خالد الجادر رسام الطبيعة في لحظات تحليقها

خالد الجادر رسام الطبيعة في لحظات تحليقها

فاروق يوسف

كانت هناك في العراق جماعة فنية اسمها “الانطباعيون” تزعمها الفنان الرائد حافظ الدروبي لم يكن أحد من أعضائها انطباعيا. لكن حتى الرسام العراقي الانطباعي الوحيد لم يكن عضوا في تلك الجماعة.

كان خالد الجادر هو ذلك الرسام الذي كان يرسم بمزاج انطباعي، بل إنه أدار حياته كلها بمزاج انطباعي. لذلك لم يكن جزءا من التاريخ الفني العام بالرغم من أنه كان يقف في صدارة المشهد الفني في العديد من المناسبات. فهو أول من ترأس جمعية الفنانين التشكيليين حين تأسيسها عام 1954 وهو أول عميد لأكاديمية الفنون الجميلة عام 1961.

مدفوعا بمزاجه قرر أن يكون هامشيا على المستوى الفني. فما من أحد من رسامي العراق رسم البيئة التقليدية لبغداد وأريافها مثلما فعل. وهو ما جعله يحرص على البقاء في دائرة أسلوبه الفني الذي لا يخفي إبهاره التقني طابعه التقليدي.

تكمن واحدة من أهم مظاهر تفرده في انحيازه إلى الخط، بالرغم من أنه كان ملونا بارعا. وهو ما ميزه عن سواه من الرسامين. ولأنه كان غزير الإنتاج فقد رسم مئات التخطيطات التي كان يعتبرها لوحات متكاملة. فمن خلال الخط وحده استطاع الجادر أن يستحضر مناظر طبيعية تغص بالألوان.

ينتمي خالد الجادر إلى قلة من الرسامين تنظر إلى الرسم باعتباره مصدرا للمتعة. وقد لا يكون نوعا من المبالغة القول إن الجادر هو الرسام المتعوي الأول في تاريخ الرسم الحديث بالعراق. وهو ما ألقى بظلاله على حياته الشخصية التي عاش الجزء الأكبر منها مسافرا. لقد رسم كل ما رآه من تحولات الطبيعة فكانت رسومه تؤرخ لأسفاره بين المدن.

ولد الجادر عام 1924 والتحق عام 1940 بمعهد الفنون الجميلة وكلية الحقوق في الوقت نفسه. وزّع مستقبله يومها بين طموحين. الفنان لنفسه والمحامي لعائلته غير أن الفنان في النهاية هو الذي انتصر.

المسافر برسومه

حصل الجادر على منحة حكومية لدراسة الفن في باريس. هناك وجد ضالته الفنية وهو الذي شغف برسوم الانطباعيين الكبار.

عام 1954 تخرج من البوزار وحصل على درجة الدكتوراه وكان موضوعها “المخطوطات العراقية المصورة من فترة القرون الوسطى المحفوظة في المكتبة الوطنية بباريس”.عام 1955 إثر عودته إلى بغداد أقام الفنان معرضه الشخصي الأول الذي ضم 126 لوحة هي حصيلة نتاجه الفني أثناء إقامته بباريس وجولاته في الأرياف المحيطة بها.

في ذلك المعرض بدا واضحا أن الجادر عثر على لغته الفنية التي لن يتخلى عنها كل حياته. عام 1959 عين عميدا لمعهد الفنون الجميلة وبعد سنتين أصبح أول عميد لأكاديمية الفنون الجميلة التي كان أحد مؤسسيها.

سافر إلى برلين ليقضي سنتين هناك بين البحث والرسم لينتقل بعدها إلى الرياض ليدرس مادة التاريخ في جامعتها وفي عام 1969 أقام معرضا شخصيا في الرياض ضم رسومه التي أنجزها أثناء إقامته في السعودية. كان رساما جوالا يرسم كل ما تقع عليه عيناه، لذلك يمكن اعتبار ذلك المعرض واحدة من أهم الوثائق التي تؤرخ للحياة في ذلك الوقت. حين عاد إلى بغداد أقام معرضه الشخصي الثالث الذي تضمن مشاهد رسمها في باريس وبرلين والرياض وجنوب العراق. بداية سبعينات القرن العشرين انتخب الجادر نقيبا للفنانين العراقيين. بعدها انصبّ اهتمامه على تأسيس اتحاد الفنانين التشكيليين العرب الذي رأى النور ببغداد عام 1973 وكان الجادر أمين سره.

نزهات سارة

في بداية ثمانينات القرن الماضي فقد غادر الجادر بغداد إلى الرباط ليعمل مدرسا لمادة الحضارة العربية الإسلامية في المعهد العالي للصحافة.

ومن الرباط انطلق في اتجاه مدن المغرب فزار فاس ومكناس والدار البيضاء وتطوان لتذهب تلك المدن إلى رسومه التي لم يقم لها معرضا وقد توفّي في الرياض عام 1988.سيكون على دارسي تاريخ الفن الحديث في العراق أن يقفوا أمام فن الجادر باعتباره ظاهرة فريدة من نوعها من جهة تعامله مع الطبيعة مصدرا وحيدا للإلهام. فالجادر لم يظهر عبر سنوات حياته ميلا إلى أن يتخلى عن الطابع الانطباعي الذي طغى على رسومه منذ سنواته الأولى في باريس.

صحيح أنه قد رسم عددا من اللوحات التشخيصية ذات الأسلوب الواقعي غير أن القيام بذلك لم يكن لأسباب جمالية بحتة كما حدث من خلال لوحته الشهيرة عن تأميم النفط.

الجادر لم يجد معنى للرسم إلا من خلال تماهيه مع تفاصيل المشاهد المرئية بكل ما تنطوي عليه المشاهد من لذائذ ومسرات بصرية. لذلك كان في إمكانه أن يرسم المشهد عينه في أوقات مختلفة لتكون الحصيلة لوحات لا يشبه بعضها البعض الآخر. فهو لا يرسم المشهد الطبيعي مجردا من مزاجه الطبيعي.

يرى ولكنه حين يرسم لا يرسم ما يراه إلا متأثرا بعاطفته لحظة الرسم. تلك اللحظة التي غالبا ما تكون مشحونة بالانفعال. وبالرغم من أن الجادر لم يغيّر أسلوبه فإن ذلك لا يسمح بوضعه في قائمة فناني اللوحة الواحدة الذين يقلدون أنفسهم من خلال تكرار ما رسموه سابقا. ففي النظر إلى كل لوحة من لوحاته هناك متعة لا تذكّر بمتعة سابقة. رسومه لا تُملّ بسبب ما تختزنه من عاطفة هي وليدة ذلك الشغف المجنون بالطبيعة.

لقد رسم الجادر الطبيعة بكل تحولاتها كما يفعل الانطباعيون غير أن تلك الرسوم يُمكن أن تُرى من جهة ما تظهره من تحولات العاطفة البشرية.

وهو ما لم يفعله رسام عراقي آخر، بالرغم من أن هناك عددا من رسامي البدايات قد انهمكوا في رسم الطبيعة بتأثير مباشر من الرسام الرائد فائق حسن. غير أن علاقة الجادر بالطبيعة كانت من نوع مختلف تماما. فرسومه كانت عبارة عن نزهات قصيرة وسارة في المنطقة التي تتصل فيها حياته بالطبيعة. شيء أشبه باليوميات. وهو ما يجعلني على يقين من أن دفتر الرسم كان يرافقه أينما مضى.وحيدا في فنه وحياته

إلى جانب تمرسه في تدريس مادة التاريخ، تاريخ الفن بشكل خاص فقد اهتم الجادر بتدريس الفن لذوي المواهب الفنية خارج إطار تدريس الفن الرسمي في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة.

كان مرسمه في كلية الآداب بمثابة مختبر، ضخت نتائجه دما جديدا ومختلفا في الجسد الفني. هل كان الجادر وهو معلم رسم فذ يراهن على الهامش أكثر من رهانه على المركز؟ فنيا كانت صلة الجادر هشة بل ومقطوعة بالمركز بالرغم من أنه قد تسلّم مناصب، كان يبدو من خلالها كما لو أنه يقف في قلب ذلك المركز. فهو الذي لم يتأثر بفنان سبقه لم يترك أثرا منه على فنان لحق به. لذلك كان يأمل في أن يترك ذلك الأثر على فنانين يصقل مواهبهم بيديه. واقعيا فإن تجربته في تدريس الفن لم تؤد إلى النتائج المأمولة. كان خريجو مرسمه يكتفون في أفضل أحوالهم بإقامة معرض أو معرضين ثم يغادرون الرسم من غير شعور بالأسف. وهو ما دفع به إلى اليأس فالتفت إلى حياته التي لم يكن يروق لها الاستقرار في مكان بعينه فسافر بحثا عن حرية، كان في أمسّ الحاجة إليها لكي يشعر من خلالها بمعنى وحدته. مثلما كان خالد الجادر وحيدا في فنه كان وحيدا في حياته.