هجاء الخديوي بين المنفلوطي والملا عثمان الموصلي

هجاء الخديوي بين المنفلوطي والملا عثمان الموصلي

رفعة عبد الرزاق محمد

كنت قد كتبت قبل سنوات عن هذه الصفحة المطوية التي لم يشر اليها ممن كتب عن سيرة هذا الموسيقار العملاق، سوى اشارة عابرة للاستاذ محمود العبطة المحامي في كتابه الموسوم (الملا عثمان الموصلي في بغداد).فمن سيرة الملا عثمان الموصلي، الشخصية الادبية والفنية الشهيرة،

التي لم يشر اليها ممن كتب عن سيرة هذا الموسيقار العملاق، والاديب الرائد التي كتب عنها وعن مآثرها الكثير. ففي رحلته الى مصر التي استمرت خمس سنوات العديد من الذكريات والصفحات المنسية الجديرة بالتحقيق والتنويه لما تحمله من طرافة وجرأة ودلالة. واليوم عرفت بعض التفصيلات عن مجمل القضية الطريفة استحسنت اضافتها الى المقال.

ففضلا عن اصداره مجلة في مصر باسم (المعارف) في مايس 1897 وكانت مجلة (علمية سياسية تاريخية ادبية اخبارية) كما جاء في مقدمتها، وهي الاخرى لم يشر اليها المؤرخون الا اشارة سريعة لدى كتاب (تاريخ الصحافة العربية) للفيكونت فيليب طرازي، فأن عثمان الموصلي قد عقد في الخمس سنوات التي قضاها في مصر صلات بجهات ادبية وفنية مصرية مختلفة كما شارك في العديد من الحوادث الطريفة ومنها التي نذكرها في هذه المقالة.

في عهد حاكم مصر الخديوي عباس حلمي، كانت تصدر في القاهرة مجلة ادبية باسم (الصاعقة) معارضة لحكم هذا الخديوي، وفي احدى السنوات عندما عاد الخديوي من رحلته الصيفية الى الاسكندرية، نشرت الصاعقة لصاحبها الشاعر احمد فؤاد في صفحتها الاولى قصيدة في هجاء الخديوي، ومنها:

قدوم ولكن لا اقول سعيد وملك وان طال المدى سيبيد

تذكرنا رؤياك ايام انزلت علينا خطوب من جدودك سود

رمتنا بكم مقدونيا فاصابنا مصوب سهم باللاء سديد

فلما توليتم طغيتم وهكذا اذا اصبح عباس وهو عميد

كأني بقصر الملك اصبح بائد من الظلم المبنى مبيد

اعباس ترجو ان تكون خليقة كما ود ابناء ورام جدود

فيا ليت دنيانا تزول ويا ليتنا نكون ببطن الارض حين تسود

وقد روى الاستاذ عباس محمود العقاد البيتين الثالث والرابع بصورة مختلفة، واضاف ان التغيير جاء في الرواية المسموعة للقصيدة، وهي تختلف عن نصها المنشور (العقاد، رجال عرفتهم، كتاب الهلال 1963 ص 102)، غير اننا نرى ان البتين هما كما جاءا في معارضة الملا عثمان لها كما سنرى.

يذكر الدكتور علي شلش في مقدمة كتابه عن المنفلوطي (سلسلة الاعمال المجهولة، دار رياض الريس، 1987، ص 27):

في نوفمبر 1897 أي بعد اكثر من خمس سنوات على صفاء الجو بين الخديوي عباس حلمي والشاعر محمد توفيق البكري وهو من أسرة الاشراف المنتسبين لال البيت النبوي، قام الخديوي بزيارة الى الوجه البحري في الدلتا، عدها انصاره دليلا على التفاف الشعب حوله، ولما عاد الخديوي الى العاصمة استقبله انصاره بالتهليل. ولكن مفاجأة كانت في انتظاره،فقد ظهرت فجأة في شوارع القاهرة قصيدة هجاء عنيفة له مطبوعة علة ورقة واحدة، دون ذكر للناظم او الشاعر او الناشر. وتحركت قوى الانصار والخصوم على حد سواء على الفور، وتحرك الانكليز للاستفادة من الموقف. ولما بلغ امر القصيدة الخديوي اتهم صديقه القديم البكري بتأليفها، وطلب من وزير الداخلية التحقيق وتقديم البكري الى المحاكمة. وتوصلت عيون الشرطة الى شخصين كان لهما ضلع بالموضوع، احدهما هو احمد فؤاد صاحب جريدة (الصاعقة) ومحررها، والاخر شاب يدرس في الازهر هو مصطفى لطفي المنفلوطي.

واهتزت مصر لهذه القصيدة واعتقل صاحب المجلة على اعتبار انه ناظم القصيدة، واعترف بذلك، لكنه بعد ذلك تراجع وغير اقواله وقال ان صاحب جريدة المؤيد الشيخ علي يوسف اعطاه نسخة من القصيدة وطلب نشرها مقابل مبلغ بشرط ان يقول اذا استجوب ان صاحب المقطم والشيخ البكري هما اللذان اعطياه القصيدة. غير ان صاحب المطبعة اعترف بالحقيقة، فقال ان الصحفي احمد فؤاد احضر القصيدة وكان معه الاديب مصطفى المنفلوطي، فالقي القبض على المنفلوطي الذي اعترف بانه هو الذي نظم القصيدة ولم يكن ينوي نشرها.

وحتى تقضي السلطة على الضجة، كلفت سليم سركيس الذي كان يصدر مجلة (المشير) بالبحث عن شاعر له القدرة على تحويل القصيدة المذكورة من هجاء الى مدح، ولم يجد سليم سركيس افضل من شاعر عراقي ضرير نزح من الموصل الى مصر واسمه الشيخ عثمان الموصلي او عثمان الضرير يقوم بالمهمة لمقدرته الادبية والشعرية وله من المزايا ما يفوق على اكبر الشعراء المصريين وله من سرهة البديهة الشيء العجيب.

قام الموصلي بتشطير القصيدة بحيث ادى التشطير الى قلب معنى القصيدة الاصل، ونشرت (المشير) التشطير الا انه ــ مع الاسف ـ لم يصلنا كاملا في المصدر الذي نعتمده، وهو العدد الخاص من مجلة (الهلال) القاهرية بمناسبة مرور مئة عام على صدورها (الهلال يناير 1991 الصفحة 86) ومنه:

(قدوم ولكن لااقول سعيد) على فاجر هجو الملوك يريد

لاضرابه بيت من اللؤم عامر (وملك وان طال المدى سيبيد)

(رمتنا بكم مقدونيا فاصابنا) رخاء عن الجدب المبيد بعيد

وقدم احمد فؤاد وصاحب المطبعة والمنفلوطي الى المحاكمة، وقد دافع احمد فؤاد عن نفسه بدفاع مثير اثبت فيه صحة ما ورد في قصيدة الهجاء من حقائق عن الاسرة الخديوية المالكة في مصر. وبعد عدة جلسات صدرت الاحكام ببراءة صاحب المطبعة لانه استأجر على طبعها، ولم تاخذ المحكمة بدفاع المنفلوطي فحكمت عليه بالحبس لمدة سنة واحدة وغرامة قدرها مائة وخمسون جنيها وعلى احمد فؤاد بالحبس سنة كذلك وغرامة ثلاثة الاف قرش، وحين عرضت القضية امام محكمة الاستئناف خففت مدة السجن لكل منهما الى ستة اشهر. وكانت النيابة قد رأت ان التهمة غير متحققة بالنسبة لمحمد توفيق البكري فلم تقدمه للمحاكمة..