتين في ارياف الشطرة.

اوضحنا مقدماً بأن حضيري ابو عزيز اصيب بنكبة اليتم في طفولته وبشكل بشع لما اقترن به من عمل اجرامي ولعل حنان اسرته وفي مقدمتهم امه وعمته على هذا الطفل قد خفف عنه بعض اثار نكبته في اليتم فعاش عيشة راضية في طفولته بالرغم من المعاناة التي كان يحياها يومياً وحرمانه من الدراسة ولولا مؤهله الصوتي الغنائي لكان حضيري في عداد المجهولين من الفقراء المعدمين انذاك ، ولكن هذه الموهبة قربته من الناس كثيراً ورفهت عنه بعض الشيء في حياته العملية الاولى «رعاية الماشية» وأهلته لدخول الحياة فناناً موهوباً، ولكن (حضيري) ما كان يرى بفنه الا موهبة ترفه عنه ولذلك كان يحاول بشتى السبل ايجاد عمل له يجعله متكلاً في حياته المعيشية، اما حبه لفنه ولوجود هذه الموهبة لديه فما كانت عنده الا هواية يرفه بها عن نفسه ومحبيه فتشبث بكافة السبل لكي يجد عملاً ودليلنا على ذلك واضح في قبوله الانخراط في مسلك الشرطة لكي يعيش من تعبه غير معتمد على موهبته.

عن كتاب (حضيري ابو عزيز)