إيمان البستاني
ولد الفنان خالد الجادر في بغداد عام 1924، وفي عام 1938 ـ 1939 أنهى المرحلة المتوسطة في المدرسة الشرقية، وفي تلك المرحلة وتحديداً في عام 1937 أصدر الأديب اللغوي أحمد حسين المهداوي في المدرسة الشرقية مجلة خطية كان اسمها مجلة (النبع)وكان رسامها المرحوم خالد الجادر، وكانت بداية رسومه بالحبر الصيني والقصبة.. وخلال نفس المرحلة انخرط الجادر ضمن أعضاء جمعية الضاد القومية في المدرسة الشرقية المتوسطة
وفي 30 آذار 1939 شارك الجادر في مظاهرات الفتوة والجوالة من أجل سوريا وفلسطين
وفي عام 1940 ـ 1941 تخرج في الإعدادية المركزية ببغداد، والتحق بعد ذلك في معهد الفنون الجميلة، وكذلك بكلية الحقوق تحقيقاً لرغبة والدته، وخلال فترة دراسته للفنون تأثر بأستاذه فائق حسن.. وبعد أن أكمل دراسته في المعهد عام 1946 واصل دراسته وتخرج في كلية الحقوق ببغداد عام 1947
وكان طيلة تلك الفترة يلجأ إلى الحيلة كي يكمل طريق الرسم.. فكان في الصباح يخرج حاملاً بيده حقيبة كالتي يحملها المحامون ليخدع بها والدته لتظن انه ذاهب لإحدى المحاكم، في حين كان يذهب إلى الثانوية الأعظمية التي عين فيها عام 1947 لتدريس مادة الرسم
بعد تخرّجه في كلّية الحقوق، ومعهد الفنون الجميلة، تقرر في العام 1948 إيفاده لدراسة الفن في باريس، حيث دخل المدرسة العليا للفنون الجميلة (البوزار)، وأثناء دراسته تأثر ببعض أساتذته وببعض فناني المدرسة الانطباعية الحديثة..وكان هذا التأثر مختلطاً بإعجابه وإكباره لما أنتجه الرسامون العظام.. وأثناء دراسته بالبوزار فاز الجادر بالعديد من الجوائز مثل: (جائزة مسابقة العضوية عام 1951، وفوزه بمسابقة لوفران بدرجة امتياز عام 1952، والجائزة الأولى في مسابقة لوفران عام 1953، وكذلك فوزه بالامتياز الأول في مرسم البوزار عام 1953، وحصوله على الجائزة الأولى في قسم الرسم من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة عام 1953، كما أنتخب عضواً في صالون باريس
وفي العام 1954 تخرج في البوزار وحصل على درجة الدكتوراه وكان موضوعها (المخطوطات العراقية المصورة من فترة القرون الوسطى والمحفوظة في المكتبة الوطنية بباريس)، وملخص محتويات الرسالة يتضمن في التقدمة (عرضا تاريخيا للعصر العباسي 750 ـ 1258 م)، ثم الخطوط العريضة الخاصة بالواقع الاقتصادي والازدهار المتميز للواقع الثقافي ومنها دوافع الاهتمام بتصوير المخطوطات
وفي القسم الثاني من التقدمة بحث في مشكلة تحريم الأشكال المصورة في التشريع الإسلامي ومشكلة تحرج رسم الأشخاص كانت ذات تأثير كبير على تطور فن رسم الأشكال والأشخاص وأدى إلى أن ينمو باتجاه الفن الزخرفي واستمر أثر ذلك حتى التاريخ المعاصر.
يقول الجادر في رسالته:.. لم يكن هنالك تحريماً للتصوير في التشريع الإسلامي
وأضيف هنا برهاناً جديداً إلى جانب البراهين العديدة التي جاء علماء ومتخصصين من الذين انكبوا على دراسة مشكلة تحرج التصوير في الإسلام. وبرهاني هذا يتوضح في اكتشاف محراب في بغداد من العصر العباسي وهو مشغول من الحجر وعلى جوانبه منحوتات بارزة تمثل محرابين يحمل كل منهم سيفاً
العودة إلى الوطن بعد عودته في العام 1954 إلى العراق، تم تعيينه مدرساً في كلية الملكة عالية، كما قام بتدريس الرسم وتاريخ الفن في جامعة بغداد، وفي العام 1955 أقام خالد الجادر أول معرض شخصي له ضم 126 عملاً فنياً وعرض هذه المجموعة على قاعة معهد الفنون الجميلة ببغداد
وشملت هذه المجموعة على 46 تخطيطاً فضلاً عن 80 لوحة مرسومة بالزيت وقد تناول الجادر على مسطحات لوحاته تلك، مشاهد من فرنسا وجبال سويسرا وسواحل البحار ومواقع تاريخية وموضوعات تظهر عالم الريف والطبيعة والعمال وكذلك مواضيع اجتماعية..
يشير هذا المعرض بأن د. خالد الجادر قد توصل إلى صياغة لغته الفنية الخاصة واكتسب مفرداته التعبيرية خلال دراسته في باريس وإصراره على إيجاد أسلوبه الخاص
ثمّ عيّن في العام 1959 عميداً لمعهد الفنون الجميلة، وأفاد خلال تلك المرحلة العديد من تلامذته عندما أشرف على مرسمي كلية الملكة عالية ودار المعلمين العالية بالإضافة إلى ذلك رعى معارض سنوية لطلبة تلك المؤسستين، وبهذا الصدد قالت عنه زاهدة إبراهيم:(.. إن خالد الجادر الذي حمل بحق ووعي قداسة وطنه وآلام شعبه العراقي، كان واعياً بما يتركه المبدع من تأثير في صياغة عقول الآخرين)
في العام 1961 أصبح الجادر أول عميد لأكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، وما بين عامي 1965 ـ 1966 عاش في برلين، رسم خلالها موضوعات متنوعة من الطبيعة وسواحل البحر والبشر.. وخلال إقامته أنجز العديد من البحوث والمقالات.
ما بين 1966 و 1969 تعاقد بشكل شخصي مع جامعة الرياض لتدريس التاريخ.. وكان الجادر في هذه المرحلة مهتما بالتراث الشعبي القديم والطراز المعماري التي تحمله البيوت القديمة والقلاع التي تشمخ في الفضاء..
وبائعات التوابل والبدويات في بيوت الشعر - كانت هذه من موضوعات خالد الجادر في معرضه الذي أقيم في جامعة الرياض عام ,1969
عام 1970 قفل الفنان عائداً إلى وطنه، وبعد عام أقام الجادر معرضه الشخصي الثالث، وهو المعرض الأول الذي يقيمه بعد غياب طويل في الغربة، وتضمن المعرض مشاهد كان قد رسمها خالد الجادر في باريس وبرلين والرياض على جانب مشاهد من جنوب العراق وشماله
بعد تلك المسيرة التي قطعها خالد الجادر، طالباً وأستاذاً وعميداً ومؤسساً لأكاديمية الفنون، تم انتخابه في عام 1971 نقيباً للفنانين العراقيين، وقد حظيت جهود الجادر باهتمام وتقدير مختلف الأوساط الفنية، كما كانت جهوده بارزة في المعرض العربي الأول للفنون التشكيلية وكذلك في المؤتمر التشكيلي العربي الأول في بغداد الذي انعقد عام 1973 والذي انبثق عنه اتحاد الفنانين التشكيلين العرب، وكان الجادر أمين سر هذا الاتحاد الذي ضم اثنتي عشر دولة عربية وكان من ضمن فعالياته تنظيم أول بينالي عربي عام ,1973
يقول خالد الجادر: الفن الخالد هو المستمد من شعور الشعب، من شعور الملايين. فليس من السهولة أن يضمحل وينهار انه يحتاج إلى زمن بعيد، وحتى في هذه الحالة فهو يبقى كمرحلة مهمة في تاريخ الأمة
غربة أخرى في العام 1980 غادر الجادر بغداد إلى الرباط - المغرب للعمل في مجال التدريس، حيث أوكل له مهمة تدريس مادة الحضارة العربية الإسلامية في المعهد العالي للصحافة في الرباط، ومن الرباط انطلق الجادر باتجاه مدن المغرب، فزار فاس ومكناس والدار البيضاء وتطوان وغيرها من المدن المغربية، وقد شهدت تلك المدن جانبا من نشاطاته في التعريف بالفن العراقي وفن الواسطي وأثره على الكثير من المدارس الفنية العراقية والعربية.. واهتم الجادر أثناء وجوده بالمغرب بدراسة حياة الشعب المغربي على الطبيعة للإلمام بعاداته وتقاليده.. وكان كثيراً ما يتجول في الأسواق والمناطق الشعبية ليرسم الناس والأحياء وخاصة في المناطق القديمة من المدن المغربية..
وكان أكثر ما ياستهويه رسم حركة الناس في الأسواق والقيصريات والأبنية والأزقة الضيقة القديمة التي تشير إلى ماض عريق ما يزال يحمل ملامح الحضارة الأندلسية
وقد تمكن الجادر في نهاية عام 1983 من رسم ما يقارب 500 لوحة تمثل مختلف جوانب الحياة المغربية.. وتعتبر مجموعة أعماله الفنية التي أنجزها في المغرب وعرضها في الرباط ومراكش، من أهم أعماله من حيث تميزها والتركيز فيها على القيمة التشكيلية من منطلق وظيفتها التعبيرية على صالة المعهد الثقافي الفرنسي ببغداد عام 1972 وكان الدكتور الجادر من ضمن الحاضرين وكان حسين الهلالي ضيفه في تلك الليلة التي ضمت كل من الفنان الراحل قتيبة الشيخ نوري والشاعر الراحل بلند الحيدري، وكان الحديث منصبا على الأزمة القلبية التي حدثت له وكان قلقا بعض الشيء، قال له حسين الهلالي: لماذا هذا القلق يا دكتور الأزمة أصبح لا وجود لها بفضل الله سبحانه وتعالى فرد خالد لا تهمني هذه الأزمة والإنسان معرض لذلك ولا بد من نهاية ومصائر البشر بيد الله ولكم أنا صاحب رسالة فنية وأحمل هم هذه الرسالة التي أوصلت البعض منها هنا وهناك في الغرب والشرق في برلين وباريس وفي بلدي العراق وفي البلاد العربية وفي السعودية بالذات وأخشى من هذا القلب أن يتوقف وأنا بعد لم أكمل هذه الرسالة.
أخيرا توفي خالد الجادر في المستشفى العسكري في مدينة الرياض بعد إجراء عملية جراحية له في القلب في يوم الجمعة 2 ـ 12 ـ م1988، ونقل جثمانه إلى العراق يوم الثلاثاء 6 ـ 12 ـ 2008، ودفن في مقبرة العائلة بمرقد الإمام الغزالي في بغداد، بعد أن قدم للحركة التشكيلية العراقية والعربية الكثير خلال حياته التي ستظل آثارها حية في النفس والذاكرة
وخالد فنان شرقي لا يمكن أن تتصف روحيته وتكوينه بصفات الفنان الغربي، انه يرسم الأشياء من الباطن ويتحد معها بروحه.ويتحدث الجادر عن تجربته وموقفه من عصره ومجتمعه فيقول: (… أنني أحد شواهد العصر أراقب ما هو موجود حولي من طبيعة وشواهد كما أني كثير السفر وتستهويني المشاهد الريفية والآثار وقد نقلت الآثار المعروفة بشكل تعبيري وتأملي..حيث أتأمل الخط واللون والأنشاء التصويري أي أدخل الفكر الى المشهد أيضا …وأن لوحاتي لا تنتمي الى المدرسة الأنطباعية وإنما هي نظرة تعبيرية …أنها مدرسة خاصة فلي اسلوبي).