عقيل مهدي يوسف .. في أنماط وسير مسرحية وحياتية متعددة

عقيل مهدي يوسف .. في أنماط وسير مسرحية وحياتية متعددة

عدنان منشد

من حق د. عقيل مهدي يوسف اليوم ان يفخر بمنجزه الطويل كمخرج وممثل ومؤلف مسرحي معروف، فضلا عن شواغله الاكاديمية اليومية، وحضوره المعلن في دراما الاذاعة والتلفزيون. ويحتمل ان تكون هذه الاوصاف هي نتاج عقل لامع مشاكس. ويحتمل ان تكون نتاج نفس معذبة، مصابة بحسرة الفردوس المفقود لهذا الوطن منذ الاحداث الدراماتيكية في ربيع نيسان 2003 وحتى لحظتنا العصيبة الراهنة.

ومهما يكن الامر، فمن المهم ان نتذكر بأن عقيلا قد اصطفاه الشارع العراقي كوزير للثقافة، وسارعت الحكومة في طرح اسمه على البرلمان مع اسماء اخرى كوزراء تكنوقراط مقترحين، وصادق البرلمان على اعتماده وزيرا مع ثلته الاخرى، فاستبشرنا خيراً في ذلك الصيف التموزي اللاهب، بل تعززت ثقتنا في الحاضر الراهن والامل بالمستقبل.ولكن في عراق ذلك الصيف لا يوجد أي معنى للقرارات البرلمانية الكاذبة في ظل سياسات التديين والتطييف والاثننة والتعشير “من الدين والطائفة والاثنية والعشائرية” واصبح د. عقيل مهدي يوسف مع ثلته المذكورين خاسرين، حتى لو كانوا فائزين!

الكتابة بين الاستفزاز والاعجاب

الطريق اليه ليست سالكة بمقاييس الجغرافيا او بواسطة رنين الهاتف الجوال، لكن الحقيقة ان الطريق اليه طويلة.. طويلة جدا.. تمر بمنعطفات واقعنا الثقافي والسياسي الراهن الذي يحظر على الصديق او الكاتب الالتقاء برجل من وزن عقيل مهدي يوسف، ربما لاعتبارات ومناكفات السياسات المذكورة، وربما لمناكدات الشارع الثقافي المحتدم المليء بالفعل وردود الفعل ورواسب الدكتاتوريات المقبورة.. ورغم ذلك فإنني اتواصل معه بشكل يومي عن طريق الهاتف الجوال او المواجهة المستمرة في شارع المتنبي واروقة اتحاد الادباء وبيتنا الثقافي في ساحة الاندلس.

وأقول: لا يكفي ان تحب شخصا لتكتب عنه. يمكن ان تكتب عن شخص تحترمه او تكرهه او شخص تشمئز منه او شخص تعلمت منه او شخص جرحك او تسبب في ايذائك او إلحاق ضررا ما بك.. او آخر عشت معه تجربة طويلة.. والاهم ان تكون هذه التجربة مثمرة معك بحدود الضمير في الاقل.

في النهاية انت تكتب عما يستفزك والحقيقة ان عقيلاً استفزني.. استفزني جداً، الى حد الكتابة، والى حد الاعجاب ايضاً.

خلفية تاريخية

عندما غادر عقيل مهدي يوسف العراق في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي متوجهاً الى بلغاريا لم يحمل معه سوى عشقه المسرح: بكالوريوس معتبرة بتقييم الاستاذ الرائد بدري حسون فريد ضمن اطروحة التخرج، انتماء معلن الى فرقة مسرح الفن الحديث وممارسة بعض الادوار التمثيلية المهمة في صقل تجربته المسرحية، خصوصا في مشاركاته التمثيلية في مسرحية «تموز يقرع الناقوس» مع الاستاذ سامي عبد الحميد او «بغداد الازل ..» مع الاستاذ الراحل قاسم محمد، فضلا عن تجربة قاصرة في التعليم الثانوي الفني، لم تستكمل ابعادها المعلنة، لأن عقيلاً كان حريصاً في تلكم السنوات على استكمال دراسته العليا في منصات وكواليس المسرح النظرية والتاريخية والجمالية والنقدية.

لم تستقبله العاصمة “صوفيا” بالورود او تيجان الغار، وهي الحديقة الخلفية لأوربا الشرقية، كما وصفها ذات يوم لينين قائد الثورة الاشتراكية العظيم. لكن هذا الشاب الطامح للعلى والمجد عاش على فتات ومزق “الزمالة” شأنه شأن زملائه السابقين: نور الدين فارس وجواد الاسدي وفاضل السوداني. لا كشأن طلبة “البعثات” المترفين من بعده، امثال فاضل خليل وحميد الجمالي وعادل كريم ومحمد عبد الرحمن الجبوري، وآخرين.

منعطفات كثيرة واحزان وآلام عاشها عقيل قبل ان يكرس هذه الجنة الارضية المترعة برحمة السماء هدفا في تحقيق شهادته العليا مهما كانت الظروف ومهما تعددت الاسباب والشواغل. ولكنه لا ينسى تسلحه بأحلامه السرمدية المبكرة في جنة الوطن الاولى، او الذكريات والنشأة الاولى في العراق.. عراق محلة “الفضل” البغدادية حيث الولادة الاولى وتكوين الطفولة. عراق “الكوت” بمدارسها الاولى والثانوية. عراق بلدة “الحي” الغافية على نهر الغراف العذب حينما نشأ الاب الكادح الوطني المناضل في كراجات او مرائب الحي والكوت وبغداد.

وفي غمرة غربة طويلة نسبيا امتدت الى ست او سبع سنوات في بلغاريا كان عقيل منغمرا ومغرماً فيها تحت اشراف البروفيسور “تينيث” في مواصلة دراسته الاكاديمية العليا. وكان لا يفتأ في ساعات الفراغ او تحت جنح الظلام من مزاورة اصدقائه الشيوعيين في العمارات السكنية المخصصة لهم، متسلقاً الاسوار او ممثلا او ممتثلا بدور الخدم او الطبابة في مواجهة بوابي العمارات والحرس من اجل مواجهة اولئك الاصدقاء حتى وان فرض عليه مسؤول قسمه الداخلي البعيد، غيابه المعلن.

حياة ذات مغامرات طيبة ومرحة، ما زال عقيل يوسف يفطن الى صداها على الرغم من الايقاع المتوالي للسنين، معتقدا ان النجمة تموت ولكن الضوء لا يموت.. ومن قال هذا يا عقيل؟ انه البيرت أينشتاين الذي لا يكذب بالمرة.

في العودة الى الوطن

يحسب لعقيل مهدي يوسف حال عودته من بلغاريا تقديم العديد من مسرحيات «النمط» كفاعلية وتجربة ومصطلح في ثمانينيات القرن الماضي، متخذا من شخصيات السياب وجواد سليم وحقي الشبلي ويوسف العاني انماطاً ثقافية أليفة لمتلقي المسرح العراقي، مع مغامرات مسرحية متعددة في تكريس هذا النمط ضمن شواغل رواد الثقافة العراقية في صبواتهم وتجلياتهم المتعددة، مع استذكارات عالمية مواكبة لهذا المسرح مقترنة بشكسبير او انيل وشيلر واريستوفان، من اجل التنويع او العزف على تقاسيم اخرى من اللحن ذاته من دون اشتطاط او حالة نشاز لمساره الإخراجي والتأليفي في تنميط شخصياته المسرحية المعلنة.

ولكن عقيلا وفي مرحلة متقدمة من هذا الانهماك، خصوصا في مرحلة غياب “الرقيب الامني” بعد سقوط سلطة الصنم قد اعاد النظر في مصطلح “النمط” وفضل اعتماد “السيرة الافتراضية” لشخصيات وطنية وتاريخية ما كان بمستطاعه ان ينفذها في عقود سابقة، ومنها “الحسين في غربته/ علي الوردي وغريمه/ جمهورية الجواهري”، فضلا عن عروض مسرحية اخرى تميط اللثام عن شخصيات وطنية وسياسية معروفة امثال: فهد وفليح الخياط، وعبد الكريم قاسم واحمد الجلبي. وآخرين، من خلال جهد استثنائي غير مألوف في شحة الميزانيات او كلف الانتاج، وعبر كفاح غير مسبوق في المشاركة او المساهمة في هذه العروض من قبل طلبة واساتذة كلية الفنون الجميلة في بغداد.

وفي تقديري ان عروض السيرة الافتراضية لهذا الفنان المبدع الاصيل قادت العديد من النقاد والمسرحيين العراقيين والعرب الى الحديث والكتابة عنها بشغف وحب نادرين، خصوصا في اقلام فاضل ثامر وعبد الكريم رشيد وعبد الرحمن زيدان وكمال عيد ومحمود المديوني، وهي اقلام ادبية ومسرحية معروفة وحصيفة في خارطة النقد العربي، قلما تخطئ واكثر ما تصيب.

جولة اخيرة ختامها مسك

في بلغاريا ومصر والامارات العربية وليبيا وسوريا والاردن وروسيا، كان لعقيل مهدي ممهدات وحضور ومشاركات وصولات. فإذا كان هذا الحضور الطاغي في تعريف المسرح العراقي قد تحقق له، فكيف نفلت منه نحن المحكومين بالأمل، نحن الذين نتكلم لغته ونتذوق فنه وننتمي الى التراث او الواقع الذي ينتمي اليه؟

حقاً، ان من الظواهر الثقافية التي تعد في حياتنا العراقية المعاصرة هو الإسهام المشروع لعقيل مهدي في الكتابة النقدية ضمن التبشير المتحمس لكل ما هو جديد في عوالم المسرح والادب وفنون التشكيل في صيغة التنظير النقدي والجمالي، وكيف لا؟ وهو استاذ علم الجمال ونظريات الفن والاستاذ الاكاديمي الفاعل والمؤثر في تخريج المئات من الاكاديميين العراقيين منذ بواكير ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، وهو عميد كلية الفنون الجميلة السابق ورئيس رابطة نقاد المسرح في العراق والعضو الدائم للمجلس المركزي لاتحاد الادباء والكتاب في العراق.

شواغل هذا الاستاذ الفنان الاكاديمي المعروف، رغم الكم النقدي والنثري الغزير الذي كتبه لم تطرح نفسها ككبريت حارق او ديناميت قاتل في ساحتنا الثقافية، مع موسوعيته المعروفة في كل ما يصدر من نتاجات محلية وعربية ودولية، الا انه يقدم نفسه للقارئ على الدوام باعتباره كاتبا مثقفاً وقارئا جيدا لكل ما يصدر وله رؤيته الخاصة في كل ما يقرأ. والجميل الاجمل في عقيل مهدي ان يكون صديقاً صدوقاً لكافة المبدعين في العراق، بوجهه المبتسم وعينيه الضاحكتين وبحرصه الدائم على اللقاء بك، ان كنت مبتسما معه او مكفهراً حانقاً في مواجهته.