من مذكرات نحاتة عربية..منى السعودي: أحيا لأَنْحت وأَنحت لأَحيا...

من مذكرات نحاتة عربية..منى السعودي: أحيا لأَنْحت وأَنحت لأَحيا...

ها قد مضى أربعون عاما منذ حملتني باخرة من ميناء بيروت لأتوجّه إلى باريس, مدينة الحلم... كنتُ في الثامنة عشرة من عمري, يملؤني حلم أن أكتشف العالم وأن أكون فنانة...

ولدتُ في مدينة عمّان عام 1945, وكانت عمّان في ذلك الوقت مدينة صغيرة تتألف من عدة تلال متداخلة, بينها وديان يجري بها سيلُ ماء تنتشر على جانبيه الينابيع والعديد من المواقع الأثرية...

كان بيتنا يقع قرب سبيل الحوريات وهو بناء روماني, يبدو كقلعة مستديرة الجدران, وفي ساحته ترتفع أعمدة منقوشة كانت تشكل أيضا ساحة بيتنا الأمامية... كنّا عائلة كبيرة في هذا البيت الذي يسكنه أبي وأعمامي, وكانت اللهجة الشامية هي اللهجة السائدة بين الجميع, إذ كانت العائلة قد هاجرت من دمشق واستقرت في عمّان في أواخر القرن التاسع عشر...

عشتُ طفولتي بين هذه الحجارة المنحوتة, مسحورة بجمالها وديمومتها, خاصة بقايا التماثيل التي كانت مبعثرة في ساحة المدرج الروماني, الذي كان أحد ملاعب الطفولة, وكنت أترك أصدقائي الصغار لألعب مع التماثيل, أتحاور معها, أتأمل ثناياها, وصناعتها, وكنتُ أشعر أنها مخلوقات صامتة مليئة بالحياة... لقد أعطتني هذه المواقع الأثرية الأسطورية الشعور بقدرة الإنسان على إبداع أعمال عظيمة تبقى على مدى الدهر...

وهكذا بدأت تتكون أحلامي...

البدايات

شغلتني في هذه الطفولة أسئلة ميتافيزيقية عن الخلق والتكوين, من أين نأتي وإلى أين نذهب, وعرفتُ الموت باكرا بفقدان أخي فتحي, وكان شابا مولعا بالأدب والشعر, قرأ لي جبران خليل جبران, وأخبرني عن احتلال فلسطين, وحكى لي قصة جلجامش. وكان هذا الأخ نسيجا مختلفا في عائلتنا التقليدية... كنتُ في العاشرة من عمري حين فقدته, أخذه الموت بعد مرض طويل, ورأيت وجهه وكأنه ينام مبتسما, وهكذا عرفت أن الموت نسيج الحياة, وأن الزمن الذي نعيشه هو رحلة على هذه الأرض الوافرة العطايا, وأن الحياة تستحق التمجيد, ولكي نمجد الحياة ونكون فيها نبضا حيا علينا أن نأخذ طريق الفعل والحلم, ونكون الكلمة الصافية الصادقة والجريئة.

كان من حظي أن أذهب إلى مدرسة بعيدة عن البيت, فقد أتاح لي ذلك أن أمشي على قدمي يوميا للذهاب والعودة, وكنت أترك الطرق المعبدة وآخذ طرقا ترابية تصعد عبر تلال عمان اللولبية, وكانت سفوح الجبال حقول حنطة أحيانا, أو بقايا مقالع قديمة, والمشي يولد صداقة مع الأرض والشجر والحجر والناس والطبيعة, وهو مسافة للحلم والتأمل. وبدأت أتأمل جسد الأرض, جسد الحياة, ومنابع الإبداع عبر قراءات في كتب الفن والشعر الحديث, جذبتني الفلسفة البوذية, ومن الكتب التي أثرت بي وكنت ما أزال في الصفوف الثانوية, كتاب (اللاّمنتمي) لكولن ولسون, إذ تعرفت عبره إلى نماذج من المبدعين, كتابا وشعراء وفنانين ممن تركوا أثرا عميقا في تكوين الثقافة الإنسانية...

في تلك السنوات وكنت ما أزال في الصفوف الثانوية, بدأتُ أولى محاولاتي في الرسم والنحت, وبدأ الحلم بالسفر في العالم الكبير, من أجل أن أعيش وأتعلم وأعرف... وكانت مدينة باريس هي الحلم الذي أقصده...

أولُّ السفر

كانت محطتي الأولى بيروت عام 1963, حيث أنهيت دراستي الثانوية في إحدى مدارسها, وكان لي فيها أول لقاء مع النحت الحديث بالتعرف إلى أعمال النحات ميشيل بصبوص في قرية راشانا. وأقمت أول معرض لرسومي في (مقهى الصحافة), الذي كان يشكل منتدى ثقافيا في الطابق الأرضي من مبنى جريدة النهار, وفي بيروت المتميزة دائما بحيويتها الثقافية, تعرفت على العديد من الفنانين والكتاب والشعراء, ومنهم أصدقاء العمر, أدونيس, بول غيراغوسيان, حليم جرداق ونزيه خاطر... وكنتُ بالنسبة لهم الأردنية الآتية من الصحراء. كان معرضي الأول إشارة ناجحة, مقابلات صحفية, وبيع مجموعة من الأعمال استطعت من ثمنها شراء بطاقة سفر لمواصلة الطريق... ولم تكن عائلتي التقليدية راضية بهذا التوجه.. وقررت أن أعتمد على نفسي وأحلامي.

باريس.. مدينة الحلم

في شتاء 1964 أخذت الباخرة من ميناء بيروت نحو مدينة الحلم, باريس, عاصمة الفن وعاصمة الدنيا, في متاحفها فنون كل القارات وكل الأزمنة, وفي شوارعها يختلط الناس من كل الألوان والأجناس... فضاء نابض بالفن والجمال والحياة والحرية.

بدأت فور وصولي الدراسة في المدرسة العليا للفنون الجميلة, وكان منهج التعليم يرتكز بشكل أساسي على دراسة جسم الإنسان, عبر نحت ورسم الموديلات الحية أو التماثيل القديمة. بدأت أكتشف العلاقة بين عري الإنسان وعري الطبيعة, بين جسد الإنسان وجسد الأرض, أتعلم أن الإنسان مركز الكون وأن في الجسد الإنساني أسرار ومبادئ الحركة والتكوين والامتلاء والفراغ والتناسق والنور والظل ودرجات اللون. وتذكرت قول الشاعر:

وتحسب أنّك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

تقع مدرسة الفنون على طرف نهر السين, وكان يكفي عبور الجسر إلى الضفة الأخرى لأجد نفسي في متحف (اللوفر) حيث تسكن التماثيل العظيمة... وهناك اكتشفت فنون حضاراتنا القديمة, والتي شعرت بعمق انتمائي لها.. سحرتني المنحوتات السومرية والمصرية والأنصاب النبطية المنقوشة بالكتابات, رأس الملك (غوديا) مهندس مملكة سومر... وكنتُ ألمس على الحجر أيدي نحاتين من بلادي صنعوا منذ آلاف السنين هذه الأعمال المجيدة.. ورأيت أني أنتمي لرؤيتهم الفنية: خطوط صافية تحدد أشكالا خالصة مختزلة, المنحوتة ليست نسخا عن الطبيعة بل إعادة تكوين, هي الخارج والداخل معا, لها هندستها ومقاييسها ونسبها الخاصة بها كعمل فني... وحضورها إضافة لما هو على الأرض.. منحوتات للتأمل الدائم توحد بين الحركة والسكون, بين المرئي واللامرئي.

أحببتُ المنحوتات الأتروسكية, والمرحلة اليونانية القديمة ومنحوتات سكان جزر المحيطات البعيدة, وعرفتُ كيف حدثت ولادة فن القرن العشرين عبر التأثر بمبادئ التجريد والرمزية والاختزال التي مارستها فنون الحضارات الشرقية والإفريقية... والتي حررّت الفن الغربي في القرن العشرين وفتحت أمامه آفاق المغامرة الحرّة في التشكيل...

في متحف الفن الحديث وصالات العرض الباريسية كان يمكن تأمل أعمال بيكاسو وميرو وفان جوخ وجاكوميتي وكالدر, وبرانكوزي الذي أعتبره معلمي وملهمي...

هكذا بدأت حياتي الفنية بمرافقة هذه الأوركسترا الفنية الكبيرة... كنت أتابع أيضا قراءاتي في الشعر خاصة أدونيس وريلكه وهولدرلن... أتعرف إلى كتابات التصوّف حيث جذبتني فكرة وحدة الوجود... أيضا عشقت الموسيقى الكلاسيكية وكلها روافد ضرورية للروح, ولوعي الذات.

أول منحوتة: أمومة الأرض

من بين مواد النحت العديدة, اخترتُ الحجر, مادة الأرض الأولى.. عام 1965 صنعتُ أول منحوتة من الحجر أسميتها (أمومة الأرض), تركتُ ضربات الإزميل الخشنة على جسد المنحوتة, والتي كانت تتألف من كتلتين بينهما فراغ يسكن فيه شكل كروي, ومن هذه المنحوتة التي تلتقي مع منحوتات حضاراتنا بدأ بحثي الخاص.

شعرت بأني أجد أشكالي وطريقي, عبر اختزال الأشكال, استداراتها, تمحورها حول المركز, نموّها, عرفت كيف ينبض الحجر ويحيا, وبدأت رحلتي في اكتشاف لذة تحويل الحجر إلى منحوتة, ودخلت عالم البحث في الشكل... هذا البحث المتوالد الغامض.

النحت بالنسبة لي هو بحثٌ في الشكل, وهو بحثُ وتوليد لامتناه, لأن إمكانات التشكيل لا متناهية, وإن كنّا قد تعلمنا أن العالم قد تكوّن وانتهى, فقد علمني النحت أن الحياة والكون هما في استمرارية التكوين الدائمة, حتى أني عشقت كلمة (تكوين) وبدأت أمنحها للعديد من منحوتاتي.

في المحترف الذي عملت فيه في مدرسة الفنون وهو محترف النحات كولاماريني, كنا عائلة من النحاتين الذين اختاروا النحت المباشر في الخشب أو الحجر, وكانت مطارقنا جميعا تعمل في تشكيل المادة عبر تعرية الكتلة للوصول إلى المنحوتة... كل يعمل بأسلوبه الخاص, كنتُ العربية الوحيدة بين آخرين من اليونان وأمريكا اللاتينية وإسبانيا واليابان ورومانيا وأوكرانيا... وكنّا في ذلك المحترف نشكل أممية من النحاتين, وقد واصلنا جميعا النحت باحتراف بعد المرحلة الدراسية, واحتفى بنا أستاذنا بإقامة معرض عام 1972 في متحف رودان عنوانه (كولاماريني وتلامذته).

في ذلك العام أيضا شاركت بمعرض (صالون مايو) في متحف الفن الحديث في باريس, وكان يعتبر ملتقى سنويا لعرض إنتاج الفنانين المعاصرين, وكان منهم بيكاسو وميرو وجاكوميتي, وكان يسمح للفنانين الناشئين بالمشاركة في المعرض بعد أن تمر أعمالهم على لجنة خاصة, وأذكر أني شاركت بعمل من الرخام الأبيض المصقول, وكم كانت دهشتي حين قرأتُ اسمي وإشارة إلى عملي في مقال كتبه أحد النقاد في مجلة (الآداب الفرنسية).

إيطاليا - كرارا.. جبال المرمر

صيف 1967, إثر الجروح التي سببتها نكسة يونيو, سافرت إلى إيطاليا, قضيت بضعة أشهر في معامل النحت في كرارا, وتعلمت من العمال المهرة هناك أسرار استعمال الإزميل والمطرقة الهوائية, صقل الرخام واستعمال الرافعات الآلية, وتعرفت إلى العديد من النحاتين الذين يقصدون مدينة الرخام من جميع أنحاء العالم...

باريس.. مايو 68

عشت في باريس أحداث (الثورة الطلابية) عام 1968, وشاركت في مظاهرات الحيّ اللاتيني, وإنتاج الملصقات التي كانت توزع يوميا وتلصق في كل مكان في المدينة, وكانت تجربة عميقة فتحت أمامي مجال الوعي الثقافي والسياسي, ووظيفة الفن وعلاقته بالمجتمع والسلطة, وسيطرة الغرب على العالم الثالث, تعددية الثقافات, حرية التعبير والتغيير, الدفاع عن القضايا الإنسانية, وكانت قضية فلسطين واحدة منها... وانتهت الأحداث ذات ليلة بالسيطرة على الجامعات وإغلاقها... وحينها شعرت برغبة عميقة في العودة إلى الوطن لأكون جزءا من حركة تغيير في مجتمع أكوّن جزءا من نسيجه... وأن البلاد التي أنتمي إليها بحاجة لأن أشارك في تحولاتها...

عرفت أن الغرب لا يتفوق على الشرق لا إنسانيا ولا إبداعيا... وأذكر أني فكرت أثناء إحدى المظاهرات أن أعود للعمل في أحد المخيمات الفلسطينية في الأردن والتي أقيمت بعد نكسة 67 وقد تحدثت بذلك مع الفنان التشيلي ماتا والذي تعرفتُ إليه من خلال مواقفه التقدمية وكان من أشهر الفنانين في ذلك الوقت, وشجعني على توجهي, وهكذا عدت إلى عمان في خريف 1968, وبدأت فورا العمل مع الأطفال في مخيم البقعة, ومن هذه التجربة التي استمرت بضعة أشهر أعددت كتاب (شهادة الأطفال في زمن الحرب) الذي صدر في بيروت عام 1970, وكان أول عمل من نوعه على الصعيد العالمي... أما إقامتي في الأردن, فلم تكن طويلة, إذ شعرتُ بأن الحياة الفنية والثقافية على شيء من الركود, وأحسست بحاجةٍ للعيش في مكان أكثر حيوية وديناميكية وحرية لإنضاج تجربتي الفنية, فغادرت للعيش في بيروت التي كانت تعتبر الملتقى الحيّ للثقافة العربية... وأعتبر دائما أن العالم العربي بامتداده هو وطني...

بيروت

أعيش في بيروت منذ عام 1969, حيث بدأت منحوتاتي تنمو بعفوية, تركتُ نفسي تبلور أسلوبها ولغتها التشكيلية عبر العمل, وأنا مدينة دائما للكتاب والنقاد في لبنان الذين اهتموا وكتبوا عن أعمالي, ولم تقتصر كتاباتهم في إضاءة عملي بالنسبة للقراء فقط بل شكّلت لي أحيانا نقاط تأمل وكشف أعيد عبرها قراءة أعمالي...

من هؤلاء الكتاب أخصُّ خالدة سعيد, نزيه خاطر, سمير الصايغ, جوزيف طراب, كمال أبو ديب, وآخرين...

أبحث دائما عن الشكل النقي الخالص, لا أحبُّ الصراخ في الفن, لا أحبّ المأساوية ولا التعبيرية المباشرة, لا أحبُّ النحت الذي يشوّه شكل الإنسان, أيضا لا أحب المواد البلاستيكية ولا المواد المصنعة, ولا التركيبات السريعة الزوال... أكتفي بالحجر الذي بإمكانه أن يأخذ أي شكل, ويقبل المعالجة بكافة الأدوات من المطرقة والإزميل إلى أحدث الآلات... الحجر القديم الجديد, الساكن, والمتحرك...

في أحد معامل الرخام البيروتية وجدت رخاما أخضر سحرني, قالوا لي أنه يأتي من الأردن, فأحببته أكثر لأنه ينتمي لأرض ولادتي, نحتُ في هذا الحجر امرأة مجنّحة, ثم أمومة الأرض, وأمواج البحر وأكثر من عشرين عملا على توالي السنين كان آخرها في عام 2003...

نون إنسان

عام 1981 عملت أول منحوتة بحجم كبير, ارتفاعها 225سم, وكانت بوحي مقال لصديقي كمال بلاطة عن كلمة (إنسان)... وقد اخترت حرف النون لكونه حرفا بخطوط دائرية تتمحور حول نقطة, والمنحوتة تتكون من ثلاث قطع تشكل الماضي والحاضر والمستقبل في بناء عمودي. أسميتُ المنحوتة (تنويعات على حرف النون).

اشتغلت هذه المنحوتة في أحد معامل الرخام في بيروت, ونقلتها إلى عمان عام 1983, إذ إن العديد من منحوتاتي تحطمت أثناء الحرب الأهلية الطويلة في بيروت... وقد مرّت هذه المنحوتة بأحداث كثيرة وعاشت حياة صعبة, إلى أن استقرت في الصيف الماضي أي عام 2003 في حديقة السفارة الفرنسية في عمّان... وفرحتُ أني وجدت لها بيتا يُعنى بها...

( أفكر أحيانا بتأليف كتاب أشبه بمذكرات للمنحوتات منذ كانت حجرا...) .

النهر

منحوتة من الجرانيت الأزرق أنجزتها عام 1983, دائرة قطرها حوالي 1.5م ويعود الفضل في إمكان إنجاز هذه المنحوتة للدكتور أحمد الجلبي, والذي كلّفني بعمل ثلاث منحوتات, وترك لي الحرية المطلقة في عمل ما أريد... ومنحوتة النهر تنتصب حاليا على مدخل بنك القاهرة في عمان, وقد أنجزت هذه المنحوتة من دون أي أفكار مسبقة, وانطلقت من شكل دائري, ثم جرى فيه شكل النهر, بعدها كانت الأجنحة... وتركت جزءا من المنحوتة على خشونة طرق الإزميل, وصقلت جزءا آخر منها بحيث تولّد اختلاف كبير في اللون... أما النهر في المنحوتة فهو نهر الأردن, والجناحان هما الضفّتان: الأردن وفلسطين...

دائرة الأيام السبعة

منحوتة من الجرانيت, أنجزتها عام 1986, بتكليف من عبد المحسن قطان, والذي قدمها هدية لجامعة العلوم والتكنولوجيا في شمال الأردن... والمنحوتة عبارة عن قرص دائري مشقوق في الوسط, بحيث يتقدم نصف الدائرة إلى الأمام ونصفها الآخر إلى الخلف, وهذه المسافة توحي بالبعد الزمني في المنحوتة, يتوسط المنحوتة فتحة دائرية تعبرها عموديا سبع مسننّات وفراغاتها وهي دائرة الأيام السبعة.. إحدى الوحدات الزمنية التي نعيش فيها... وعلى الرغم من أن وزن المنحوتة النهائي حوالي ستة أطنان فإن بوسع طلاب الجامعة جعلها تدور حول محورها بتحريكها باليد, مما يخلق حوارا بين المشاهد والمنحوتة. والقدرة على تحريكها يمنح شعورا بالدهشة والفرح...

هندسة الروح.. معهد العالم العربي

منحوتة من الرخام بارتفاع ثلاثة أمتار, وكانت هدية الأردن لمعهد العالم العربي في باريس, أنجزتها عام 1987, وتم نصبها في ساحة المعهد في يوم شتائي عاصف... والمنحوتة مستوحاة من الأنصاب النبطية ولكن بمعالجة تشكيلية هندسية حديثة, حيث عملت على إيجاد تقسيمات في أبعاد الكتلة طولية وعرضية هي أقرب ما تكون إلى تقاسيم الزمن في التأليف الموسيقي, وتداخلت في المنحوتة تموجات الماء والصحراء وولادة القمر هلالا... وكان العمل أشبه بتقاسيم على الحجر, وأسميت المنحوتة (هندسة الروح), وهو ما يلخص رؤيتي إلى أن أي عمل إبداعي هو تكوين هندسي كما هو روحاني... والروحي هنا بالمعنى الإنساني الأرضي حيث تمتزج القداسة بالموجودات والكون والطبيعة...

الإيمان

لكي تكون نحاتا ينبغي أن يكون لديك الإيمان, لا أقصد هنا الإيمان الديني, ولكن الإيمان الذي يجعلك تهب نفسك صافيا لهذا العمل, وما يحيط به من جهد وصعوبات عملية وتحديات, وساعات طويلة من العمل أياما وشهورا لتحقيق منحوتة ما.. يتطلب أيضا العزلة والتخلّي والسفر في الداخل... المنحوتة تلد الأخرى, وعناصر اللغة التكوينية تتكرر وتتغير وتتوالد وتتوالى, من حجر أبيض إلى حجر أسود أو أصفر, يكون النحاتُ مأخوذا باكتشاف الأشكال وصياغة النبض الحيّ...

وكأنّ النحت تجسيد للسر والغموض..

كأنه جسد للشعر والروح..

وهو سفرٌ في اللامرئي...

الشّعر

أكتب الشعر أحيانا, وقد أصدرت مجموعتين,(رؤيا أولى) عام 1970, (ومحيط الحلم) عام 1993, وقد غمرني الناقد جبرا إبراهيم جبرا بالمقدمة التي كتبها لمحيط الحلم وجاء فيها: (... وتأتي قصائدها ضربا من البرهان على مصداقية رؤيتها النحتية... فهي إن تكتب كنحاتة يسكنها همّ تحريك الحجر وإشاعة الحسّ والنبض في كل جزء منه, فإنها تكتب أيضا كشاعرة يسكنها همّ الكلمة التي تجوهر ذلك الحب القصّي في الدواخل, الذي يحاول أن يدانيه تعبيرا ما تنحت من هذا الحجر)...

إن ما أكتبه عادة يتداخل مع تجربتي النحتية, أما محبتي للشعر كقارئة فإن من الشعر ما دفعني لعمل رسوم تنبع من إيحاءاته, ومنها رسوم لقصائد أدونيس ومحمود درويش وراشد حسين ومعين بسيسو, هي عادة رسوم بالأبيض والأسود, ذات خطوط واضحة وأشكال شبه تحتية...

إن كل ما أنتجه يتجه في النهاية لأن يكون نحتا..!

الماء

مجموعة من المنحوتات أعمل فيها في الوقت الراهن, هي منحوتات تستوحي الماء, هذا السائل الحيّ الذي يعطي الحياة ويأخذ كل الأشكال, ويتحد الماء هنا بالإنسان والتاريخ, أسمّي هذه المنحوتات (امرأة / نهر), أو امرأة/ماء, أو (مسلّة النيل)... وهو العمل الذي شاركت به أخيرا في بينالي القاهرة, وأهديته لوزارة الثقافة المصرية, ليكون نموذجا لمسلّة عالية أحلم بعملها قريبا لتكون في مكان عام في مدينة النيل... وهكذا يستمر حواري عبر النحت, مع الحاضر والماضي والمستقبل...

حديقة الحجر والنارنج

المكان الذي أسكنه يكون عادة محترفي حيث أعمل, محترفي في بيروت هو بيت قديم محاط بحديقة تنمو فيها أشجار النارنج والسرو ونباتات الصبار والياسمين, بين هذه النباتات تحيا المنحوتات منها (العاشقة), و(الفجر) و(شجرة النون) و(النورس)... أحتفظ أيضا ببقايا منحوتات حطمتها قذائف الحرب الأهلية, جزء من الحديقة أستعمله كمحترف, يحتوي على حجارة من كل الأنواع والألوان, رخام أخضر من الأردن, رخام إيطالي, حجر أصفر من لبنان, ورديّ من الأردن, أزرق من البرازيل, حجارة هي مادة الأرض الأولى, أفرحُ بتكوينها نحتا, وأسعدُ بصداقتها وتكاثرها...

أعمل عادة في ساعات النهار, لمعالجة تكوين النحت في سقوط الضوء الطبيعي.. حيث يتآخى الضوء مع الحجر, ويتكون نشيدي الحجري بين مطرقة الروح ورنين الإزميل... عزفٌ يولد من الحجارة مخلوقات تسعى في الأرض.

أعيشُ دائما بين منحوتاتي, تتناثر حولي, أحيا بها وتحيا بي... أتأملها كمخلوقات أليفة, أعرف كل لحظة في تاريخ تكوينها, منذ كانت حجرا في مقلع أو معمل, على طرف جبل أو في مجرى نهر... وباختصار يشكل تنوعها وتسلسلها تاريخ حياتي...

حين اخترتُ أن أكون نحاتة, اخترت طريقة في الحياة... ولكي تكون نحاتا ينبغي أن تكون عاشقا للأرض وما عليها...

لقد أنجزتُ خلال هذا الزمن مئات المنحوتات, إلا أني ما زلت أشعر بأنّي في بداية الطريق, وأن مخيلتي مليئة بالتكوينات, وأن الحجارة مازالت حبلى بأشكال ستولد في الأيام القادمة...

مجلة العربي العدد 550