مصطفى لطفي المنفلوطي.. جذبه الأدب وسجن للعيب في الذات الخديوية

مصطفى لطفي المنفلوطي.. جذبه الأدب وسجن للعيب في الذات الخديوية

إعداد- سماح عادل

“مصطفى لطفي المَنْفَلُوطي” هو “مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المنفلوطي” من الأدباء الذين كان لطريقتهم الإنشائية أثر في الجيل الحاضر، وكان يميل إلى مطالعة الكتب الأدبية كثيراً، ولزم الشيخ “محمد عبده” فأفاد منه.

وسجن ستة أشهر لقصيدة قالها تعريضاً بالخديوي “عباس حلمي” وكان على خلاف مع “محمد عبده”، ونشر في جريدة “المؤيد” عدة مقالات تحت عنوان (النظرات)، وولي أعمالاً كتابية في وزارة المعارف ووزارة الحقانية وأمانة سر الجمعية التشريعية، وأخيراً في أمانة سر

المجلس النيابي.

حياته..

ولد “مصطفى لطفي المنفلوطي” في منفلوط إحدى مدن محافظة أسيوط في سنة 1876، ونشأ في بيت كريم توارث أهله قضاء الشريعة ونقابة الصوفية قرابة مائتي عام، ونهج “المنفلوطى” سبيل آبائه في الثقافة والتحق بكتاب القرية كالعادة المتبعة في البلاد آنذاك فحفظ القرآن الكريم كله وهو دون الحادية عشرة، ثم أرسله أبوه إلى الأزهر بالقاهرة تحت رعاية رفاق له من أهل بلده، وقد أتيحت له فرصة الدراسة على يد الشيخ “محمد عبده” وبعد وفاه أستاذه رجع “المنفلوطى” إلى بلده حيث مكث عامين متفرغا لدراسة كتب الأدب القديم فقرأ ل”ابن المقفع” و”الجاحظ” و”المتنبي” و”أبى العلاء المعري” وكون لنفسه أسلوبا خاصا.

كان يميل في نظرياته إلى التشاؤم، فلا يرى في الحياة إلا صفحاتها السوداء، فما الحياة بنظره إلا دموع وشقاء، وكتب قطعة (الأربعون) حين بلغ الأربعين من عامه، وقد تشاءم فيها من هذا الموقف، وكأنه ينظر بعين الغيب إلى أجله القريب.

الكتابة..

تتميز كتابة “المنفلوطي” بصدق العاطفة في آرائه واندفاعه الشديد من أجل المجتمع، وقد استطاع أن ينقذ أسلوبه النثري من الزين اللفظية والزخارف البديعية، ولكن عيب عليه ترادفه وتنميقه الكثير، واعتناؤه بالأسلوب المصنوع دون المعنى العميق.

“للمنفلوطى” أعمال أدبية كثيرة اختلف فيها الرأي وقد خرجت أعمال “المنفلوطى” للناس من خلال ما كان ينشره في بعض المجلات الإقليمية كمجلة “الفلاح” و”الهلال” و”الجامعة” و”العمدة” وغيرها ثم انتقل إلى أكبر الصحف وهى “المؤيد” وكتب مقالات بعنوان “نظرات” جمعت في كتاب تحت نفس الاسم على ثلاثة أجزاء.

ومن أهم كتبه ورواياته: (النظرات (ثلاثة مجلدات)- العبرات- الفضيلة-الشاعر (ترجمة للرواية الفرنسية لبلزاك)- مختارات المنفلوطي- ماجدولين).

“النظرات” (ثلاث أجزاء). ويضم مجموعة من مقالات في الأدب الاجتماعي، والنقد، والسياسة، والإسلاميات، وأيضاً مجموعة من القصص القصيرة الموضوعة أو المنقولة، جميعها كانت قد نشرت في الصحف، وقد بدأ كتابتها منذ العام 1907.

“العبرات” يضم تسع قصص، ثلاثة وضعها “المنفلوطي” وهي: “الحجاب”، “الهاوية”، وواحدة مقتبسة من قصة أمريكية اسمها “صراخ القبور” للكاتب “جبران خليل جبران”، وجعلها بعنوان: “العقاب”. وخمس قصص عربها المنفلوطي وهي: “الشهداء”، “الذكرى”، “الجزاء”، “الضحية”، “الانتقام”. وقد طبع الكتاب في عام 1916، وترجمه “باقر المنطقي التبريزي” هذا الكتاب إلى الفارسيَّة بعنوان “قطره های اشك”.

رواية في “سبيل التاج” ترجمها “المنفلوطي” من اللغة الفرنسية وتصرف بها، وهي أساساً مأساة شعرية تمثيلية، كتبها “فرانسو كوبيه” أحد أدباء القرن التاسع عشر في فرنسا. وأهداها “المنفلوطي” إلى “سعد زغلول” في عام 1920.

رواية “بول وفرجيني” صاغها “المنفلوطي” بعد ترجمته لها من اللغة الفرنسية وجعلها بعنوان “الفضيلة”، وتسرد هذه القصة عدة أحداث لعل من أهمها الحب العذري ل”بول وفرجيني” لبعضهما جدا والمكافحة في سبيل أن يبقى هذا الحب خالدا للأبد في قلوبهم الندية، والقصة في الأصل من تأليف الكاتب “برناردين دي سان بيير”، وهو من أدباء القرن التاسع عشر في فرنسا وكتبت في العام 1789.

رواية “الشاعر” وهي في الأصل بعنوان “سيرانو دي برجراك” عن الشخصية بنفس الاسم للكاتب الفرنسي “أدموند روستان”, وقد نشرت باللغة العربية في العام 1921.

رواية “تحت ظلال الزيزفون” صاغها “المنفلوطي” بعد أن ترجمها من اللغة الفرنسية وجعلها بعنوان “مجدولين” وهي للكاتب الفرنسي “ألفونس كار”.

نشر في كتاب “العبرات” عن رواية “غادة الكاميليا” للكاتب الفرنسي “ألكسندر دوماس الابن” وقد ترجم رواية “اتالا” للروائي الفرنسي “الفيكونت دوشاتوبريان”.

كتاب “محاضرات المنفلوطي” وهي مجموعة من منظوم ومنثور العرب في حاضرهم وماضيهم. جمعها بنفسه لطلاب المدارس وقد طبع من المختارات في جزء واحد فقط.

كتاب “التراحم” وهو عن الرحمة التي هي من أبرز صفات الله الذي وصف نفسه بأنه الرحمن الرحيم فهذا الموضوع (لو تراحم الناس ما كان بينهم جائع ولا عريان ولا مغبون ولا مهضوم ولفقرت العيون من المدامع واطمأنت الجنوب في المضاجع).

ومن رسائله التي ضمتها رائعته (النظرات)، رسالة “الأربعون” التي كتبها بعد بلوغه الأربعين من عمره حيث قال فيها: (وداعا يا عهد الشباب، فقد ودعت بوداعك الحياة، وما الحياة إلا تلك الخفقات التي يخفقها القلب في مطلع العمر، فإذا هدأت فقد هدأ كل شيء وانقضى كل شيء!.

الذات الخديوية..

وقف المتهمون الثلاثة أمام محكمة جنح السيدة زينب وهم: صاحب المطبعة “الشيخ محمد الخيامى”، و”أحمد فؤاد”، صاحب المجلة الأدبية الأسبوعية “الصاعقة”، و “مصطفى لطفي المنفلوطي”.. كانوا يواجهون اتهام “العيب في الذات الخديوية” في القضية التي أسمتها بعض الصحف “قضية السفهاء” حسب أحمد شفيق باشا رئيس ديوان الخديوي عباس الثاني في مذكراته، مؤكدا: “هذه القضية شغلت الأفكار مدى حين”.. ووصفها “سعد رضوان” بأنها “هزت مصر”، وذلك في دراسته “عهد جويدان”، ضمن مذكرات “الأميرة جويدان زوجة الخديوي عباس الثاني” عن “دار الهلال-القاهرة”.

عاد الخديوي عباس الثاني من الإسكندرية إلى القاهرة يوم 3 نوفمبر 1897، وفقا لشفيق باشا، مؤكدا أنه في هذا اليوم تم طبع قصيدة تهاجم الخديوي وتوزيعها على الجمهور، ويوضح “سعد رضوان”: “كانت هناك مجلة أدبية اسمها “الصاعقة” يصدرها أسبوعيا صحفي وأديب اسمه “أحمد فؤاد”، وظهر عدد المجلة في نفس يوم عودة الخديوي، وفى صفحته الأولى قصيدة عنوانها: “تهنئة مرفوعة إلى عباس حلمي لمناسبة عودته إلى القاهرة”.. وكان مطلع القصيدة: “قدوم ولكن لا أقول سعيد/وملك وإن طال الملك سيبيد/ تذكرنا رؤياك أيام أنزلت/ علينا خطوب من جدودك سود/ رمتنا بكم مقدونيا فأصابنا/مصوب سهم بالبلاء سديد/ فلما توليتم طغيتم وهكذا/ إذا أصبح عباس وهو عميد/ كأني بقصر الملك أصبح بائدا/ من الظلم والظلم المبنى مبيد/أعباس ترجو أن تكون خليفة/ كما ود آباء ورام جدود/ فياليت دنيانا تزول وليتنا/ نكون ببطن الأرض حين تسود”.

يؤكد رضوان: “اهتزت مصر للقصيدة، وقامت قيامة القصر، وأصدر ناظر الحقانية أمرا إلى النيابة باعتقال صاحب الجريدة والتحقيق معه، واعتقل أحمد فؤاد، فقرر أول الأمر أنه ناظم القصيدة، وسيطبعها مرة ومرات لتنتشر بين الناس، وإن كان يأسف على شيء، فهو أسفه على أن عدد المجلة تأخر في الطبع”.

عاد أحمد فؤاد وغير أقواله في التحقيقات، وحسب رضوان: “قرر أن على يوسف صاحب جريدة المؤيد أعطاه نسخة القصيدة، وطلب منه نشرها، ودفع له مالا مقابل ذلك على أن يقول إذا سئل عنها، إن صاحب جريدة المقطم والشيخ محمد توفيق البكري هما اللذان أعطياها له، وأمر وكيل النيابة يوسف سليمان إزاء هذا التضارب في أقوال الرجل، باستدعاء صاحب المطبعة الشيخ محمد الخيامي التي طبع فيها العدد، وقال الخيامى إن أحمد فؤاد أحضر القصيدة، وكان يرافقه مصطفى لطفي المنفلوطي، فقبض على المنفلوطي الذي اعترف بأنه ناظم القصيدة، ولكنه لم يكن ينوى نشرها”.. يؤكد رضوان، أن القصيدة ذاعت في مصر، وتم تداولها لدرجة أن طلبة المدارس كانوا ينسخونها باليد ويبيعونها لبعضهم وغيرهم، ففكر رجال القصر في مواجهة هذا الانتشار، فاهتدوا إلى حيلة غريبة وهى، أن يقلب شاعر أبيات القصيدة، أي تحويلها من ذم إلى مدح، للقضاء كلية على أي أثر سلبي لها، حسب تأكيد رضوان، مضيفا: “كان هناك صحفي اسمه سليم سركيس يصدر مجلة “المشير”، كلفته سلطات القصر بأن يعثر على شاعر يقوم بهذه المهمة، فجاء بالشيخ عثمان الموصلي، وقام بقلب القصيدة، بأن يأخذ كل شطر من أبياتها، ويؤلف من عنده شطرا ثانيا له على نفس الوزن في مديح الخديوي، ونشرت “المشير” القصيدة “المقلوبة” ومن أبياتها: “قدوم ولا أقول سعيد/ على فاجر هجو الملوك يريد/ رمتنا بكم مقدونيا فأصابنا/ رخاء عن الجدب المبيد بعيد”.

قرر “أحمد فؤاد” مواجهة القصيدة المقلوبة “بفضح العائلة العلوية بطريقة أخرى، فيوم نظرها من المحكمة للقضية بعد أن أحالتها النيابة إليها، وقف المتهمون الثلاثة، ووفقا لسعد رضوان: “يظهر أن أحمد فؤاد كان يعلم أنه سيحكم عليه مهما دافع عن نفسه فانتهزها فرصة للنيل من الأسرة المالكة فقال: “إن الرعية لم تسر حقا بقدوم الخديوي، وإن محبة الرعية الملكية أمر اختياري، وما من ملك إلا وله من لا يسر بقدومه، والملك لا يستطيع إرغام رعيته على محبته، لأن الملك يملك أجسام الناس ولا يملك قلوبهم.. وأنه ليس أول من جاهر وأعلن للناس مظالم الخديوي، فإن أحدا لا ينسى قصة مدفع الوالي سعيد التي نشرتها صحف مصر في وقتها، فقد استورد الجيش مدفعا جديدا من فرنسا، وطلب سعيد تجربته في أحد الميادين العامة، ونقل المدفع إلى ميدان عام، وأمر بإطلاقه فاقترب منه أحد رجال الحاشية، وقال: «هل يأمر أفندينا بأن نتمهل قليلا حتى يمر الناس»، فرد سعيد: “ليس عندي وقت، أطلق النار فنحن لم نستلم الناس بالعدد”، وأضاف “فؤاد” وقائع أخرى، منها أن الخديوي إسماعيل أراد جمع مبلغ من المال، فصنع شارات جوخ وزعها على أهالي طنطا مقابل خمسمائة جنيه للشارة.. ومنها أن رجال إسماعيل حاصروا مرة بلدة بالوجه القبلي، هرب إليها أحد خصوم إسماعيل فأمر بضربها بالمدافع».

فضح «فؤاد» العائلة العلوية، وقضت المحكمة في جلستها يوم 4 ديسمبر 1897 بسجنه عشرين شهرا وغرامة ثلاثين جنيها مصريا، وحبس مصطفى لطفي المنفلوطي شهرا وغرامة عشرين جنيها، وبراءة الشيخ محمد الخيامى صاحب المطبعة.