عقيل مهدي يغني

عقيل مهدي يغني

علي حسين

وجه هادئ ذو عينين تلاحق تفاصيل الحياة ، وعقل مليء بالرؤى وإبتسامة تشيع الطيبة أينما حل .. يرى الحياة من خلال مسرح تتجول شخصياتها في ذاكرة المشاهدين ، "يوسف العاني .. جواد سليم .. علي الوردي .. حقي الشبلي .. الجواهري" رموز عراقية تحولت على يديه الى مسرحيات امتزجت فيها تراجيديا الحياة مع كوميديا المواقف التي غلفها بشجن عراقي .. فنان تستفزه الكلمة فيقرر ان يحولها الى صور متناثرة على الخشبة ..

المسرح بالنسبة إليه مساحة لاشاعة الفرح والمعرفة . ففي مسرحياته يتشابك الواقع مع الخيال .. يفهم المسرح على انه تصوير لمشاعر الإنسان وترجمة لفترات العناد والدهشة.. فنان مهووس بالكلمات التي تنساب من بين أصابعه حرة عفوية..قبل زمن.. التقيت عقيل مهدي للمرة الاولى في واحدة من مقاهي بغداد .. واتذكر انها كانت مقهى ام كلثوم ، فقد احببنا نحن الاثنين اسطورة الغناء العربي ، أحببنا أغانيها. وكنا نحضر كل يوم نترقب أصابع عبد المعين الموصلي وهو يداعب الاسطوانات ، لينطلق صوت السيدة وهو ينادينا :» هات عينيك تسحر في دنيتهم عنيه « . كنت اجلس الى جانب عقيل مهدي وهو يتفحص جلاس المقهى ليلتقط بعدسته « الناقدة « حركات الزبائن ، وأراه في كل مرة يشير الى احدهم :» انظر هذا سنضيفه الى جمعية الكشكشية « ، وهو مصطلح اطلقه عقيل على صنف من الزبائن .. في ذلك الوقت كنت انشر حلقات من كتابي عن فنان الشعب يوسف العاني ، وكنا انا وعقيل وبعض الاصدقاء نتحاور حول مسرحيات العاني وهل لاتزال تمارس تاثيرا على جمهور المسرح .. وفي وسط المدارس التجريبية وشكسبير صلاح القصب وجان جينيه سامي عبد الحميد ولعبة فاضل خليل وتحضيرات حميد محمد جواد لاطلاق نسخته المسرحية من الأخوة كارامازوف ، وحوارات ابراهيم جلال وقاسم محمد حول الملاحم الشعبية ، وبرشت الذي اراد له عوني كرومي ان يكون عراقيا ، في ذلك الجو المليء بالتجارب الذهبية والحماس لثقافة وطنية ، قرر عقيل مهدي ان يقدم يوسف العاني على المسرح ، ولم تكن التجربة تتعلق بتقديم احدى مسرحيات الكاتب الكبير ، وانما باعادة حكاية يوسف العاني مع المسرح من خلال مسرحية بعنوان « يوسف العاني يغني « والتي كانت واحدة من أبرز تجارب مسرح الفرجة في العراق ، وهو المسرح الذي لا يزال عقيل مهدي المخرج المسرحي يسعى اليه حيث يقدم من خلاله مسرحيات تمزج بين الاداء التمثيلي والغناء والسرد المحكي والحوار المطعم بالايحاء الفكري ، واللجوء الى التشخيص وكسر الايهام عبر الايحاء الى المتفرج ان ما يشاهده مجرد حكاية ممثلة ، بما يجعل المشاهد جزءا من اللعبة المسرحية .. في ذلك الوقت نشرت دراسة موسعة عن مسرح يوسف ادريس الكاتب القصصي المعروف ومفهومه لمسرح الفرجة .

كان يوسف ادريس قد اصدر كتابا بعنوان « نحو مسرح عربي « ضم مجموعة من مسرحياته اشهرها الفرافير مع دراسة حول البحث عن شخصية مسرحية عربية خالصة .. مهمتها اشراك الجمهور في اللعبة المسرحية ، آنذاك تحاورنا انا وعقيل مهدي حول رؤية يوسف ادريس هذه ، وكانت وجهة نظر عقيل ان مسرح الفرجة يجب ان لا يركز على الشكل فقط وانما يعتمد ايضا على النص الذي يسلط الضوء على الكثير مما يدور في الواقع ، مستفيدا من دراسته لمنهج الواقعية الاشتراكية في المسرح.. فيوسف العاني الناقد للمجتمع هو البطل لملهاة عقيل مهدي المسرحية التي كانت اشبه باحتفال مسرحي زاخر بالتهكم ولا يخلو من صور فكرية وفنية .

في محاوراتي الكثيرة مع الصديق عقيل مهدي كنت ارى نفسي امام إنسان يحيا بأحلام رجل مسرح وهذه الأحلام هي علامة البداية لما يريد ان يقوله عقيل مهدي على خشبة المسرح .. فهي ترسم له الطريق التي يسير عليها .. ولهذا نجد عقيل مهدي كائن لا طعم له ولا رائحة ولا لون بدون المسرح وحكاياته ، حيث تمثل الخشبة بالنسبة له المكان الذي يطلق من فوقها حكاياته ونرى حقي الشبلي يحاور السياب وجواد سليم يحاور علي الوردي والجواهري ينظر الى كلكامش ، وعلى هذه الخشبة يقدم نماذج تحرض المشاهد على على التوهج وبلوغ الحقيقة ..

ماذا يريد عقيل مهدي من المسرح ؟

لا يريد سوى مسرحا مختلفاً .. مسرحا بلا غايات آنية فإذا تحول المسرح الى منبر دعاية فقد وظيفته الحقيقية .. المسرح بالنسبة له مدعاة للتفكير والفرح ، يعيش من خلاله عقيل مهدي الكاتب والمخرج صراعاً دائماً مع العالم الذي تستدعيه مخيلته .. مسرحاً حيوياً يستطيع المتفرج ان يسمع منه اصوات الحياة نفسها! مسرحا يقدم التفاصيل الصغيرة التي تمنحنا الأفكار مثلما تمنحنا المتعة، مسرحاً يقدم لنا الجمال ورائحة الحياة والأحلام والأفكار.هذا اذن هو عقيل مهدي صديقي المهووس بقضايا الناس أيا كانت درجة اتفاقنا واختلافنا مع المنهج والزاوية التي يقترب بها من هموم الناس . ولم يكن عجيبا ان يطرح عقيل مهدي في معظم أعماله فكرتين حاكمتين لإبداعه .. الأولى هي الآلية التي تربط المشاهد والقائمة على فكرة الخيال الذي يخترق المألوف وهو حين يحققه يستحيل حالة من حالات الاشتراك في الخلق والتركيب.. والثانية هي فكرة الفرجة التي تأخذ أشكالاً مختلفة في كل عمل مسرحي يقدمه . هل استطعت ان اقدم صورة واضحة لصديقي عقيل مهدي ؟ .. ربما من الصعب على اسطر قليلة كهذه ان أقدم من خلالها صورة لمخرج يعد واحدا من ابرز مخرجي المسرح العراقي في العقود الاربعة الاخيرة من تاريخ هذا المسرح .. لكنها ذكريات خطرت ببالي ونحن نعد هذا الملف الاحتفالي لفنان شكل جزء من ذاكرتنا المسرحية . ذكريات مع صديق يعشق الحياة مثلما يعشق المسرح وما زال يأمل أن يجد على خشبة المسرح فسحة لأحلامه المؤجلة ، أحلام جيل اكتوى بنار الموهبة وعرف أنّ الفن الذي لا يصدر عن العقل ويخترق القلب وينظّم حركة الإنسان في حياته ويثقّف وجدانه ويغيّر في تكوينه النفسي.. ويشكّل حركة الحياة ليس بالفن.. مسرح يتغنى بالحياة ، كان فيها عقيل مهدي ولا يزال هو البطل في الإخراج وفي التمثيل، ترافقه كتباً ودراسات ومقالات كان فيها جميعا يُظهر دوره كناقد ومعلم يؤمن بان الصدق الفني هو روح المسرح وكما هو روح الابداع . عقيل مهدي ذواقه من الطراز” الخاص “ للحياة بشكل عام والمسرح بشكل خاص.