القضية المصرية  للمنفلوطي: نصّ مفاجئ من كاتب الدموع والأحزان

القضية المصرية للمنفلوطي: نصّ مفاجئ من كاتب الدموع والأحزان

ابراهيم العريس

((إن قلبي يرتعد فرقاً، أسمع قرقعة في جوف السماء، فهل هي نذر العاصفة التي يريد الله أن يرسلها إلينا؟ أرى الوجوه شاحبة، والعيون حائرة، والجباه عابسة، فهل شعر الناس بويل مقبل انقبضت له صدورهم، واقشعرّت له جلودهم؟. ما هذا المنظر المرعب المخيف؟

ما هذه الضوضاء المرتفعة بالمجادلات والمناقشات في المجتمعات الخاصة والعامة؟ ومن هؤلاء الذين يتصارعون ويتجاذبون ويبغي بعضهم على بعض؟ إن كانوا مصريين فويل لمصر وأهلها ومستقبل الحياة فيها بعد اليوم، فهذا هو شأن الأمم البائدة في أدوار سقوطها واضمحلالها، وفي ساعة وقوفها على حافة الهوة العميقة…)). نعم، لا يمكن للقارئ اللبيب أن يكون مخطئاً في تخمينه إن حاوله. فهذه اللغة لا يمكنها أن تكون سوى لغة المنفلوطي، ذلك الأديب المصري الذي كان ملء الأسماع والأبصار عند بدايات القرن العشرين معروفاً بلغته التفخيمية الجزلة وبمعانيه ونصوصه العاطفية المغرقة في ميلودرامية مدهشة أحبها الناس وطربوا بها عبر روايات وقصص وفقرات متنوعة تجمعت معاً لتوليد ذلك التيار الكتابي الذي سمّي «المنفلوطية» وكان من أهم سماته قدرته على أن يكون مدراً للدموع بشكل متفرد. ومع هذا، من الواضح في هذا النص الذي نذكر منه هنا هذه الفقرة الافتتاحية، أن الكاتب لا يتوخى إسالة الدموع من مآقي قارئه، كما اعتاد أن يفعل، ولكن استثارة الغضب لديهم، وربما لمرة استثنائية في تاريخه الكتابي.

فالنص الذي نتحدث عنه هنا، ليس رواية منفلوطية من النوع المعهود، وليس كلاماً عاطفياً… بل هو بالتحديد كلام في السياسة. وكلام ضمه كتاب قيل عنه عندما صدر في بيروت بعد عقود طويلة من وفاة المنفلوطي، أنه من أعماله المجهولة. والحقيقة أن هذا التوصيف قد يكون صحيحاً وقد لا يكون، لكن المهم أنه يقدم صورة مختلفة عن أدب ما اشتَبه أحد يوماً بأنه يمكن أن يكون سياسياً. لكن المنفلوطي فعلها وكتب «القضية المصرية 1921-1923» هذا النص الذي من الواضح أنه يتبنى فيه مواقف الزعيم الوطني سعد زغلول ويدافع عنها على الضد من خصوم هذا الأخير الذين انشقوا عنه غداة ثورة العام 1919 التي قادها الوفد بزعامة زغلول ضد الإنكليز الذين كانوا يحتلون مصر ويريد شعب هذه الأخيرة التخلص منهم. وبالتالي واضح أن نصّ المنفلوطي إذ أتى وسط صخب وتعقيدات تلك المرحلة المعقدة من التاريخ المصري، وكان واحداً من آخر النصوص التي كتبها، إنما أراد منه الكاتب أن يكون مساهمة منه في الحراك الوطني، ولا سيما في الدفاع عن زغلول ومواقفه. ومن هنا فإن «العاصفة» التي يتحدث عنها المنفلوطي في الفقرة التي نقلناها أول هذا الكلام، هي ذلك الانشقاق الذي قام به وفديون ضد زغلول. وبالتالي فإن من الواضح أننا لسنا هنا بصدد كتاب فكري بل بصدد مجموعة مقالات نشرها المنفلوطي انطلاقاً من رصده لما يحدث. وتؤكد هذا، على أية حال عناوين «الفصول»: العاصفة – إلى خصوم سعد باشا – اليوم الأسود – جريمة الانشقاق – عبرة الدهر – إلى أعدائنا – إلى سعد باشا في منفاه – في أيّ سبيل هذا؟ – ثم ماذا؟ – وأخيرا: تحية الرئيس…

والحقيقة أننا إذا اعتبرنا هذا النص كتاباً سيمكننا أن نقول إن المنفلوطي لم يكتب في حياته سوى كتاب واحد له شكل متكامل. وهذا الكتاب هو هذا الذي يمكن اعتباره على أي حال أقل كتبه شهرة، إلى درجة أن باحثاً معاصراً هو الراحل علي شلش نشره قبل سنوات على أنه ينتمي إلى فئة «الأعمال المجهولة» كما قلنا. ومع هذا ليس هناك أدنى شك في أن مصطفى لطفي المنفلوطي كان طوال عقود من القرن العشرين على الأقل، أشهر الأدباء العرب على الإطلاق، أو بالأحرى كان الكاتب الذي يقرأه ملايين العرب أكثر من غيره. وربما كان أكثر كاتب عربي أنزل الدموع من المآقي، وخلق في ذات كل فرد عربي عالم أحزان كاملاً.

مهما يكن فإن هذا «الكتاب الوحيد» الذي وضعه مصطفى لطفي المنفلوطي، «القضية المصرية من سنة 1921 إلى سنة 1923» كان كما أشرنا، آخر كتاب له، إذ أنه رحل عن عالمنا في تموز (يوليو) 1924. وحسبنا أن نراجع ما كتبه كبار المبدعين العرب في تأبينه عند ذلك حتى تتبين لنا القيمة الكبيرة التي كانت في ذلك الحين لذاك الذي جعله الراحل مجدي نجيب صاحب «كتاب الأحزان» الأول في الأدب العربي. ولكن كيف يمكن أن يكون هذا ممكناً والرجل لم يؤلف سوى كتاب واحد، كتاب سياسي لا علاقة له بالأحزان ولا من يحزنون؟

بكل بساطة، حقق المنفلوطي شهرته الأساسية بفضل نصف دزينة من الكتب ترجمها عن الفرنسية، وتناسى القراء دائماً أنها مترجمة فعاملوها على أساس أنها كتب منفلوطية قرأوها مرات ومرات وبكوا بين صفحاتها وترسخت لديهم تلك النزعة الرومانطيقية، نزعة الشجن الموروثة من آداب القرن التاسع عشر الأوروبية لتجد صدى لها في النزعة العربية العامة إلى الحزن أمام خيبات الربع الأول من القرن العشرين. وهكذا تمكن المنفلوطي، ذو الاتجاه الصحافي والتعليم الأزهري في أول سنواته العملية، تمكن من أن يسم نفسه بالرومانطيقية ومن أن يجعل من كل ما كتبه وترجمه ونسب إليه، حدث أقام الأفئدة العربية ولم يقعدها.

ولد المنفلوطي في 1873 (وفي أعوام أخرى قريبة وفق بعض المصادر)، وبعد دراسة في الأزهر انصرف إلى الصحافة، وخاض في القضية الوطنية إلى درجة أنه سجن في العام 1897 بسبب نشره لقصيدة في هجاء الخديوي نشرت بغير توقيع ولكن سرعان ما تبين أن المنفلوطي ناظمها فسجن. وكان ذلك في مرحلة عرف فيها المنفلوطي الشيخ محمد عبده وإبراهيم المويلحي وتأثر بهما وبما حملاه من أفكار. وهو ظل في المرحلة التالية يكتب المقالات والرسائل وبخاصة في جريدة «المؤيد» وهي الرسائل التي جمعها في العام 1910 تحت اسم «النظرات» ليتبعها بعد خمسة أعوام بمجلد ثان يحمل اسم «العبرات»، وهذان الكتابان اشتهرا بأنهما قد نُشرا وطُبعا أكثر من أي كتاب عربي آخر.

أما بالنسبة إلى الكتب الأخرى، المترجمة أو المعربة، والتي صنعت للشيخ المنفلوطي شهرته ولا تزال تضعه حتى يومنا هذا في مقدمة لائحة أكثر كتّاب العربية انتشاراً، فإن الشيخ بدأ يُعدَّها – على ضعف ثقافته الفرنسية على أي حال – اعتباراً من 1915، حيث أصدر قصة عنوانها «الانتقام» لم يعلن أبداً اسم مؤلفها، وكانت صدرت للمرة الأولى ضمن إطار الطبقة الأولى لـ «النظرات». وبعد «الانتقام» أصدر المنفلوطي في 1917 رواية «تحت أشجار الزيزفون» لألفونس كار، التي حملت ترجمتها العربية عنوان «ماجدولين أو تحت أشجار الزيزفون»، وحققت من النجاح ما جعل الشيخ يعيد الكرة بعد ذلك في العام 1920 حين ترجم «في سبيل التاج» لفرانسوا كوبيه. وفي العام التالي 1921 ترجم رواية ادمون روستان الشهيرة «سيرانو دي برجراك» تحت اسم «الشاعر»، ثم ختم ذلك كله برواية «بول وفرجيني» لبرناردان دي سان بيار، تحت عنوان «الفضيلة».

هذه الأعمال لم تكتف بأن تحقق نجاحاً كبيراً لدى قراء متلهفين لقراءة كل ما من شأنه أن يعظهم ويدر من أعينهم الدموع، بل أنها جعلت للمنفلوطي مكانة متقدمة في الحياة الأدبية المصرية والعربية عبّر عنها، مثلاً، الشيخ عبدالقادر المغربي بقوله، في حفل تأبين جرى في المجمع العلمي العربي في دمشق: «ما كانت مطابع مصر تصدر أثراً من آثار الفقيد حتى يدوّي صداه بين أبناء العرب كافة فيسرعوا إلى اقتنائه، ويعكفوا على دراسته، ويتخذوه قاعدة يحتذون مثالها في تعلم الكتابة والتمرّن على الإنشاء. وهم يجدون في كل كتبه، رحمه الله، نموذجاً للكتابة القديمة الراقية من حيث سهولة التعبير والافتتان في الموضوع وإيداعه ما يلائم أبناء هذا العصر من الأفكار والآراء الحديثة وإفراغ المواضيع في القالب الروائي القصصي الذي يغري بالمطالعة…». أما حافظ إبراهيم فقد نظم في رحيله قصيدة يقول مطلعها: «رحم الله صاحب النظرات/ غاب عنا في أحرج الأوقات/ يا أمير البيان والأدب النضر لقد كنت فخر أم اللغات».

جريدة الحياة 2009