عقيل مهدي يوسف.. من الهواية إلى الإحتراف الأكاديمي

عقيل مهدي يوسف.. من الهواية إلى الإحتراف الأكاديمي

كافي لازم

ينهض مبكرا بعمره السبعيني راجلاً نحو جسر الشهداء يتأمل دجلة الخير باعثا برسائله اليومية عبر مجرى النهر الى مدينته ومنبعه الاصيل مدينة واسط . وما ان يطأ قدمه تواً في سوق السراي وشارع المتنبي فأذا بجمهرة الكتبيين والمثقفين والفنانين والعمال والشغيلة يتسابقون بالتحية عليه من كل حدب وصوب بما فيهم بائعي النايات المنتشرين كذلك بائعي العصائر .

وهو اذ يكون منتشياً يعرج الى احد ازقة المتنبي لكي يتابع طبع كتابه الجديد في احد المطابع . كل هذا وذاك لايستطيع التخلص من الفضائيات المنتشرة للادلاء بحديث عن الواقع الثقافي والادبي والفني في البلاد . والحقيقة والواقع لاتستطيع ان ترى هذا الرجل بدون ان يكون قد تأبطاً مجموعة من الكتب وهو عاشق لها . في ندوة هنا وجلسة هناك دائما يؤكد بأننا لانريد ان ننشر الثقافة فحسب بل ايضا المحبة بين الناس بحس تفاعلي مؤكد ….

انه أ.د.عقيل مهدي يوسف . لابد من بداية . والبداية تكمن في فسحة الحرية ونهوض المجتمع المدني في ستينات القرن الماضي . مع ان عقيل عاش في بيئة متحفظة لاسيما هو ينتمي الى عائلة علوية اصولها عريقة الجذور ولها شأنها الكبير في المجتمع الواسطي. وكما هو معروف دور النشاط المدرسي في تأصيل الحالة الفنية في جميع المحافظات لذا اختاره المشرفين وهو في الصف الخامس الابتدائي مع الفنان الراحل عبد الجبار كاظم في مسرحية (وفاء العرب) تأليف انيس المنصوري المقدسي واخراج حسن ناموس (خريج الدورات الاولى لمعهد الفنون الجميلة) عندها تفتحت اذهان هذا الصبي الموهوب واصراره على الاستمرار والمضي قدماً في هذا المجال رغم قسوة الحياة والرفض القاطع من قبل الاهل والاقارب . واشترك في مسرحية زنوبيا ملكة تدمر الى ان وصلت موهبته ان يقدم مسرحية ارتجالية وهو في مقتبل عمره اسمها (مقهى عزاوي) ولما اشتد عوده تنبه الى قراءة المزيد من الروايات والمسرحيات والكتب الادبية الاخرى وفي الاعدادية اشترك في مسرحية (ثمن الحرية) تأليف عمانوئيل رونيس اخراج حسن ناموس ايضاً في دور (القس).

منهج واضح

وهنا اتضحت لديه الفكرة والمنهج واصبح اكثر نضجاً في اتخاذ القرار بأنه لابد من الاستمرار ورسم صورة المستقبل بأتجاه فن المسرح لكن حدث شيء ماكان في الحسبان حيث الضغوطات المجتمعية والاسرية بأنه لابد ان يقدم اوراقه الى الكلية العسكرية لان فكرة الضابط في الجيش تراود كل الاسر العراقية لاجل التباهي والفخر والزهو والتفرد بين اقرانه وبعد الفحص والاختبار الدقيق قد تم قبوله ومارس التدريب القاسي كما هو معروف عن هذه الكلية الا انه بعد ايام تم الاستغناء عنه وذلك بورود معلومات عن احد اقاربه بتوجهه اليساري وارتباطه بالفكر التقدمي حزم حقائبه وتوجه الى التربية الرياضية ونجح بكل الاختبارات الخاصة لكنه ضل يصارع الذات عندما يمر على بناية اكاديمية الفنون الجميلة وينظر بحسرة واسف وهنا اللحظة التاريخية في حياته تم القرار الكبير في دخول الاكاديمية وسحب اضبارته من الكلية الرياضية متحدياً كل ماقد يحدث بعد هذا القرار من العشيرة والاهل والاخرين وقدم امام (لجنة الاختبار القاسية) المتمثلة بالاساتذة الكبار جاسم العبودي وجعفر علي وسامي عبد الحميد ومثل شيء مختلفاً عن اقرانه مما اثار اعجاب اللجنة وقبل بالاكاديمية.

وهنا الولادة الجديدة الا ان الاستاذ الكبير ابراهيم جلال قابله في اروقة الاكاديمية وقال له مازحاً (اذهب الى التربية الرياضية افضل لك) . في بغداد الابهة والجمال والافاق الرحبة وقف منذهلا يستوعب كل هذا العالم الساحر بكل عنفوان الشباب والتحدي نحو عالم اجمل . واذ هو يمارس دوره منصتاً لاساتذته متسلحاً بثقافة نظرية . مؤدياً ادوار مركبة جادة وحينما انتمى لفرقة المسرح الفني الحديث فاجئ اساتذته والمتابعين بأداء دور كوميدي غاية في الجمال والمتعة وهو دور (التاجر) في مسرحية بغداد الازل بين الجد والهزل اخراج الراحل قاسم محمد وكنا نحن كمجموعة نمثل معه لا نتمالك انفسنا من الضحك رغم اننا يتوجب علينا ان نتماسك ونؤدي ادوارنا بكل حرفية . حقيقة كان يسبب لنا احراجاً رغم غضب المخرج . فهو يقول في كتابه شفرات المسرح المركبة (تعتمد الكوميديا اما على البطل او الحبكة المثيرة او على مصادر اجتماعية خارجية وتنطلق من رؤية اخلاقية تخص المبدع وتعبيره الخاص الكوميديا عادة ماتضم المفارقة والهجاء فيتداخل فيها الجد والهزل) وله ادوار كوميدية اخرى مع بدري حسون فريد وجعفر علي وابراهيم جلال وقاسم محمد.

استمر عطائه في فرقة المسرح الفني الحديث في اعمال كثيرة مثل مسرحية (جد عنواناً) ومسرحية (الجومة) تأليف يوسف العاني و التي لم ترى النور وذلك لمنعها من قبل السلطات ومسرحية (الانسان الطيب) انتمى للفرقة روحياً وفكرياً وجد مكانه الصحيح . واستمر الى ان غادر البلاد لغرض الدراسة في بلغاريا / جامعة فيتس لينيل شهادة الدكتوراه بأختصاص فلسفة اداب وفنون واستغل وجوده هناك لمشهادة الكثير من العروض والاطلاع على التجارب المسرحية العالمية كذلك الالتقاء بابرز المختصين من اساتذة وممثلين ونقاد وجاء بحصيلة علمية واكاديمية وما ان وطئت قدماه العراق انغمس ليمارس دوره الخلاق في الحركة المسرحية . الف واخرج العديد من الاعمال المسرحية حازت على اعجاب المختصين والجمهور على المستوى العراقي والعربي . بعد ان اشتد الحصار على العراق وضاقت سبل العيش به مما اضطر للسفر الى ليبيا ليمارس دوره هناك كاستاذ في جامعة الفاتح.

يتميز مهدي بكتاباته النقدية في مقاربته بين التجارب العالمية والتجارب المحلية ليس من ناحية التكنيك فحسب بل من ناحية الحس الانساني والشعوب المحبة للسلام والتطور نحو حياة اجمل واسمى فهو يقول ان المسرح اقترن بثقافات الشعوب عبر تاريخه الحافل بالابداع وصولاً الى المختبرات التجريبية المعاصرة الجامعة لاشكالياته سوى في الشكل الفني والوعي الخلاق للفنان.

هذا بالاضافة الى مؤلفاته ومحاضراته في علم الجمال والنقد الفني والتذوق الفني واشتراكه في العديد من المؤتمرات العلمية العربية والعالمية وقد تخرج على يده الكثير من طلبة الدراسات الاولية والماجستير والدكتوراه وهم الان فاعلين في مجال الحركة المسرحية . اصبح عميداً لاكاديمية الفنون الجميلة لمدة سبعة اعوام.

قدم اعمالاً استثنائية عن سير ذاتية لعدد من الاعلام الفنية والادبية وبطريقة مبتكرة فنياً وهي سابقة تحسب له كما انها بمثابة توعية وتأصيل لما قدم هؤلاء الافذاذ لمجتمع كالسياب والجواهري وعلي الوردي ويوسف العاني كذلك قدم مؤلفاً جديداً عن سامي عبد الحميد قبيل وفاته بأيام كان من الممكن الشروع بالعمل الا ان ضروف فرقة المسرح الفني الحديث كانت غير جاهزة.

انه يعتبر يوسف العاني خلاصة المسرحية الواقعية الشعبية الانتقادية انطلاقاً من مسرح ارستوفانيس مروراً بمسرح برشت وانتهاءاً بالمسرح التجريبي المعاصر.

ان يرى العاني نفسه في مسرحية (يوسف العاني يغني) على المسرح بشكل يليق بتجرتبه التاريخية فتلك لعمري سابقة في المسرح العراقي مما جعله منتشياً ومهنئاً تلميذه الخلاق الذي اكتسب الكثير من المعارف في خضم تجربته الفنية الواسعة في حين نرى ان البعض ممن ارسلوا في بعثات خارج الوطن لن يقدموا شيء يذكر.

واخيراً التقاعد الذي اعطاه زخماً جديداً بالاستمرار بعد ان تخلص من الارتباطات الادارية المقيتة وحين جددت فرقة المسرح النفي الحديث نشاطها رغم انها خسرت مسرحها العريق (مسرح بغداد) واصابه الاهمال واصبح مكباً للنفايات ولم تنفع مناشدات قادة الفكر والثقافة بتدخل الدولة بأعماره واعادته للفرقة . عملت الفرقة بالممكن المتاح وانتخبت هيئة ادارية جديدة قد حصل الدكتور عقيل مهدي على الاصوات الكاملة للتأهل للهيئة الادارية وعند رحيل الفنان الكبير سامي عبد الحميد انتخب رئيساً لفرقة المسرح الفني الحديث.