فرج ياسين
تحدر فن المبدع الراحل محمود جنداري من منجز جيل الحساسية الجديدة في القصة العراقية التي شهدت تفجرا لافتا في عقد الستينيات وكان دوره – مع نخبة من زملائه – قد ناء بمهمة تصعيد اثر التحولات المواكبة لمسار ثقافي كوني ، اختمرت فيه تجارب اصيلة ، مثل :- الادب الاشتراكي والوجودي والعبثي فضلا عن بزوغ ادب اميركيا اللاتينية الذي هشم الثوابت واعاد الاعتبار الى سلطة الحكاية على حساب ضمور المهيمنات الأيدلوجية والسياقية في السرد .
واذا كان جميع قصاصي هذا الجيل قد بدأوا بالتاثر والتقليد فان بعضهم اخذ على عاتقه الخوص عميقا في مياه التجريب عبر اللغة الخاصة والرؤيا .. ولكن محمود جنداري اختار طريق الاختلاف (وليس المخالفة) اذ كان في قصص (مجموعة الحصار) مستغرقا في التجديد من داخل الرؤيه السياقية للنوع القصصي ،و لم يغادر تقاليد القصة العربية في منجزها التفجيري منذ الخمسينيات ، اما في مجموعة (عصر المدن) او (مصاطب الالهه) فكان رائيا وصانعا خلاقا، لايرتكز على موروث منهجي بل ابدع منهجية متفردة ، ذات صوت خاص ، عصي على المحاكاة .
في هذه القصص يعيد محمود جنداري تفكيك التراث ويجرد الأخبار والمرويات والأساطير من تماسكها السياقي ثم يقوم بتركيبها من جديد ، اذ ترتب على كل (منقول) ان يغادر اصالته وينخلع من جداره لينتظم في كيان جديد، يمسى نصا ، او خطابا سرديا مولدا .
ان تجاور المرويات وتراكمها في معترك سردي لايمر من دون ان يحتويه منظور عميق الدلالة غالبا ماكان يبرق الى المتلقي قسوة او جورا او اعتراضا او سخرية او فتنة او محبة او هزيمة او موتا على الصعيد الرمزي .
ان نص محمود جنداري المتفرد لايقاس بالنص المالوف ولايخاطب بالطريقة المالوفة مع انه يحافظ على تماسك شديد الخصوصية في بنائه الداخلي .
لقد اتيح لي الاشتغال على بعض قصصه في رسالتي الجامعية (توظيف الاسطورة في القصة العراقية 1996 والصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة 2000) ولاسيما قصص( زو – العصفور الصاعقة) و(مصاطب الالهه) و (القلعة) و(امواج كالجبال) فاكتشفت انه برع في تخصيب جماليات الاسطورة الاصلية في النص القصصي من خلال استثمار تقاناتها الملازمة لشكلها البنائي ، وهي التكرار والشعر والحوار والقطع والاستطراد والتناص وغيرها ، ومنذ ان خطف الموت صوت الراحل الكبير محمود جنداري لم يقو احد على خرق خصوصية فنه القصصي الذي كان علامة فارقة لعقد التسعينات من القرن المنصرم وهذه سيمة خاصة جدا يقاس بها التفرد في الابداع واحسب انه كان سيعمل على تطوير ذلك النهج المميز لو لم (يشرق) قلبه الطيبب بجرعة فرح كان يقف – في انتظارها – على رصيف كالح لما يربو على خمسة عقود عجاف.