يوليسيس ويوم جيمس جويس الطويل

يوليسيس ويوم جيمس جويس الطويل

علي حسين

هذا الشهر شباط يحتفل العالم بمرور مئة عام على صدور الطبعة الاولى من رواية جيميس جويس « يوليسيس « – ترجمها الى العربية الاستاذ صلاح نيازي -

في هذا اليوم السادس عشر من حزيران كل عام يتذكر أهالي دبلن انطلاق (ليوبولد بلوم) بطل رواية يوليسيس من منزله رقم 7 في منطقة (إيكلس ستريت) ومسيرته عبر النهر وعبوره الجسر والوصول إلى البرلمان القديم ثم إلى مشرب حيث يتناول فيه سندويشاً من الجبن وكأساً من النبيذ. بعد ذلك يقصد بلوم وصديقه (ستيفن ديدالوس) الذي يمثل جيمس جويس، المتحف والمكتبة الوطنية حيث يلقي بلوم خطبة عن شكسبير وهاملت. في يوم (ليوبولد بلوم) تنظم دبلن إفطاراً من الكبد المقلي، وهو الطعام الذي كان يحبه ليوبولد بلوم للمئات من الأشخاص الذين يحضرون مهرجان جويس، حيث تُعرض الأفلام والمسرحيات وتُقدّم الموسيقى، وسيصبح هذا اليوم هو الأشهر بالنسبة لمدينة دبلن التي كانت قد منعت رواية جويس عند صدورها لبذاءتها وتصويرها الواضح للجنس، ولم تُنشر الرواية في إيرلندا إلا في الستينيات، حيث قررت دبلن أن تعيد ذكرى ابنها العاق الذي قضى معظم حياته في زيورخ وباريس.

بدأ أوّل احتفال (بيوم بلوم) في عام 1954 عندما قرر عدد من الكتّاب اقتفاء أثر بطل رواية جيمس جويس، في تنقّله بين شوارع دبلن. لم يكن اختيار جيمس جويس ليوم 16 يونيو ليفتتح به روايته مجرد صدفة، ففي هذا التاريخ بالذات اعترف لـ (نورا بارناكل) بحبّه، كان في الثانية والعشرين من عمره عندما التقاها للمرة الأولى في ذلك اليوم عام 1904 على أحد جسور دبلن، كانت فتاة متوسطة الجمال، تعمل منظفة للغرف في أحد الفنادق. وما أن رآها حتى قرر أن تكون له، وأن يكون لها! وفي ما بعد سوف تحضر في معظم أعماله. وستكون مؤثرة فيها بشكل كبير، وستوحي له بكتابة مونولج (ليوبولد بلوم) الشهير الذي أنهى به روايته (يولیسیس)، وستكون نورا بارناكل شخصية رئيسية في معظم في أعمال جويس. فهي مولي بلوم، المرأة الجميلة التي لا تشبع من الجنس، وتتعمد خيانة زوجها، وهي المرأة القاتلة في مسرحيته (منفيون). وستعود لتصبح شخصية رئيسية في (يقظة فینیغان)، وهي الرواية التي لم تُترجم إلى العربية حتى الآن لصعوبتها.

تبدأ أحداث (يوليسيس)، في الساعة الثامنة من صباح السادس عشر من يونيو عام 1904، حين صعد (بَك مليكن) السُلّم العتيق حاملاً دورقاً مملوءاً برغوة الصابون وعلبة مرآة وسكين حلاقة، وبعد لحظات انضم إليه (ستيفن ديدالوس) -الذي هو جيمس جويس نفسه ويتكرر في معظم أعماله- وصعد قمة السُلّم وتأمل خليج دبلن. وعندما أخذ مليكن يتحدث عن جمال البحر وانعكاس شُعاع الشمس، لاحت لستيفن ذكرى والدته فجأة، فقد دُعي للعودة من باريس قبل وفاتها بعام. واسترجع ذكراها حينما كانت تتوسّل إليه للدعاء لها، لكنه قابل إلحاحها بالرفض.

كان ستيفن معلماً، ولأنه كان يوماً حاراً، فقد كان الصِبية ضجرين، إلا أن أحد طلبته الصغار كان عاجزاً عن حلّ المسائل الحسابية البسيطة، وللحظات، رأى ستيفن صورة طفولته الحرجة في ذاك الصبي. وتنفس الصعداء عندما أنهى الدرس وأُذن بالانصراف.

يذهب ستيفن ليتجول على الشاطئ وحيداً، ويفكر بماضيه وأمسه، بهوايته للأدب وبأيام دراسته، وتعاسته في دبلن، وعوزه المادي، وغرق أسرته في الفقر الشديد، وإصرار والده على ارتياد حانات دبلن بشكل يومي.

وفي تلك الأثناء، ينهض ليبولد بلوم من فراشه متثاقلاً ليُعدّ إفطار زوجته. بلوم الذي يعمل مسوّقاً للإعلانات، يتسم بصبره على زوجته، حيث كان يعلم بعلاقتها الغرامية بمنسق حفلاتها -هذه الأحداث مطابقة لحياة جيمس جويس الذي يتشاجر مع أحد أصدقائه حين يخبره أنه كان على علاقة قديمة مع زوجته نورا- يتناول بلوم إفطاره ويقرأ برقية من ابنته، التي تعمل في متجر للتصوير. استرجع على إثرها ذكرى ابنه (رودي)، الذي وافته المنية وهو وليد يبلغ من العمر أحد عشر يوماً. وأعاد بلوم قراءة البرقية مُتسائلاً عن طالب شاب ذكرته (ليلي)، وللحظة، جزع خوفاً من أن تسير ابنته على خطى والدتها.

خرج بلوم للتنزه كعادته الصباحيّة، وتوقف عند مكتب البريد لتسلم برقية مُرسلة من سيّدة يُظهر توقيعها بأن اسمها (مارثا). عاد بلوم إلى منزله واستهل قراءة البرقية، ذهب بعد ذلك وهو ضجر إلى الكنيسة ليستمع إلى جزء من القداس، ثم ينضمّ إلى جماعة تشيّع صديقاً قديماً، يُدعي (بادي ديغنام)، توفَّي متأثراً بالسكتة. وأثناء المأتم، تأمّل بلوم الأب (كوفي)، الذي بدوره أعاد إليه ذكرى نجله الصغير (رودي) ثانيةً، ووالده الذي كان ضحية انتحار.

أمّا بالنسبة ليومه العملي، فقد كان يجري مكالمة في المكتب الصحافي ليُنسق لطباعة إعلانٍ ما، وبينما كان يمضي وقته هناك رأى ستيفن وتبادلا النظرات، إلا أنهما لم يحاولا التحدث معاً. غادر بلوم مبنى الصحافة متجهاً إلى النهر، وصادف السيدة (برين) في طريقه ووصف لها باقتضاب ما جرى في المأتم، وحدّثته هي عن السيدة (بورفوي) التي قضت الليل معها في مستشفى للولادة. واصل بلوم مسيره، متأملاً دبلن في يومٍ صيفي، فدخل إحدى الحانات وطلب إفطاراً. وذهب لاحقاً إلى المكتبة الوطنية للاطلاع على ملفات بعض الصحف. هناك يلتقي بـ (مليكن) وبعض الأصدقاء الأدباء فيحدّثهم عن نظريته حول مسرحيات شكسبير، بعدها يذهب بلوم إلى فندق (أرموند) ليتناول الغداء، ويرى (ستيفن ديدالوس) يخرج مسرعاً، لكنه لم يتحدث إليه. وفي ظهيرة ذلك اليوم اشتبك بلوم في نزاع في إحدى الحانات، حول المال الوفير الذي ربحه (بليز بويلان) نتيجة فوزه في مباراة ملاكمة. هرب بلوم من ضجيج الزحام وذهب يتمشى على الشاطئ، مع حلول العصر شاهد بلوم الفتاة (غيرتاي ماكدويل)، ثم قرر الرحيل بطلوع القمر، وارتأى له أن يقف لحظات عند المستشفى ليسأل عن السيدة بورفوي. وأثناء مشيه بتباطؤ على امتداد الساحل، يتذكر بأن زوجته تخونه كل يوم بينما هو سارح في أحلام يقظته، يتأمل دبلن وشاطئها. وصل بلوم إلى المستشفى وعلم بأن السيدة بورفوي لم تلِد بعد. ومرة أخرى رأى ستيفن هناك، يشرب برفقة بَك مليكن وبعض طلبة الطب، ينضمّ بلوم لهم ليذهبوا معاً إلى حانة قريبة، هناك يحصل شجار بين ستيفن ومليكن وهما في حالة سكر شديد حول أحقية امتلاك مفتاح البرج القديم، يتركهم ستيفن ليذهب مع أحد طلبته إلى بيت دعارة في أحد الأحياء الفقيرة في دبلن، يتبعهما بلوم، ليُفاجأ بزوجته في وضعية مُخلة، ومقرفة. وفجأة في الناحية الأخرى، توهجت لدى ستيفن ذكرى والدته وهي على فراش الموت، تتوسل إليه بأن يدعو لها، ليخرج وهو يركض لاهثاً بين الشوارع ويصادف جُنديين بريطانيين فيشتبك معهما في عراك، حتى يخلّصه بلوم ويصطحبه معه إلى المنزل، مُتأثراً ومُنهكاً بليلته الكالحة، راح ستيفن ديدالوس يتحدث عن العلم والفن، وتوسل بلوم إلى ستيفن بأن يبيت تلك الليلة معه في المنزل وأن يتخلى عن بَك مليكن ورفاقه المنحرفين ويأتي للعيش معه، إلا أن ستيفن يرفض، ويخرج في عتمة الليل وسكونه الذي لا يقطعه سوى صوت أجراس كنيسة سانت جورج.

أما بلوم فقد ذهب إلى فراشه متعباً، وعندما أخذه النعاس قال لزوجته بلهجة حادّة إن عليها أن تستيقظ باكراً لتُعدّ إفطاره. بينما بقيت الزوجة مستيقظة طوال الليل تسرح بأفكارها عن عشيقها، وتفكر بغموض الجسد البشري وتعقيداته، وبالناس الذين عرفتهم مدى حياتها، وبينما هي غارقة بأفكارها سمعت صوت صفارة القطار، وارتسم لها ماضيها وعُشاقها القدماء، وعلاقتها الغرامية ببلوم قبل الزواج. تدفقت تلك الذكريات المؤلمة، بينما في الجانب الآخر يغرق بلوم، الذي يرمز ليوليسيس، في النوم يملأ شخيره الغرفة المظلمة.

كان جويس في الخامسة عشرة من عمره حين أخبر شقيقه الأكبر برغبته في أن يصبح كاتباً مسرحياً، وكان آنذاك يعيد قراءة ملحمة هوميروس الشهيرة (الأوديسة)، وفي محاولة منه لتقليد الشاعر اليوناني الأعمى كتب قصيدة أسماها (محنة هوميروس). في الإنجليزية يبدأ محاولاته الأولى في كتابة الشعر، في تلك الفترة كان يقرأ لملتون وييتس الذي سيلتقي معه بعد سنوات، فيما بعد سيكتشف شكسبير ودوستويفسكي، ويحدّث شقيقه عن حلمه في تجاوز هذين الكاتبين، إلا أن العائلة الكبيرة في العدد وبائسة الحظ مادياً كانت تأمل في أن يساعدها الابن المصاب بقصور في البصر، بعد أن يحصل على شهادة الطب، فقد كان هو أكبر عشرة أطفال لموظف الضرائب (جون ستانيسلاوس جويس). بعد سنوات يجرّب حظه في النقد، فيُصدر وهو في الثامنة عشرة دراسة عن (أبسن) نال عليها أوّل مكافأة مالية في حياته، مكّنته من أن يقوم بسفرة إلى لندن للعمل في أحد المصارف الصغيرة. وبعد سنتين، حين أنهكه العمل الوظيفي، يرسل إلى شقيقه رسالة يخبره فيها أنه بصدد تحقيق حلمه الأدبي، حيث انتهى من كتابة قصة قصيرة بعنوان (يوليسيس) سيضمّها إلى مجموعته القصصية (أهل دبلن). ويمرّ عام والمجموعة القصصية تنتظر الطبع، سأله شقيقه عن مصير قصة يوليسيس، فأخبره بأنها لم تتعدّ مرحلة العنوان بعد، وأنه سيكتبها في حال تحسّن ظروفه المعيشية وأيضاً ظروفه الصحية.

كان قد بلغ الثانية والعشرين من عمره، ينهض باكراً كل صباح ليذهب إلى العمل، ويعود منهكاً فيستريح لساعة أو ساعتين ثم يبدأ الكتابة، مرت السنوات ثقيلة ورتيبة في لندن، فقرر أن يعود إلى دبلن بعد أن علم بمرض أمه الخطير، في هذه الأثناء يقع في حب نورا بارناكل، فتاة فقيرة تعمل في أحد الفنادق، فيتزوجها ويقرر أن يأخذها ويسافرا إلى روما حيث عمل هناك مدرساً، ليعيش أتعس خمس سنوات في حياته من الناحية المادية، لكنها كانت غزيرة من ناحية الإنتاج الأدبي، أصدر خلالها مجموعته القصصية (أهل دبلن)، وأعاد كتابة (ستيفن بطلاً) لتصدر تحت عنوان آخر (صورة الفنان في شبابه(.

في العام 1914 يبدأ التأليف الفعلي لروايته الأضخم (يوليسيس) ويخبر شقيقه أنه قرر التوسع بالقصة القصيرة ليجعل منها رواية تحكي جزءاً من سيرته الذاتية، وأن يجعل من تجوال بطله في أنحاء دبلن أشبه برحلة يوليسيس الأصلي عبر البحر الأبيض المتوسط، ولكن من دون أن تتّسم بالتقليد والمحاكاة: «إنها رواية وليست ملحمة أريد أن أناطح بها دوستويفسكي»، هكذا قال لزوجته وهو ينهي الفصل الأول من الرواية.

في نهاية عام 1917 أنهى جويس الفصول الأولى من يوليسيس واستعد لطبعها على الآلة الكاتبة، وكان قد عرض ذلك على ناشرة مجلة (الفيردي) وهي مطبوع صغير كان له تأثير في الحياة الأدبية، أن تحاول إصدار الرواية على شكل حلقات بنفس الطريقة التي نشرت بها عام 1915 روايته (صورة الفنان في شبابه)، وبما أن الآنسة (ويفز) صاحبة المجلة، كانت تؤمن إيماناً راسخاً بعبقرية جويس، فقد وافقت فوراً على نشر الفصول الأولى، لكن الصعوبة كانت في إيجاد من يقوم بطبع هذه الرواية التي اتخذ مؤلفها منهجاً جديداً في اللغة. وبعد مفاوضات دامت أكثر من عام وافق صاحب مطبعة على طبع الفصول الأول والثاني والثالث ولكن بعد حذف عبارات رأى فيها استهزاءً بالدين، الأمر الذي جعل جويس يرفض فكرة صاحب المطبعة ويأخذ المسودات إلى أحد أصدقائه الذي يتوسط عند صاحب مطبعة تجارية كبيرة ليسلمها بعد ذلك إلى الآنسة ويفر التي قامت بنشرها متسلسلة، إلا أن الرواية لم تلاقِ النجاح المطلوب بسبب غرابة أحداثها، والتعقيد الذي تعمده جويس في لغتها، كما أن الحكاية تروى بطريقة معقدة جداً، لأنها تصوير لنشاط الإنسان في هذا العالم وليس مجرد وصف لجماعة من الأفراد في مدينة دبلن. وقد كان جويس يرى في أوديسة هوميروس كمال الأدب كله من خلال شخصية يوليسيس، فإنه أراد أن يعيد بعث هذه الشخصية في القرن العشرين ليعرض من خلالها الإنسان بكل جوانبه، فهو جبان وبطل معاً، حذر ومتهور في أن واحد، ضعيف وقوي في الوقت نفسه، زوج وعاشق أيضاً، كريم وبخيل معاً، طالب ثأر ومتسامح وسخيف، ولهذا فقد حاول جويس أن يجعل مغامرات بطله ليبولد بلوم تسير على غرار ذلك النموذج في ملحمة هوميروس، لذلك يمكن للقارئ أن يجد في كل الأحداث التي يمر بها بلوم خلال يومه الطويل في دبلن، ما يقابلها في مغامرات يوليسيس في الأوديسة، فبلوم هو كل إنسان عاش في هذا العصر، ودبلن هي العالم مصغراً. ولهذا نرى جويس يصرّ على أن يعبر عن كل شيء واصفاً مغامرات مجموعة صغيرة من الناس في يوم واحد ليرمز من خلالها لمجموع النشاط الإنساني، وهو لا يقدم لنا وجهة نظر معينة، كما أنه في الرواية لا ينحاز لفكر معين، ولا يحاول أن يطبق أي ميزان من موازين القيم الأخلاقية والاجتماعية، ذلك لأنّ الفنان من وجهة نظر جويس يجب أن يكون منعزلا ومخلصا لفنه أولاً، وينبغي أن لا يرتبط بوجهة نظر معينة يحاول أن يفرضها على القارئ.

بعد أن شعر جويس بأن الرواية لم تنل حظّها في لندن، طلب من صديقه (عزرا باوند)، الذي كان يساعده مادياً بين الحين والآخر، أن يساعده هذه المرة في نشر الرواية في الولايات المتحدة الأمريكية. في ذلك الوقت كان باوند يعمل مستشاراً لمجلة تدعى (المجلة الصغيرة) تديرها سيدة من شيكاغو اسمها (مارغريت أندرسون)، وعندما عرض باوند الفصول الثلاثة الأولى على أندرسون، صرخت بفرح: «سوف أطبع هذه الرواية ولو كان هذا آخر عمل أقوم به في حياتي»، وكما حدث مع الآنسة ويفر، وجدت أندرسون صعوبة في إقناع صاحب مطبعة يتمكن من طبع المقاطع المفردة والتي كانت في ذلك الحين تُعتبر عصية على الطباعة، تمكنت أندرسون من التغلب على هذه المشكلة بمساعدة طبّاع صربي لتظهر الحلقة الأولى من الرواية في نيويورك في العاشر من مارس عام 1918.

وقد لقيت الفصول الأولى نجاحاً كبيراً، لكن هذا النجاح لم يبدّد قلق باوند على الرواية، حيث كان متيقناً أن بعض أقسام يوليسيس سوف تُمنع من النشر. وكي يستبق الأحداث قام ومن دون استشارة جويس بحذف عشرين سطراً من الفصل الرابع، وعلم جويس بهذا الحذف بعد نشر الفصل، فأرسل رسالة شديدة اللهجة إلى باوند يطالبه فيها بالحفاظ على محتوى الرواية كاملة، الأمر الذي اضطر عزرا باوند أن ينصحه بوقف نشر الرواية متسلسلة، والعمل على طبعها في كتاب واحد. لم يقتنع جويس بهذه الفكرة وواصل إرسال باقي الفصول إلى المجلة، وكما توقع باوند قامت دائرة البريد الأميركية بمصادرة وحرق الجزء المتعلق بلقاء بلوم وستيفن في المكتبة العامة، حيث وجد فيه الرقيب ألفاظاً بذيئة تسيء للمجتمع، بعد أسابيع تمّ منع الفصل الخاص بالقديس لويجي كونزافا، عام 1920 قررت هيئة البريد إرسال خطاب للمجلة تطلب فيه بحذف فصل السكلوب، ولم تنفع احتجاجات هيئة تحرير المجلة، الأمر الذي دفع جويس لأنّ يكتب رسالة إلى عزرا باوند يقول فيها: «هذه هي المرة الثانية التي أحرق فيها وأنا لا أزال على قيد الحياة، وهذا ما يجعلني آمل أنني سأمر بين نيران المطهر بسرعة». ثم أخذت الأمور اتجاهاً خطيراً آخر، فقد قام سكرتير جمعية نيويورك لمحاربة الرذيلة برفع شكوى رسمية ضد الرواية، وقد اعتبر عزرا باوند وجيمس جويس أنه مهما كانت نتائج هذه الدعوى القضائية، فإنها لا بد أن تحتل مكاناً بين محاكمات القرن الماضي، كما حدث مع (أزهار الشر) لبودلير و(مدام بوفاري) لفلوبير. تمّ سماع القضية في نهاية فبراير من عام 1921 ليصدر قرار المحكمة باعتبار الكتاب مثيراً للقرف أكثر منه داعياً للانحراف، ويقزز النفس أكثر مما هو ملوث، وتم تغريم صاحبة المجلة 50 دولاراً مع أخذ تعهد منها بعدم طباعة الفصول المتبقية من الرواية.

وقد أوقع قرار المحكمة جويس في نوبة من الكآبة، فيما امتنعت دور النشر في أمريكا من طبع الرواية، ما دفعه للاتصال بالآنسة ويفر وسؤالها إن كانت تتمكن من طباعتها في لندن، فعرضت الرواية على (فرجينيا وولف) التي وجدت فيها قبحاً كثيراً، وكتبت للناشرة: «وكأنها انتشار للدمامل على جسد ماسح الأحذية في فندق كلاريدج»، وحين عرضت على (د. هـ. لورنس) اعتبرها رواية بذيئة جداً، وبعد أن أيقن جويس أنه لا يوجد أي ناشر في نيويورك أو في لندن مستعد لنشر يوليسيس كتب إلى شقيقه: «يبدو أن يوليسيس لن تظهر أبداً. لكن الفرج جاء هذه المرة من باريس، فقد قررت دار نشر شكسبير، إصدار ترجمة فرنسية من الرواية، وافق جويس حالاً، وفي أبريل عام 1922 صدرت الطبعة الفرنسية، التي تلقف نسختها الأولى (إرنست هيمنغواي)، ليكتب عرضاً نقدياً لها معتبراً يوليسيس: «كتاباً رائعاً بحق الجحيم»، وحدق إليه (وليم فوكنر) وهو جالس في أحد المقاهي ولم يجرؤ على مخاطبته تبجيلاً واحتراماً، وعرض (سكوت فيتزجيرالد) على جويس أن يسمح له بالقفز أمامه، ونفدت نسخ الطبعة الأولى وكانت 2000 نسخة، وفي عام واحد تمّت طباعة الرواية سبع طبعات أخرى، ما دفع دور النشر الأمريكية إلى محاولة إصدار نسخة من الرواية، لكن قرار المحكمة كان لا يزال سارياً، فقام عدد من الأدباء ومنهم عزرا باوند وفيتزجيرالد بإقامة دعوى قضائية لإزالة المنع، حيث سُمح عام 1922 بنشر الرواية، فقامت دار نشر (رانوم هاوس) بإرسال الرواية إلى المطبعة، لتصدر في نهاية العام النسخة الإنجليزية الأولى، وعلى مدى عشرة أيام بيع منها 33000 الف نسخة، وقد تعهد إليوت بنشر الرواية في إنجلترا فدفعها إلى المطبعة عام 1924 بعد أن كتب لها مقدمة بعنوان (النظام والأسطورة في يوليسيس) اختتمها بالعبارة المؤثرة التالية: «إنني اعتبر هذا الكتاب أهم تعبير عن عصرنا الحالي، وإنه لكتاب نحن جميعاً مدينون له، وليس من أحد يمتلك القدرة على الهرب منه».