« يوليسيس “ تزداد إشكالا في الذكرى  المئوية لولادتها الصعبة

« يوليسيس “ تزداد إشكالا في الذكرى المئوية لولادتها الصعبة

سناء عبد العزيز

في الثاني من شباط من كل عام يحتفل العالم بميلاد الكاتب الأسطورة جيمس جويس 1882، لكن هذا العام يصادف الذكرى المئوية لصدور روايته “عوليس” (أو يوليسيس) كاملة للمرة الاولى. إنها الرواية التي قسمت تاريخ الأدب إلى ما قبلها وما بعدها،

ووضعت العاصمة الإيرلندية على خريطة المدن الرائدة في الخيال من خلال يوم واحد في حياة البطل السيد بلوم. غير أن الطريق إلى نشر “عوليس” لم يكن سهلاً، فقد أثارت الرواية جدلاً واسعاً في الأوساط الأدبية واستقبلها الكثيرون بالاشمئزاز - حتى أن فيرجينيا وولف على رغم تأثرها الواضح بها، وصفتها بأنها مجرد “هراء».

تهمة وغرامة

بدأ جويس في نشر روايته متسلسلة في مجلة «ذا ليتل ريفيو» مارس (آذار) 1918 بدعم من المحامي جون كوين، ومساعدة كل من مارغريت أندرسون وشريكتها المحررة جين هيب. وفي كانون الثاني (يناير) ومايو (أيار) عام 1919، تم منع جزأين من النشر بعد وصفهما بالفحش والتخريب. تصاعدت وتيرة الأحداث بإرسال جزء منها إلى ابنة محام يعمل في جمعية نيويورك من أجل مكافحة الرذيلة، مما أدى إلى تقديم شكوى رسمية. استمرت إجراءات المحاكمة حتى فبراير 1921، وألزمت كلاً من أندرسون وهيلي دفع غرامة قدرها 50 دولاراً لتجرؤهما على نشر «محتوى فاحش» مع أمر بالتوقف عن نشر بقية الرواية. الغريب في الأمر، والذي يبدو جلياً لكل من قرأ «عوليس»، أن الرواية لا تتضمن مشهداً جنسياً واحداً، اما عدا مشهد استمناء بلوم على ساندي ماونت ستراند، نتيجة لشعوره باللذة تجاه الفتاة الجالسة على صخرة قبالته، ولكنه كان من الوضوح والجرأة حدّ أن أثار الرأي العام.

ربما تكمن الحقيقة في حظر “عوليس” التي صدرت في باريس في 2 فبراير 1922، في ما قالته الكاتبة الإيرلندية آن إنرايت حين منعتها والدتها في سن المراهقة من قراءتها: “كانت والدتي محقة في اعتبارها نصاً خطيراً. الشيء الذي كان المراقبون قلقين بشأنه، هو تصرفات عقولهم غير الخاضعة للرقابة».

في ربيع 1921، تفاخرت سيلفيا بيتش صاحبة مكتبة في باريس، بعزمها على نشرها إذ اعتبرتها تحفة من شأنها “ أن تصنف بين الكلاسيكيات في الأدب الإنجليزي”. كتبت بيتش تقول: “ستجعلني هذه الرواية مشهورة”، وهو ما حدث بالفعل. تقول كيري والش، مديرة معهد الدراسات الإيرلندية في جامعة فوردهام في نيويورك، إن قرار بيتش بالنشر جعلها “بطلة ثقافية في الطليعة».

في 2 فبراير 1922، نشرت أول طبعة من الرواية المحظورة، في عيد ميلاد جويس الأربعين. لكنها منعت من التداول في بريطانيا، ووضعت في القائمة السوداء حتى عام 1934 إلى أن أصدر القاضي جون إم وولسي حكمه التاريخي الذي قضى بأن “عوليس” ليست فاحشة على الإطلاق.

تبدأ عوليس في 16 يونيو(حزيران) 1904 في الساعة 8 صباحاً وتنتهي في وقت ما بعد الساعة 2 في فجر اليوم التالي، ممتدة على 18 حلقة، كل فصل منها يستغرق ساعة واحدة تقريباً من اليوم، مشيرة إلى حلقة نظيرة في ملحمة هوميروس “الأوديسيه”، بالإضافة إلى لون معين، وفن أو علم معين، وعضو جسدي. ويمثل أوديسيوس (عوليس)، وبينيلوب، وتيليماتشوس في شخصيات ليوبولد بلوم، وزوجته مولي بلوم، وستيفن ديدالوس، فرصة لمقارنة شخصيات الرواية بنماذج هوميروس. قلل جويس من أهمية التراسلات الأسطورية بإلغاء عناوين الفصول، بحيث يمكن قراءة العمل بشكل مستقل عن هيكله الهوميري.

هكذا يمكن قراءة “عوليس” كدراسة لدبلن تستكشف جوانب مختلفة من حياة المدينة، وهو ما جعل جويس يدعي أنه إذا تم تدمير دبلن في كارثة ما، فيمكن إعادة بنائها باستخدام عمله كنموذج، لا سيما وأنه استخدم طبعة 1904 من دليل ثوم - وهو عمل يُدرج أصحاب -ومستأجري - كل عقار سكني وتجاري في المدينة، للتأكد من دقة أوصافه. يمثل هذا المزيج من الكتابة المتغيرة، والاعتماد على مخطط رسمي لهيكلة السرد، والاهتمام الرائع بالتفاصيل إحدى مساهمات الكتاب الرئيسة في تطوير الأدب الحداثي في القرن العشرين.

في نسخة مصورة

في أواخر الثمانينيات، عانى الرسام الأسباني إدواردو أرويو من مرض خطير استغرق شفاؤه وقتاً طويلاً، وما ساعده في التغلب على هذه المحنة كما أعلن مرات، هو اندماجه التام والمبهج في تخطيط عوليس بالرسوم التوضيحية.

كان الغرض من المشروع الاحتفال بالذكرى الخمسين لوفاة جويس، ومع ذلك، فإن إحجام حفيد جويس، ستيفن جويس، عن الموافقة على المشروع حال دون إتمامه. ادعى ستيفن بأن جده لم يكن يرغب في أن يتم تصوير الرواية على الإطلاق، على الرغم من أنه لم يقدم أي وثيقة تثبت هذا الادعاء. لكن أرويو واصل العمل على رسوماته بمساعدة الكاتب جوليان ريوس في مراحله الأولى، ما أسفر عن المشروع التحريري الأكثر طموحاً في مسيرة الفنان: 134 رسماً توضيحياً ملوناً وما يقرب من 200 رسم بالأبيض والأسود. وفي عام 2011 - بعد سبعين عاماً من وفاة جويس - دخلت أعماله في المجال العام، لتتيح الفرصة لأرويو أخيراً بالظهور جوار رواية جويس قبل وفاته بقليل.

الرقم مصدر كل الأشياء

لم تكن الكلمات بالنسبة لجويس هي قوام الأدب فحسب، بل أيضاً الأرقام والمقاييس، والأشياء التي حين يتم ربطها معاً بطريقته الجامحة المذهلة، تكتسب ضوءاً آخر، بريقاً جديداً، لتصبح بمثابة صلاة حتى لو جاءت من مؤلف نبذ الكاثوليكية، ولكن حساسيته العددية حافظت على تقديره لطقوسها.

كان الفيثاغوريون هم أول من بدأوا في اقتراح وجود نظام متطور من التشابهات العددية بين الطبيعة والكون. فقد اعتقدوا أن الأرقام لا تمتلك سمات العقل، والرأي، والوئام، والعدالة فحسب، بل أيضاً، افترضوا أن عناصر الأرقام هي عناصر كل شيء، وأن الكون كله نسبة أو عدد. وفكرة أن الرقم هو شيء يمكن رؤيته وسماعه وقراءته لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.

ستيوارت جيلبرت هو أول قارئ طبق هذه الفكرة على “عوليس”. في دراسته عام 1930، تعامل مع الرواية على أنها سلسلة من المتغيرات الموضوعية التي يمكن وضعها في معادلة للمساعدة في فك شفرة “بنية الكتاب ككل”. يشرح في الصفحة الأولى: “إن عوليس مثل كل الروايات الملحمية، استطرادية”. وأن “هناك ثلاثة أقسام رئيسة، مقسمة إلى فصول أو بالأحرى حلقات”. ويضيف أن المعنى الوارد في هذه الحلقات المتفرعة “ضمني في التقنيات... في الفروق الدقيقة في اللغة، في ألف وواحد من التراسلات والتلميحات التي رُصِّع بها الكتاب».

كان هذا المخطط، بالنسبة لجون كيد بعد خمسين عاماً، دليلاً كافياً على وجود نمط رقمي أكثر تفصيلاً في الانتظار. في مقدمته لطبعة دبلن، كتب: “لا ينبغي أن يفاجئ أحد أن جويس، الذي خصص لوناً وعضواً سائداً من الجسد لكل فصل من فصول “عوليس”، وبنى سقالات ضخمة من مراسلات هوميروس، قام بعدّ الحروف والكلمات والجمل والفقرات والصفحات».

في كانون الثاني، أصيب جويس بآلام لم يكن من الممكن التخلص منها إلا بالمورفين. وفي اليوم التالي، وهو يتلوى مثل سمكة، نُقل إلى مستشفى الصليب الأحمر. هناك تم تشخيص حالته بقرحة الاثني عشر المثقوبة التي لم يتم تشخيصها لسنوات، وخضع لجراحة على الفور. في وقت لاحق، تم نقل الدم إليه من جنديين من نوشاتيل، وهي منطقة معروفة بالنبيذ الذي كان يستمتع به جويس كثيراً. كان يقترب من عامه الـ 60. بعد بضع ساعات، دخل في غيبوبة وتوفي في 13 يناير 1941 – الرقم الذي كان يعتبره دائماً غير مناسب للسفر، والذي أشار به إلى الرجل الذي ظهر للمرة الأولى في جنازة ديغنام التي حضرها بلوم مع أحد عشر مشيعاً آخر. عندما كان حفارو القبور على وشك إنزال التابوت في القبر، لاحظ بلوم شخصاً آخر: “الآن من هو ذلك الرجل ذو المظهر النحيل المرتدي معطف الماكينوتش، دائماً ما يحضر شخص ما لم تحلم به أبداً”. يلاحظ بلوم أنه بوجود هذا الشخص ذي المظهر النحيل، يصبح عدد المعزين 13 “رقم الموت”، كما يعتقد بلوم. وهو اليوم الذي رحل فيه جويس عن عالمنا، حتى لو اعترف بأنها مجرد “خرافة سخيفة».

عن الاندبندنت