د. قيس كاظم الجنابي
كتب مصطفى لطفي المنفلوطي (1876-1924م) عدة مؤلفات، ضمّنها بعض الموضوعات المترجمة، ولكن لكتابيه:(النظرات)،و(العبرات) نكهة خاصة ووقع مازال معروفاً في الأوساط الثقافية ؛ وكانت مثل هذه الكتابات تعد من القصص المبكرة المتأثرة بالأدب الأوربي الرومانسي والتربوي،
وصفها بعض الدارسين بأنها قصص غير ناضجة، عالجت فيها مواقف اجتماعية وانسانية عديدة، فاهتم بشخصيات بائسة، كاللقطاء وضحايا الخمر والمعدمين والمظلومين،واعتمد فيها على طريقته البيانية الأخاذة، وقصد من ورائها الى غايته الأدبية العامة، وهي التهذيب وتعميق الاحساس بالفضيلة والخير، ومحاربة المفاسد والعيوب الاجتماعية.
لقد عاصر المنفلوطي بواكير نشأة القصة والمقالة، فأدلى بدلوه، مستفيداً من قراءة الأدب الغربي، وما ترجمه من نصوص تضنها كتاباه، ملقياً ظلال شخصيته وقلمه على ما ترجمه، وكان كتابه (النظرات) فاتحة لشهرة كبيرة،ومقدرة على كتابة المقالة الأدبية، وغير الأدبية كالسياسية والاجتماعية، ولربما داخل بعضها مع البعض الآخر، أو تداخلا مع المقالة الأدبية، فالقلم سيال،والعبارات تتدفق، والوجدان مشحون بطاقة هائلة من العواطف والإنفالات والمستجدات والتأثيرات، ولكن كتابيه ومختاراته تعد المفتاح لنشأة كاتب مقالة منشئ له دراية وبحث ومزاج في هذه الكتابة، فقد استطاع ان يتخطى محاكاة التراث العربي وأدب الرسائل القديم، لتبدو في مقالاته شخصيته وطريقته الخاصة به،وهي الاتجاه المحافظ – البياني،وهي متنوعة في الأدب والاخلاق والاجتماع، مع رعاية جمال الأسلوب، فكانت طريقته وسطاً بين اتجاهين، واحد متشبث بالتراث،والآخر الابتعاد عن التكلف، مع تجويد الصياغة ورعاية جانب البيان، قليل السجع.
أنواع المقالة:
يمكن تصنيف المقالة لدى المنفلوطي، ولكنه يدعو مقالاته بالرسائل الأدبية، وهي قريبة في موضوعها وأسلوبها من المقالة الأدبية، لهذا يقول في مقدمة كتابه (النظرات):” اني ما استطعت أن أكتب لهم تلك الرسائل بهذا الأسلوب الذي يزعمون أنهم يعرفون لي الفضل فيه، الا لأنّي استطعت أن أنفلت من قيود التمثل والاحتذاء، وما نفعني في ذلك شيء ما نفعني ضعف ذاكرتي والتواؤها عليّ وعجزها عن أن تمسك الاّ قليلاً من المقروءات التي كانت تمرُّ بي، فقد كنت أقرأ من منثور القول ومنظومه ما شاء الله أن أقرأ، ثملا لا ألبث أن أنساه فلا يبقى منه في ذاكرتي الا جمال آثاره وروعة حسنه ورنة الطرب فيه”.
وقد كتب المنفلوطي عدة أنواع من المقالة:
1. المقالة السياسية:
وهي المقالة التي تختلف عن المقالة الأدبية،أو المقالة الاجتماعية، لأنه تهتم بمجال العمل السياسي ونقده اجتماعياً، فهي بالتالي مقيدة بموضوع واحد لا تحيد عنه. ومقالة المنفلوطي السياسية يجري بثها أحياناً، من خلال الاسهاب والشرح والتحليل،واستخدام المقابلة في الصفات والنوايا والنوازع، لرفع شأن المؤيدين والحطّ من شأن الخصوم. مع استخدام أسلوب المفارقة الساخرة والتندر.
2.المقالة الاجتماعية:
وهي المقالة التي تبحث في قضايا الناس الاجتماعية، مثل قضايا الزواج والأسرة والمرأة والعادات والتقاليد، وهي موضوعات تهم مصلحة غالبية الناس من السواد الأعظم من الجماهير، ويمكن أن تلتقي مع المقالة التربوية والأخلاقية والنفسية، أو المقالة المخصصة للنقد الاجتماعي، فتشكل نوعاً موحداً تجمع فيه بين علم الاجتماع وعلم النفس والهموم اليومية للإنسان،وهي تقوم من الناحية الفنية على أسلوب العرض المسهب الذي كان يقوم على التمثيل والاستشهاد من الأدب قديمه وحديثه.
3. المقالة القصصية:
وغالب مقالات المنفلوطي، في كتابيه:(النظرات)، و (العبرات)؛ تنحو تجاه السرد القصصي،لأنه يتخذ الاطار القصصي بصورة عامةً قالباً لتقديم آرائه ومواقف وافكاره بالطبع، وهو لا يبحث فيها عن القيم الفنية للمقالة (عناصر بناء القصة القصيرة)، وإنّما يكتفي باستخدام أسلوب الحكي (مجرد الحكي) أو الاخبار والحوار بين شخصيتين بطريقة تتقدم بالفكرة الى الأمام،ويتوقف نجاحه على قدرته في تحبيب موضوعه الى القارئ وسيطرته على مشاعره وتأثيره فنياً عليه، فالجانب القصصي يشكل ضرباً من التنوع في القالب المقالي،وهي وسيلة للسيطرة على القارئ اعتماداً على ما تكون قد استعارته المقالة من فن القصة الذي يمتاز بخاصية التشويق والسيطرة.
والمعروف أنّ المقالة القصصية، تقوم على السرد وتأليف بعض الحكايات والقصص المنتزعة من العادات والتقاليد. وهي تلتقي مع المقالة الاجتماعية من هذا الجانب، لكن الجانب الفني للسرد هو المهمز ومن مقالات المنفلوطي القصصية قوله في (مناجاة القمر) من كتاب (النظرات):”” كان لي حبيب يملأ نفسي نوراً، وقلبي لذة وسروراً، وطالما كنت أناجيه ويناجيني بين سمعك وبصرك، وقد فرّق الدهر بيني وبينه، فهل لك أن تحدثني عنه، وتكشف لي عن مكان وجوده؟ فربما كان ينظر اليك نري،ويناجيك مناجاتي، ويرجوك رجائي”.
4.المقالة الأدبية:
والمقالة الأدبية قطعة نثرية محدودة الطول والموضوع تكتب بطريقة عفوية سريعة خالية من الكُلفة والرهق وشرطها الأول أن تكون تعبيراً عن شخصية الكاتب. وهي تنقسم الى نوعين:
الأول، المقالة الانشائية، وهي التي يبتدعها الكاتب ابتداعاً من دون أن يتكئ على عمل ما، وهي تعالج ظاهرة أدبية معينة،وتكون أقرب الى الأجناس الأدبية الأخرى، كالقصة والقصيدة والمسرحية والخاطرة.
الثاني، وهو المقالة النقدية، التي تسلك سبيل الكتابة الابداعية غير المنهجية التي تتوصل بالمناهج،ويبرز فيها الجانب الذاتي والتأثري الانطباعي بوضوح.
وقد قسّم (عويضة) المقالة الأدبية لدى المنفلوطي الى نوعين:
الأولى، مقالة أدبية خالصة، وتعتبر قطعة أدبية لها موضوع واضح وذات طابع فني،وطريقة اداء، وموضوعها ينبعث من نفس الكاتب واحساسه ومشاعره،وتعكس تجاربه في الحياة وأفكاره عنها، فهي صدى التأمل والاحساس معاً في موضوعات يغلب على الشعراء طرقها وقد يتعرض المفكرون لبعضها.
الثانية، مقالة أدبية مقيدة بموضوع لا تحيد عنه، ومن ثم اكتسبت جلّ خصائصها من تقييدها بهذا الموضوع وهي مقالات الرثاء.
في موضوعات المقالة:
لموضوعات المقالة أهمية خاصة، في التحليق والوصف والقص والتعبير، فمقالة المنفلوطي (الحب والزواج) ذات طابع انشائي واضح، وفيها شيء من السرد الحكائي، والتي يقول فيها:
” قرأت في بعض المجلات قصة قصها أحد الكتاب موضوعها أنّ كاتبها غاب عن بلده بضعة أعوام، ثم عاد اليها بعد ذلك زار صديقاً له من أسرياء الرجال ووجوههم ومن ذوي الأخلاق الكرية والأنفس العالية، فوجدته حزيناً كئيباً على غير ما يعهد من حاله قبل اليوم فاستفهم منه عن دخيلة أمرة، فعرف أنه كان متزوجاً من فتاة يحبها ويجلها ويفديها بنفسه وماله فلم تحفظ صنيعه ولم ترع عهده، وأنها فرت منه الى عشيق لها رقيق الحال وضيع النسب”.
وهذه الموضوع الذي كتبه المنفلوطي، تعبير عن نزعة الكاتب القصصية من الناحية الفنية، والأخلاقية والتربوية من الناحية الاجتماعية، ولكن الدارسين يعتقدون بأن القيمة الأساسية للمقال الأدبي، ليست في أفكاره التي يحويها، لأن الأفكار ليست كل شيء في المقالة؛ فالعمل الأدبي لا يعتمد على صحتها من الناحية العقلية والعلمية بقدر ما يعتمد على طريقة تجليتها وعرضها في حلّة أدبية رائعة، وهذا الحق ميزة النص الأدبي دائماً.
ويأتي لاحقاً دور الصياغة،لأن المقالة تعتمد بشكل كبير ككل الفنون الأدبية على الصياغة، لأن البراعة في الصياغة سبب قوي من أسباب المتعة التي يجدها القارئ ويطرب لها في تذوق الفن الأدبي.
وفي الجزء الثاني تطور لديه فن الانشائية الى المقالة الفكرية أو النقدية التي تتناول الكتب والموضوعات، كما في مقالته (تأبين فولتير) التي قال فيها:” ما مات “فولتير” حتى احدودب ظهره تحت أثقال السنين الطوال، وأثقال جلائل الأعمال،وأثقال الأمانة العمى التي عرضت على السموات والأرض، فأُبيّنَ أن يحملنها، فحمله وحده وهي تهذيب السريرة الانسانية فهذبها، فاستنارت، فاستقام أمرها”.