عندما أضربت البصرة عام 1931

عندما أضربت البصرة عام 1931

د. فاروق صالح العمر

في الثاني من حزيران عام 1931 قررت الحكومة العراقية لائحة قانونية لرسوم البلديات في عهد وزارة نوري السعيد الاولى وبموجبها فرضت رسوم جديدة على اصحاب الحرف التي تضمنها القانون، وقد علمت وزارة الداخلية،كما يقول وزير الداخلية في مذكراته (مزاحم الباججي) منذ 25 حزيران ان هناك حركة لاحداث اضراب احتجاجا على هذا القانون،

وحدد يوم 30 حزيران موعدا للاضراب، وقد حدث اضراب خفيف في اليوم ذاته في الحلة وديالى، وتفاديا للاضراب، سعى وزيرالداخلية (الباججي) للالتقاء بارباب العمل، وكما يقول: "عرفتهم حقيقة القانون وطلبوا مني ان اوعز الى الامانة ان تستعمل صلاحياتها وتقترح التخفيضات والشطب لاصادق على ذلك واخفض واشطب ماراه مناسبا.وقد قامت الامانة بالامر ونشرت بيانا عن ذلك، وبالفعل اعلن اصحاب المهن انهم ارتاحوا لقرارها وطلبوا الكف عن الاضراب وكان في يومه الثالث".

وعلى الرغم من ان اضراب البصرة جاء متأخرا عن الاضرابات في جميع انحاء العراق الا انه كان اضرابا شديداً اتسم بطابع العنف. ويقول سليمان فيضي: "ان الاضراب اتخذ فور اعلانه شكلا غير سلمي، فسار المضربون في الشوارع في شبه مظاهرات مسلحة واخذوا يتحرشون بالمؤسسات الحكومية" وقام المتظاهرون بمحاصرة سيارة المتصرب وكسروا زجاجها مما جعله يلتجئ الى دار العالم الديني عبد الله الموسوي. بعدها طلب المتصرف من المتظاهرين ارسال مندوبيهم للمفاوضة فاختاروا سليمان فيضي ومحمد زكي المحامي على الرغم من انهما لم يكونا مما من الشخصيات الوطنية في البصرة ولهما مكانة اجتماعية واضحة في المدينة.وقد استمر الاضراب في شدته وعنفه في البصرة لمدة ثلاثة ايام ثم انتهى على اثر تعديل بعض مواد المرسوم .

ذيول الاضراب:

لماذا تأخر الاضراب في البصرة كل هذه الايام؟ لقد بدأ من الحلة وديالى وبغداد منذ الايام الاولى لشهر تموز وبعدها في كل انحاء العراق ما عدا البصرة التي بدأ فيها يوم 15/7 واستمر لمدة ثلاثة ايام. وكانت اياما عنيفة جرى فيها تخريب واعتداء وتجاوز ضد المراكز الحكومية وكذلك ضد شخصيات حكومية، بدءاً بالمتصرف ومدير الشرطة واطلق في الاضراب الرصاص ضد المتظاهرين نتيجة للتجاوزات والتصرفات غير الموزونة.

اصدرت محاكم البصرة احكامها على الكثير من الذين اتهموا بالتحريض او المشاركة في الاضراب من اهالي البصرة وابي الخصيب والزبير. ولكن النفي لم يشملهم، وقد استأنف هؤلاء الدعاوى بعدئذ وتم اطلاق سراحهم، كما جاء في الوثائق المتعلقة بالمحاكم.

اما الشخصيات التي نفيت فهي التي لم تحاكم ولم توجه له تهمة معينة وانما القي القبض عليها في البصرة بعد وصول نوري السعيد رئيس الوزراء اليها وبعد ان تعذر عليه – اي على رئيس الوزراء – هذا الاجراء اتصل قبل يوم وصوله بآمر حامية البصرة (ابراهيم الراوي) وطلب اليه القاء القبض على (سليمان فيضي) الان انه اعتذر عن ذلك، بل كان مخالفا لرأي رئيس الوزراء بدعوى ان (سليمان فيضي) قام باعمال حميدة خلال الاضراب وليس التحريض عليه.

مع ذلك، وبعد وصول رئيس الوزراء الى البصرة تم القاء القبض على (فيضي وجماعته) وذلك في يوم 20 تموز 1931 وبقي في التوقيف حتى يوم 24 تموز رغم امتناع المحكمة عن تمديد مدة التوقيف

بلغ عدد المنفيين ثمانية اشخاص وزعوا على ثلاث مدن وكالاتي:

1- عانة في الرمادي: سليمان فيضي – وحسن الناصح – وحبيب الملاك – وكاظم الحاج شويش.

2- اربيل: عبد الرحمن الموصلي – وسليمان الابراهيم.

3- بغداد: طه فياض العاني – وابراهيم البجاري.

وكان الابعاد الى عانه وكذلك الى اربيل يعد نفيا سياسيا، اما الابعاد الى بغداد ففي اعتقدي انه كان امتيازا خاصا، ويبدو ان ابعاد طه الفياض وابراهيم البجاري الى بغداد جرى بفعل الوساطات التي لعبت دورا في منحهم هذا الامتياز في حين ان الجماعة التي ارسلت الى اربيل او الى عانه في الرمادي قد عانت الكثير، وبعد ان هدأت الاوضاع بدأت الحالة تعود الى مجراها الطبيعي وخفت حدة الوضع السياسي الداخلي وبدأت المحاكم الاستئنافية تخفف من احكامها. وقد شمل ذلك الكثير من ابناء البصرة وابي الخصيب والزبير اذ كانت قد صدرت بحقهم عقوبات معينة. وكذلك شمل التخفيف المبعدين ولهذا قررت الحكومة ارجاعهم الى مناطقهم السابقة – الى البصرة.

يبدو ان آخر كتاب وقعه مزاحم الباججي وزير الداخلية قبل استقالة وزارة نوري السعيد الاولى، هو ما يتعلق بالمنفيين، ففي يوم 19 تشرين اول 1931 وهو يوم تأليف وزارة نوري السعيد الثانية التي ابعد عنها مزاحم الباججي، صدر كتاب سري ومستعجل جدا معنون الى متصرفي الوية الدليم واربيل وبغداد:

"بناء على موافقة سلطة لواء البصرة وحصول القناعة لدينا بان المدة التي قضاها كل من المنفيين كافية فانا امر بترخيصهم ورجوعهم الى محال سكناهم".

فعند عودة المنفيين الى بغداد استقروا فيها لبعض الوقت وكانوا محل احتفاء المعارضة وعلى رأسهم ياسين الهاشمي وعلي جودة الايوبي وعبدالاله حافظ – كما يذكر سليمان فيضي – وكان من المؤمل اقامة حفل شاي باسم الشبيبة البغدادية ووزعت بطاقات الدعوة على عدد من رجال الاحزاب ولكن نوري السعيد عمل على افشال الخطة ونجح في ذلك بعد ان اصدر امراً الى مديرية شرطة بغداد بالغاء الحفلة اولا وتسفير المنفيين الى البصرة عن طريق العمارة، وهكذا فشلت حركة المعارضة في بغداد التي كانت تسعى الى ان تكون مظاهرة سياسية معارضة لسياسة نوري السعيد ووزارته الثانية.

يبدو ان ما لاقاه المنفيون في بغداد من احتفاء قد وصلت اخباره الى ابناء البصرة، وعليه فقد كانت هناك نية في التحرك للاحتفاء بقدوم هؤلاء الى البصرة، مما اربك السلطات فيها تخوفا من ان يحدث فيها ثانية ما حدث ايام الاضراب في تموز 1931. ولهذا بعث المتصرف ببرقية رمزية برقم (683) سري في 24/10/1931:

بغداد – داخلية

لدى البعض فكرة تكريم المبعديين عند وصولهم البصرة

بالمظاهرات وهنالك فئة اخرى تصفه هذه الفكرة وتسعى (باهانتها).

ان الامر من كل وجوهه يخل بالنظام فاقترح اما ان تحمل وزارتكم

المبعدين على الوصول للبصرة (متنكرا) بدون سبق اخبار ذوييهم

واصدقائهم واما الموافقة على اخذهم من محطة الشعيبة وادخالهم

البصرة سرا وذلك صوتا الكرامتهم.

- المتصرف-

اذن، فالاقتراح من متصرف البصرة بارسال المبعدين من بغداد بواسطة القطار وعند محطة الشعبية التي هي آخر محطة قبل المحطة النهائية في المعقل، على ان تقوم الشرطة باخذهم وادخالهم البصرة سرا، وقد وافقت وزارة الداخلية على هذا الاقتراح ببرقية رمزية ايضا.

متصرف البصرة

برقيتكم من 683 نوافق على اقتراحكم باخذهم من الشعيبة وادخالهم البصرة سرا.

داخلية / رقم فوق العادة

وبموجب هذه الموافقة وجه متصرف البصرة كتابا الى مديرية شرطة البصرة لاتخاذ الاجراءات اللازمة.

متصرفية لواء البصرة / قلم التحرير

العدد س 688 في 25/10/1931

سري للغاية وشخصي

مديرية شرطة البصرة

م/ المبعدون

بمناسبة تقرر اعادة المبعدين الى البصرة فقد احست هذه المتصرفية بعزم البعض على تكريم اولئك المبعدين عن طريق المظاهرات عند وصولهم البصرة، وهناك فئة اخرى تسفه هذه الفكرة وتسعى للتنديد بها. وبما ان الامر من كل وجوهه مخل بالنظام طلبنا الى وزارة الداخلية ببرقيتنا الرمزية 683 والمؤرخة في 24/10/1931 الموافقة على اخذ المبعدين من محطة الشعيبة وادخالهم البصرة سرا وذلك وصونا لكرامتهم من العبث، ووافقت وزارة الداخلية ببرقيتها الرمزية (فوق العادة) والمؤرخة في 24/10/1931.

لهذا نرجو ان تتخذوا الاهيمة الكافية لاخذ المبعدين من محطة الشعيبة فور وصولهم هناك وادخالهم البصرة سرا واعلامنا بنتيجة ما تتخذونه من التدابير حالا.

متصرف البصرة

بل وصلت برقية رمزية جديدة في اليوم ذاته بتوجيه انذار الى من كل يقوم بالتظاهر.

وزارة الداخلية سري 3238 في 25/10/1931

متصرف البصرة

انذروا تحريريا بتطبيق المادة 40 من قانون العشائر على كل من ترونه ينوي اقامة مظاهرة او اجراء اي حركة مخلة بالامن والنظام ومقلق للهدوء عند عودة المبعدين الذين امرنا بتسفيرهم فورا وستبرق لكم متصرفية بغداد بسفرهم، نؤيد برقيتنا المذكورة ونرجو العمل بموجبها.

داخلية.

وقد وجه الانذار من قبل متصرفية البصرة بدون تحديد لمن وجه اليه الانذار.

متصرفية لواء البصرة

قسم التحرير

التاريخ 25/10/1931

العدد: بدون

الى..

انذار

لقد اتصل بهذه المتصرفية بانكم تنوون اقامة المظاهرات المخلة بالنظام والامن العام وذلك بمناسبة عودة المبعدين. وبما ان هذه الحركة مما تولد الخروج على النظام فاقتض انذاركم بهذا واعلامكم بانه ممنوع نهائيا الظهور باي مظهر من شانه الاخلال في السكينة والنظام وسوف تطبق المادة (40) من نظام العشائر بحق من يخالف احكام هذا القرار.

متصرف لواء البصرة.

م . آفاق عربية 1975

ن المشاركين في هذا الاضراب الا انه