النقل بين بغداد والكاظمية وبواكير تطويره

النقل بين بغداد والكاظمية وبواكير تطويره

د. قاسم عبد الهادي دايخ

كان اتصال الكاظمية ببغداد دائما ومستمرا بدون انقطاع في العهد العثماني بسبب الاعمال التجارية والسياحة الدينية حيث يتوافد العديد من الناس لزيارة العتبات المقدسة في تلك المنطقة ليس من الولاية بل من جميع انحاء البلاد والدول العربية والاسلامية.

وجاء اول اقتراح للنظر في طرق احسن ونقليات اسهل من الخارج، فلم يتم شيئاً، ففي عام 1856 م سافر رجل فرنسي هو الكونت دي بير ثري من الشام الى بغداد، وكانت نيته منصرفة الى فتح هذا الطريق لتسيير العربات، ووجد ببغداد ان التجار مستعدون لتأسيس الشركة وتمويلها غير ان الوالي نامق باشا لايزال متأثرا تاثرا كبيرا من وجود البواخر الاجنبية في دجلة وسرعان ما اهمل الوالي نامق باشا الموافقة على مثل هذه المشاريع. هذه لامور وغيرها دفعت بالوالي مدحت باشا الى تأسيس شركة تسهل على الناس ذهابهم، فضلا عن المردود المادي، وان فكرة انشاء خط ترامواي بغداد – الكاظمية جاء لتقليل الازدحام، خصوصا في ايام الزيارات، اذ تزدحم الكاظمية وقد شعر الوالي مدحت باشا ان وسائل النقل لا زالت بدائية ولا تسد الحاجة، لذا بذل الوالي مدحت باشا جهودا لتطوير وسائط النقل النهرية والبرية اذ اشار في كلمته التي القاها عند استلامه الحكم في العراق الى اهمية استخدام وسائط النقل لتحقيق التطور الاقتصادي، وتمثلت اولى خطواته في انشاء شركة اهلية، بعد اخذ موافقة الباب العالي تاخذ على عاتقها انشاء خط تسير عليه عربات تجرها الخيول لنقل الركاب بين بغداد والكاظمية لتنشيط الحركة التجارية بين المدينتين. واسس في شهر ايام عام 1870 م خط ترامواي بين بغداد – الكاظمية، ولم يكن ذلك مجرد صدفة بل كان ذلك على اثر دراسة مستفيضة للمشروع من اجل الاستافدة المادية للولاية وخصوصا وان الوالي يدفع الخراج السنوي للباب العالي، لذا قرر الوالي مدحت باشا ان تكون تلك الشركة مساهمة، وقد طرحت اسهم الشركة في الاسواق وكانت قيمة السهم الواحد ليرتان ونصف الليرة، فقدم بعض الاثرياء والتجار على شراء الاسهم وبتشجيع من الوالي، وكتبت احدى الصحف البغدادية عن الموضوع:

«ان اقبال على شراء الاسهم شديد، وان الناس مستمرون عليه والظاهر ان مدحت باشا كان شديد الرغبة في انجاز المشروع.

وعندما تجمع المال الكافي، ارسل الوالي الى احد المصانع البريطانية يطلب منه المواد والادوات لغرض العمل به، وقد مدت سكة لسبعة كيلو مترات بين بغداد والكاظمية ومن قبل عمال عراقيين، وعندما اكتمل المشروع بدأت العربات تجري، ذهل الناس لمنظرها وكانت هذه العربات ذات طابقين من دون سلم ثابت، فيرتقي الركاب الى الطابق العلوي بواسطة سلم متحرك، وكل طابق يتسع لجلوس (18) راكباً فيكون مجموع ركاب الطابقين 36 راكبا، ويزداد عدد الركاب من (70-80) وفي بعض الاحيان يصل الى (100) راكب في ايام الازدحام لاسيما في المناسبات الدينية والاجتماعية، فيضطر كثير من الركاب الى الوقوف طوال الطريق او الجلوس فوق سقف الطابق الاعلى، الامر الذي يؤدي الى انقلاب العربة في بعض الاحيان، ولا يجرها الحصانان الا بصعوبة بالغة، وبرغم من ذلك فان الشركة حققت ارباحا مناسبة مما دعاها الى استيراد اربع عربات جديدة من لندن، اثنان منها لنقل الاحمال، ولاول مرة يحصل ان تقوم الشركة بنقل الاحمال ويصبح عدد عربتها اثنتي عشرة عربة مما ساعد على ازدياد نسبة الارباح من الرأس المال الاصلي.

اما عن بداية الطريق الترامواي حيث تشير احدى الوثائق العثمانية ان محطة الترامواي تمتد من طرف نهر دجلة الايسر وتصل الى الكاظمية، وكانت المحطة الرئيسة لانطلاق الترامواي رأس الجسر العتيق (جسر الشهداء حاليا) محلة الشيخ بشار وتسير نحو الكاظمية في خط واحد يتسع لسكتين، وبعدها يتفرع في خطين للذهاب والاياب والمسير الى (جامع براثا) حيث تتبدل عنده الخيول في الاسطبل المقابل للجامع، وتستمر العربات بالسير الى منطقة (قصر الأيل). وتمثل هذه المنطقة ثلاثة ارباع الطريق وعند قصر الأيل تتوقف العربات حيث يلفت نظر الركاب منظر ذلك القصر لروعته وبعدها يتحد الخطان الحديديان في الكاظمية الى خط واحد للسكتين باتجاه يميل نحو اليمين عند الركن الجنوبي من خان (الكابولي) الى مسافة قصيرة ثم تتسع نهايته عند محطته ومرآبه في الكاظمية. اما بالنسبة للوقت المحدد لانطلاق عربات ترامواي الكاظمية فقد كانت تبدأ بالعمل منذ الساعة السادسة من صباح كل يوم مرآبها الكائن خلف ثانوية الكرخ، حيث شيدت ادارة الشركة بناية كبيرة ذات ثلاثة مرائب لاستيعاب الحافلات (العربات) مع مخزن لمستلزمات الصيانة والتصليح وخلف الادارة اسطبل كبير يتسع لأكثر من (30) حصانا في محطتها في بغداد وكذلك هو الحال في محطتها في الكاظمية عند نهاية سوق الاستربادي، وكان مجموع عربات الترامواي 30 عربة، وتستمر في العمل حتى الساعة العاشرة ليلا تتخللها اوقات توقف معينة في فصل الصيف ظهرا ثم تستأنف العمل عصرا ويعرف سكان بغداد الرحلة الاخيرة من (رنين جرسها) الذي يدقه السائق باستمرار لاعلام الركاب بذلك، بعدها تودع العربات في كراجات والخيول في اسطبلات لترقد وتستريح استعداداً للعمل في اليوم التالي، ومأوى العربات في منطقة الشيخ بشار اما في منطقة الكاظمية فكان مأوى العربات واسطبل الخيل في نهاية سوق الاستربادي، فضلا عن ذلك، فقد تم شراء بعض الدور الواقعة على طريق الترامواي والواقعة بجانب الكرخ ذلك ما اكدته جريدة (زوراء) عندما كتبت ما نصه:

«لا يخفي ان الترامواي الواقعة ما بين بغداد وقصبة الكاظمية قد جرى التطور في ايصال طريقها الى الجانب الكرخي لكن كان تمديد ذلك الطريق متوقف على شراء بيوت كثيرة داخل البلدة وتخريب تلك الدور وتنظيم الطريق.. وتم عمل الطريق وظهرت محسناته وعرفت الاهالي خدمته لسهولة تردد الغادرين والمجبورين على الغدو والرواح من بغداد الى الكاظمية.. فان كثرة الاهالي يضطرون على الذهاب بظهور الدواب الى ذلك المحل».

ويمكن القول ان سرعة الترامواي كانت مقبولة (بحسب مقاييس ذلك الزمان) اذ انها تقطع المسافة بين الكرخ والكاظمية في نصف ساعة وتتحرك عربة واحدة كل ربع ساعة، وبعض الركاب يتهربون عن دفع الاجرة، وكانت ادارة الشركة تجلب (وسائدً وثيرة) تضعها لجلوس الشخصيات البارزة التي لا تملك وسائط النقل ومضطرة للركوب في الترامواي تقديرا منها لمكانتهم الاجتماعية. وعلى الرغم من استعمال وسائط النقل الحديثة، استمر النقل بين بغداد والكاظمية بوساطة (الترامواي) بفعل الاقبال الشديد عليها وقد حققت ربحا وفيرا الامر الذي دفع الشركة الى اجراء تحسينات عليها. كما جلبت عربات اكثر حداثة، حيث تأسس لهذه الشركة مجلس ادارة وسمي (ترامواي شركة) وكان يرأس هذه الشركة عبد الهادي الجلبي وعضوية كل من عبد الرزاق الخضيري وعلي الجلبي ومحمد سعيد الجلبي ويوسف شنطوب، وقد اصدر مجلس ادارة الشركة بيانا بسبب الفيضانات التي كانت تضرب مدينة بغداد بين الحين والاخر وتؤثر على حركة السير ونشر في احدى الصحف البغدادية ما نصه:

«طرق سمعنا ان خط المحجة الحديدي الممتد فيما بين بغداد والكاظمية قد ضرب قسم منه بسبب ما حدث من تعدد فيضان المياه وطغيانها وان المسافرين اذا بلغوا محلا بقرب من الكاظمية ينقلون من عربة الى اخرى وان الشركة قد اعطت قرارا على تحويل ما هو مصادف على اثر ذلك المحل من الخط مقدار المحافظة من استيلاء المياه”. وفي عدد آخر من جريدة الزوراء اصدر مجلس الشركة اعلانا جاء في احد فقراته: “إعلان من مجلس شركة محجة الحديد الكاظمية نعلن لحضرة ارباب حصص ترامواي كاظمية المحترمين قد رأينا لزوم عرض بعض الواجبات الاتي ذكرها التي لايمكن صرف النظر عنها:

اذا لم نتدارك من الان يحصل تعطيل وضرر كلي الى ادارة من المعلوم ان من حين تشكيل الادارة فان العربات مداومة بالسير الى يومنا هذا ووقوفها معالجة.

وقد عانت الشركة العديد من الصعوبات والمشاكل منها سرعة قيادة العربات التي اثرت كثيرا من راحة المسافرين وكانت سببا في كثير من الحوادث، كما عانت من النقص الشديد في وسائل الانارة حيث اقتصرت على الفانوس، فضلا عن ذلك، التعرجات وضيقة في بعض المناطق فاذا ما حدث وسقطت عربة او تعطلت توقف العمل بالخط لمدة من الزمن، وانعدام النظافة في عربات الترامواي، وبرغم من ذلك فان هذا المشروع قد حقق نجاحا، ولكن المشروع تعرض للاهمال والتدهور وقد حاول الوالي ناظم باشا تطوير هذه الشركة وحاول استخدام الطاقة الكهربائية في تشغيل الترامواي تلك المحاولة التي لم يكتب لها النجاح، وفي عام 1912م اسس التاجر البغدادي محمود الشابندر في لندن شركة تنوير بغداد حيث اوكل اليها توليد الطاقة الكهربائية في بغداد واستخدام هذه الطاقة في تشغيل عدد من المشاريع ومنها مشروع الترامواي الكاظمية الا ان المشروع لم ينفذ حتى احتلال بغداد من قبل البريطانيين، فضلا عن ذلك فقد خصصت مبالغ الاوقاف من ارباح الترامواي وتخصيص هذه المبالغ الى الارامل والايتام وكبار السن والمحتاجين على حد قول الوثيقة.

عن / الاوضاع السياسية والاجتماعية للكاظمية في العهد العثماني الاخير (1831 – 1917)،رسالة دكتوراه غير منشورة قدمها هدية الى ملحقنا.